شعار قسم ميدان

محيط جديد يشق أفريقيا.. كيف تعيد الزلازل تشكيل جغرافيا الأرض؟

The Afar Triple Junction is located along a divergent plate boundary dividing the Nubian, Somali, and Arabian plates in Djibouti
الزلازل ليست فقط مجرد كوارث قاتلة، فحينما تهتز الأرض بسبب الزلازل، خاصة القوية منها، فإن تأثيرها يتجاوز المباني والبشر ويمتد إلى جغرافيا الأرض نفسها. (شترستوك)

لا يكاد يمر يوم منذ ضُربت كلٌّ من تركيا وسوريا بزلزالين كارثيين في السادس من فبراير/شباط الحالي دون حديث يغلب عليه الهلع عن الزلازل وأخطارها وتأثيرها، خاصة بعد أن عرف الناس أن الأرض تتعرض لمئات الزلازل المؤثرة سنويا، وأن بلادهم تعلن من حين إلى آخر عن زلزال خفيف إلى متوسط، وربما شديد لكنه يضرب مناطق غير مأهولة، لكنهم فقط لم يكونوا مكترثين بما يكفي. (1)

 

لكن على عكس ما يتصور البعض، فإن الزلازل ليست فقط مجرد كوارث قاتلة، فحينما تهتز الأرض بسبب الزلازل، خاصة القوية منها، فإن تأثيرها يتجاوز المباني والبشر ويمتد إلى جغرافيا الأرض نفسها. في الحقيقة، لعبت الزلازل دورا في تشكيل الأرض على مدار ملايين السنين، لأنها ببساطة ليست إلا عرضا للعديد من التغيرات في جيولوجيا الأرض مثل تحركات الصفائح الأرضية التي تصنع بدورها تغيرات في تدفق المياه الجوفية، الأمر الذي يمكنه على المدى الطويل إعادة تشكيل مناطق مهمة على سطح كوكبنا. (2)

صورة قريبة للصدع الأفريقي
صورة قريبة للصدع الأفريقي. (مواقع التواصل)

وفيما يبدو فإننا على مدار السنوات الماضية وحتى الآن نشهد أحد تلك التغيرات الكبرى، لكنه يحدث ببطء شديد. بدأ الأمر عام 2005، حين رصد العلماء صدعا عملاقا طوله أكثر من 50 كيلومترا في الأرض الصحراوية بإثيوبيا بفعل النشاط الزلزالي والبركاني، في ذلك الوقت اقترح فريق من علماء الجيولوجيا أن هذا الصدع سيكون بداية لظهور محيط جديد يقسم قارة أفريقيا إلى قسمين، ولكن هذا الاقتراح حينها ظل مثارا للجدل.

 

ولكن في عام 2009، نشرت مجلة "جيوفيزكال ريسيرش ليترز" (Geophysical research letters) دراسة تؤكد أن الصدع الصحراوي الأفريقي هو محيط جديد قيد التكوين (3)، حيث أكد باحثون وعلماء من عدة دول أن التفاعلات البركانية تحت الصدع الإثيوبي مماثلة لتلك الموجودة تحت بقية المحيطات في العالم، ما يعني أن تلك المنطقة تخضع لتحوُّل شبيه.

هل تشهد أجيالنا محيطا جديدا في أفريقيا؟

ولكن ما وجده الباحثون في هذا الصدع كان مثيرا للمزيد من الاهتمام، وجعله محلا للدراسة حتى وقتنا هذا، حيث إن هذا الصدع تحديدا لم يتشكَّل خلال سلسلة من الزلازل الصغيرة على مدى فترة طويلة من الزمن، وهو المعتاد في حالات كتلك، لكن معظمه حدث في أيام قليلة فقط، حيث اندلع في الطرف الشمالي منه واندفعت الصهارة عبر منتصف منطقة الصدع وبدأت في الضغط على الصدع في كلا الاتجاهين، ما أدى إلى توسيع مساحته. (3)

صورة توضح شكل قارة أفريقيا بعد الانقسام.
صورة توضح شكل قارة أفريقيا بعد الانقسام. (مواقع التواصل)

إنها الطريقة نفسها التي تكوَّن بها -على سبيل المثال- المحيط الأطلسي، وما زال إلى الآن يتوسع بمسافة مقدارها أكثر من 20 سنتيمترا سنويا، حيث تبتعد الصفائح التكتونية عن بعضها بعضا، وفي مرحلة ما تخرج الصهارة الساخنة من باطن الأرض لتغطي موضع ابتعاد الصفائح التكتونية، ثم عاما بعد عام تتسع المساحة، حيث يُعتقد أن قارات أفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية كانت يوما ما ملتحمة، ولم يكن هناك محيط أطلسي قبل مئات الملايين من السنين.

 

على عكس ما نعتقد، فإن الأرض كتلة مرنة، وغلافها الصخري ليس مجرد كرة ثابتة صامتة، بل يتكون من قطع تشبه في تداخلها معا قطع الأحجية أو البازل، تلك التي يتطلب الأمر أن تجمعها معا لتصنع صورة حيوان ما مثلا أو مشهدا من الطبيعة، تسمى تلك القطع المتداخلة بالصفائح التكتونية، وهي ليست ثابتة، بل تتحرك بالنسبة لبعضها بعضا ببطء شديد، نحو 1-20 سنتيمترا في السنة.

 

هذه الصفائح التكتونية هي السبب في الزلازل، حين تحتك معا بين الحين والآخر، ولذلك فإننا نجد أن الزلازل تشيع في أماكن لقاء الصفائح التكتونية ومنها بلاد مثل تركيا وتشيلي واليابان وإندونيسيا وغيرها، أضف إلى ذلك أن تلك الصفائح هي أيضا السبب في تشكُّل جغرافيا الأرض على مر الزمان، وتشير نظرية الانجراف القاري إلى أن قارات الأرض كانت يوما ما قارة واحدة سُميت "بانجيا"، تقف كجزيرة هائلة في محيط شاسع جدا.

قارات الأرض كانت يوما ما قارة واحدة سُميت "بانجيا"
قارات الأرض كانت يوما ما قارة واحدة سُميت "بانجيا". (مواقع التواصل)

تجدر الإشارة إلى أن تلك التغيرات تحدث ببطء يُقدَّر بجزء من البوصة في السنة، ما يعني أننا بحاجة إلى ملايين السنين لنصل إلى مرحلة يمكن خلالها أصلا أن نلاحظ وجود انشقاق كبير يكفي لمرور المياه في هذا المكان، فما بالك بتكوُّن محيط! وهذا يعني أن أجيالنا والأجيال التي تليها في القرون القادمة قد لا تشهد حتى تحرُّكا واضحا لهذا الصدع. (4)

مسار الصدع على الخريطة مرسوم بالخط الأحمر
مسار الصدع على الخريطة مرسوم بالخط الأحمر. (مواقع التواصل)

 

البحر الأحمر.. وليد الهزات الأرضية والزلازل

حسنا، إذا كنت تعتقد أن أمرا مستقبليا كهذا صعب التصور فدعنا نخبرك عن أمر تعرفه بالفعل، مسطح مائي تقع على شواطئه العديد من مدننا العربية، وهو البحر الأحمر. لم تعرف الأرض منذ ملايين السنين شيئا يسمى "البحر الأحمر"، ولكنه تشكَّل تحت وطأة الظروف نفسها التي تُشكِّل الشق الجديد في أفريقيا الآن. (5)

 

الوادي المتصدع الكبير أو الأخدود الأفريقي العظيم، ويُطلِق عليه البعض أحيانا الشق السوري الأفريقي أو حفرة الانهدام السوري الأفريقي، كلها أسماء معروفة للصدع الجيولوجي الممتد من غرب آسيا وحتى شرق أفريقيا، ومن جنوب تركيا في الشمال عبر بلاد الشام، ويُعَدُّ البحر الأحمر هو أحد أبناء هذا الصدع. (6)

البحر الأحمر
البحر الأحمر. (مواقع التواصل)

تَشكَّل البحر الأحمر عندما انفصلت الجزيرة العربية عن أفريقيا بسبب تحركات الصفائح التكتونية، وبدأ هذا الانقسام في العصر الإيوسيني قبل 5-23 مليون سنة مضت، ولا يزال البحر يتسع كل عام بمقدار سنتيمترات قليلة، ويُعتقد أنه سيصبح محيطا هو الآخر خلال ملايين السنين. (7)(8)

 

ظهور واختفاء جزيرة الزلزال

للمفارقة، ليست كل التغيرات الجغرافية في الأرض إثر الزلازل تحتاج إلى ملايين السنين لتتشكَّل في هيئتها الأخيرة، فبعض التغيرات شهدتها أجيالنا بنفسها بسبب الزلازل. في عام 2010 على سبيل المثال، وقع زلزال في تشيلي قُدر بقوة 8.8 درجات، وبسبب هذا الزلزال أكد علماء وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" أن محور الأرض قد تحرك بمقدار 8 سنتيمترات، وترتب على ذلك تقلص بسيط في مدة دوران الأرض حول محورها، وهذا يعني أن طول اليوم أصبح الآن أقصر بنحو 1.26 ميكروثانية، والميكروثانية تساوي جزءا من مليون من الثانية، لذلك فإن الأمر لا يستدعي ضبط الساعة في الحال. (11) لكن بعض التبعات كانت أكثر وضوحا، على الأقل بالنسبة للبعض، حيث تغيرت أماكن بعض الجزر مثل جزيرة سانتا ماريا المواجهة لمدينة كونيبكن ثاني أكبر المدن التشيلية، التي ارتفع مستواها عن سطح البحر مقارنة بالوضع قبل الزلزال. (9)

 

وتُعَدُّ جزيرة الزلزال في باكستان مثالا حيا آخر على التغيرات الجغرافية وإعادة تشكيل الأرض الناتج عن الهزات الأرضية، ففي عام 2019، اختفت تماما جزيرة الزلزال في باكستان بعد 6 سنوات فقط من ظهورها.

جزيرة "الزلزال" في باكستان التي انحسرت تدريجياً خلال السنوات القليلة الماضية، حتى الاختفاء. (صور مرصد الأرض التابع لناسا)

كانت الجزيرة قد ظهرت لأول مرة عام 2013 بسبب زلزال بلغت قوته 7.7 على المقياس الذي أدى وقتها إلى مقتل ما يزيد على 800 شخص في جنوب غرب باكستان. أدى هذا الزلزال إلى حدوث شقوق في قاع المحيط، ما سمح للطين المدفون في باطن الأرض بالصعود من القاع إلى سطح الماء حاملا في طريقه الصخور، ومشكِّلا جزيرة أُطلق عليها جزيرة الزلزال، وكانت الجزيرة ترتفع بمقدار 20 مترا عن سطح المحيط ويبلغ عرضها 90 مترا وطولها 40 مترا (10)، ومنذ ذلك الحين ظلت الجزيرة تتآكل يوما بعد يوم حتى رُصد اختفاؤها تماما في عام 2019.

 

في التعبيرات اللغوية، عادة ما تُستخدم الأرض مرادفا للثبات، وقد تبدو الأرض بالفعل ثابتة من بعيد، ولكن الحقيقة أن الأرض في حالة دائمة من التغيير وإعادة التشكُّل، وعندما نأخذ نظرة سريعة لتاريخ الأرض، سنجد أن هذا الكوكب كان يجد دائما مخرجا آمنا لنفسه من الكوارث التي يتعرض لها، فإذا أغرق الفيضان مكانا أكثر من مرة؛ أصبحت تربته أكثر خصوبة، وإذا ضرب الأرض وباء قاتل للبشر؛ تستعيد البيئة توازنها، وإذا ضربت الأرض الزلازل بقسوتها؛ فإنها تعيد تشكيل جغرافيتها بشكل ربما لا يتوقعه البشر على قصر نظرهم وآجالهم.

——————————————————————————————————-

المصادر

  1. Magnitude 7.2 earthquake strikes Tajikistan, near border with China
  2. What are the Effects of Earthquakes?
  3. African Desert Rift Confirmed As New Ocean In The Making
  4. New Ocean Forming, to Split Africa Into Two, Scientists Say
  5. Red sea evaporites: Formation, creep and dissolution
  6. Rift Valley
  7. Red Sea
  8. Red Sea
  9. The ups and downs of an island
  10. The Sea Takes Back a Baby Island
المصدر : الجزيرة