شعار قسم ميدان

جراحات الموقع الخطأ.. لأن الأخطاء الطبية الكارثية ليست نادرة كما نظن

جراحات الموقع الخطأ.. لأن الأخطاء الطبية الكارثية ليست نادرة كما نظن

في الأسبوع الأول من شهر أغسطس/آب المنقضي، دخلت مريضة بضمور في الكلى غرفة عمليات مستشفى محافظة الزرقاء الحكومي بالأردن، بهدف استئصال إحدى كليتيها بعد أن فقد الأطباء الأمل فيها وباتت تهدد حياتها، لكن بعد أن استعادت وعيها من جديد تلقت خبرا مفاجئا كالصاعقة: لقد ارتكب الطبيب خطأ طبيا فادحا باستئصال الكلية السليمة من جسدها تاركا التالفة على حالتها(1).

 

لم تكن تلك سابقة فريدة من نوعها، ففي حالة مشابهة قبل 10 أعوام، دخل "بول كيبيت" مستشفى في كاليفورنيا(2)، ليتكرر معه السيناريو عينه؛ ما حمل "كيبيت" على غسيل الكلى لما تبقى من حياته. وعلى بعد آلاف الكيلومترات، وصل "فيغيندرا تايغي" مستشفى سازروتا في الهند، متأثرا بجروح ورضوض في الرأس إثر تعرضه لحادث سيارة(3)، التبس الأمر على الجراح بينه وبين رَجُل آخر مكسور الساق، فشرع الطبيب في ثقب ساق "تايغي" اليمنى لتركيب مسمار، قبل أن يدرك جسامة فعلته.

 

جراحة الموقع الخطأ

جراجة الموقع الخطأ

أصبحت هذه الحوادث متكررة في بلاد المشرق والمغرب على السواء، ليُصطلَح على تسميتها بجراحة الموقع الخطأ (wrong site surgery)، وتعني الجراحات التي يتم إجراؤها على الجزء أو الجانب الخاطئ من الجسم أو المريض الخطأ أو على مستوى تشريحي غير صحيح. ويعد هذا النوع من الأخطاء، على جسامته، صعب التنبؤ(4)، ولذا فإنه قد يتسبب في عاهة مستديمة إن لم يَقُد بعض المرضى إلى التهلكة والموت.

 

حتى عهد قريب، لم تحظَ الجراحة في الموقع الخطأ باهتمام كبير، حيث عُدَّت حدثا عشوائيا ونادرا. تغير ذلك جذريا عام 1995 حين اتسعت حدقة عيني طبيب من الهلع في أحد مستشفيات فلوريدا بعد أن أدرك في منتصف العملية الجراحية أنه كان يبتر الساق الخطأ لمريض السكري، بيد أنه أُجبر على المتابعة بعد أن قطع العضلات والأوتار والأربطة، لتتصدر الواقعة عناوين الصحف الوطنية في اليوم التالي وتُفتح القضية. بعد عامين تشكل فريق العمل التابع للأكاديمية الأميركية لجراحي العظام (AAOS) المعني بجراحة الموقع الخطأ لتحديد نسبة حدوثها وإمكانيتها.

 

وخلافا لما نظن، لا يُقدِم الجراحون الأصغر سنا أو الأقل خبرة على ذلك النوع من الخطأ أكثر من غيرهم من الأطباء المتمرسين؛ فوفقا للبيانات، فإن ثلث الأطباء الذين تورطوا في ارتكاب هذا النوع من الأخطاء يقعون في دوائر عمرية بين العقد الرابع والخامس من العمر. ونظرا لضآلة هذه الأحداث في الحقيقة(5)(6)(7)، يستبعد كل طبيب تورطه في ذلك الخطأ، وعليه فلا يتخذ احتياطات إضافية، ليردد بعد الحادثة بذهول: "لم أعتقد مطلقا أن هذا سيحدث لي!"(8).

 

حسنا، دعنا نخبرك أن الأرقام باتت مفزعة حقا. تُنبئنا إحدى الدراسات الحديثة نسبيا عن وقوع من 25 إلى 52 عملية جراحية في الموقع الخطأ أسبوعيا في الولايات المتحدة فقط(9)، وأن بعض المتخصصين أكثر عرضة للوقوع فيها، مثل جراحي العمود الفقري. وفي دراسة أخرى نُشرت في مجلة طب الأعصاب وجراحة الأعصاب والعمود الفقري، أفاد 25٪ من جراحي العظام بإجراء عملية جراحية واحدة على الأقل في موقع خطأ خلال حياتهم المهنية.

 

أي التخصصات الطبية إذن أكثر عرضة للتورط في هذا الخطأ؟ وفق اللجنة المشتركة لاعتماد منظمات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة (JCAHO) في إصدارها الرابع والعشرين الصادر عام 2001، رصدت 126 حالة تعرضت لجراحة الموقع الخطأ (10)، ولا يكاد يكون هناك تخصص مُحصَّن، إذ وقعت 41٪ من الحالات في تخصص جراحة العظام، و20٪ في الجراحة العامة، و14٪ في جراحة المخ والأعصاب، و11٪ في جراحة المسالك البولية، مع حضور لسائر التخصصات الأخرى، كطب الأسنان والقلب والأوعية الدموية والصدر والأنف والأذن والحنجرة وجراحة العيون(11)(12)(13)(14).

 

من المخطئ؟

wrong surgery

تشير بعض التقديرات إلى أن الجراحة في الموقع الخطأ تحدث مرة واحدة تقريبا من كل 100 ألف عملية جراحية؛ ما يعني آلاف الحالات سنويا حول العالم. دفع ذلك بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأنه تم الإبلاغ عن 10% فقط من هذه الأخطاء بينما تم تجاهل الأخرى، وبناء على ذلك فمن المرجح أن يكون معدل حدوثها الحقيقي أعلى بكثير مما تنوه إليه التقارير الرسمية.

 

ويبقى السؤال المهم هنا: على عاتق مَن يقع الخطأ في هذا النوع من الكوارث الطبية: الفرد، أم المنظومة، أم كليهما معا؟ قبل عدة سنوات أجرى جراح أعصاب عملية جراحية على الجانب الخطأ من رأس مريض طريح الفراش. أُوقف الطبيب بعدها عن العمل، وذكر التحقيق الأولي أن الفريق الجراحي لم يحصل على مهلة قبل بدء العملية للتحقق من المعطيات التي بحوزته، لا سيما أن الأوراق التي كانت بين يدي الجراح لم تكن مكتملة، وهو ما نبهت إليه إحدى الممرضات في حينها، لكن الجراح لم يُصغِ، واحتكم إلى ذاكرته بثقة(15). في الشهر التالي تُوفي ذلك المريض الذي خضع للجراحة، فيما سعى الطبيب الشرعي إلى تحديد ما إذا كان الخطأ الجراحي هو ما أودى بحياته(16).

 

هل يتعدى الخلل الإطار الفردي ليشمل النظام إذن؟ الإجابة: على الأرجح نعم. يدل على ذلك ما جاء في بحث للجمعية المصرية لأطباء التخدير بعنوان: "جراحة الجانب الخطأ: هل نحن على الجانب الصحيح من رعاية المرضى؟"(17) من أن الموظف المخول بإدخال البيانات ربما يقوم بتسجيل معلومات مغلوطة عند جدولة الجراحة. وقد يحدث أن يكتب أخصائيو الأشعة أو الأمراض تقارير غير دقيقة تخلط بين نتائج اختبار مريضين أو بين الجانبين الأيمن والأيسر لمريض واحد أو تقلب الأشعة السينية ويُساء تفسيرها، إلى غير ذلك من الأخطاء.

 

كذلك يمكن أن تتسبب المشتتات البيئية، كالضجيج والفوضى والانقطاعات (الكهربائية مثلا) وتدوير حاملة المرضى، في إرباك أفراد غرفة العمليات (OR) لتلتبس لديهم الاتجاهات. أضف إلى ذلك أن الجراحين الذين يعولون على ذاكرتهم للفصل في القرارات قد يكونون أكثر عرضة للخلط بين الحالات والوقوع في الخطأ(18)(19).

 

تجلب علامات موقع العملية أيضا ربكة لا يستهان بها، حيث يسهل إزالتها أثناء الإعداد الجراحي. مثال: أُدخل طفل في الخامسة لإجراء عملية جراحية في عينه اليمنى، بعد أن أجريت الفحوصات الروتينية له في اليوم السابق(20)(21). قام طاقم التمريض في غرفة ما قبل التخدير بالتأشير على العين اليمنى للطفل بشريط لاصق صغير فوق حاجبه. كان الطفل يرافق والده وكان ينتظر دوره لإجراء عملية جراحية، في هذه الأثناء سقط الشريط اللاصق عن عين الطفل اليمنى عن طريق الخطأ ووضعه والده مرة أخرى دون علمه فوق عين الطفل اليسرى بدلا من اليمنى.

 

في غرفة العمليات، أسند الطفل رأسه، وشرع أطباء التخدير في تنظيف الموضع، بينما دخل الاستشاري إلى غرفة العمليات واستفسر من كبير الأطباء عما إذا كان قد سأل والد الطفل عن موقع العملية؛ ما يدفع الجراح للشك في الأمر وإعادة فحص السجلات، وتدارك الخطأ قبل وقوعه.

 

كيف لنا أن نضع حدا لجراحات الجانب الخطأ؟

جراحات الموقع الخطأ.. لأن الأخطاء الطبية الكارثية ليست نادرة كما نظن
(مواقع التواصل الاجتماعي)

للحد من تلك الأخطاء الجسيمة، ينبغي تطوير البروتوكولات والمبادئ التوجيهية بما يضمن التحقق متعدد المراحل من الجانب الصحيح لإجراء الجراحة(23)، على أنه يجب أن يتم ذلك ببذل جهد تعاوني يشمل الجراحة والتخدير والتمريض وطاقم غرفة العمليات ككل وأعضاء مجموعة دعم المرضى، إن وجد. ويتحتم أن تتضمن تلك البروتوكولات تعليمات مفصلة وواضحة ومحددة لا تترك مجالا للتأويلات.

 

من جانبها، توصي لوائح اللجنة المشتركة لاعتماد المنظمات الصحية (JCAHO) لمنع الجراحة الخاطئة في الموقع، بثلاثة متطلبات كحد أدنى: التحقق قبل الجراحة، ووضع العلامات على الموقع في منطقة الحجز قبل الجراحة، والتمهل والتدقيق قبل الشروع في الجراحة داخل غرفة العمليات. ويعد التحقق قبل الجراحة أكثر الخطوات أهمية، لأن المريض يعد مصدرا موثوقا به للمعلومات الدقيقة أكثر من الوثائق، إلى جانب تعليم موقع العملية الذي يمنح المريض صوتا حتى وهو تحت التخدير(24)(25) (26).

 

في النهاية، ما من مراجع وإحصائيات عربية حقا لتطلعنا على معدلات تكرار الأخطاء الجراحية وأهمها جراحة الموقع الخطأ في عالمنا العربي، لكن ندرة الإبلاغ عنها تظل باعثة على التفاؤل وإن لم تكن مؤشرا كافيا. وفي كل الأحوال، فإن تعزيز الوعي بإمكانية حدوث هذا النوع من الأخطاء، لدى الأطباء والمرضى على حد سواء، يمكن أن يسهم في تفادي وقوع العديد من الكوارث قبل فوات الأوان.

———————————————

المصادر:

  1. الأردن .. طبيب يزيل كلية سليمة لمريضة بدلاً من التالفة.
  2. شر البلية.. طبيب يجري جراحة بساق مريض بدلاً من رأسه
  3. https://www.ndtv.com/delhi-news/delhi-man-vijendra-had-injured-head-but-doctor-of-sushruta-trauma-centre-operated-on-his-leg-1841644
  4.  https://pssjournal.biomedcentral.com/articles/10.1186/s13037-014-0053-2
  5. https://psnet.ahrq.gov/primer/wrong-site-wrong-procedure-and-wrong-patient-surgery
  6. https://jamanetwork.com/journals/jamasurgery/article-abstract/398265
  7. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/16618892/
  8. https://www.webmd.com/a-to-z-guides/news/20210930/doctors-wrong-site-surgery
  9. https://www.docatty.com/blog/2022/07/what-is-wrong-site-surgery-and-why-does-it-happen/
  10. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3963345/#ref2     
  11. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3963345/#ref2    2001
  12. 2. Dobson R. College begins inquiry into removal of wrong kidney. BMJ. 2000;320:332. [PubMed] [Google Scholar
  13. 3. Crumlin: 2008. [Last accessed on 2011 Jan 26]. Investigation into the removal of the wrong kidney from a patient (October 2008) Available from:  https://docs.google.com/viewer?url=http%3A%2F%2Fwww.stateclaims.ie%2FClinicalIndemnityScheme%2Fpublications%2F2009%2FOLHSC.pdf . [Google Scholar]
  14. https://www.webmd.com/a-to-z-guides/news/20210930/doctors-wrong-site-surgery  
  15. https://www.webmd.com/a-to-z-guides/news/20210930/doctors-wrong-site-surgery  
  16. https://www.reliasmedia.com/articles/107091-wrong-site-surgery-is-no-1-among-sentinel-events-8212-are-you-at-risk
  17. https://www.researchgate.net/publication/257498180_Wrong_side_surgery_Are_we_on_the_’right_side’_of_patient_care
  18. https://surgicalneurologyint.com/surgicalint-articles/a-perspective-on-wrong-level-wrong-side-and-wrong-site-spine-surgery/  
  19. https://www.physiciansweekly.com/wrong-site-surgeries-may-lead-to-malpractice-suits  
  20. https://www.washingtonpost.com/outlook/surgeons-sometimes-operate-on-the-wrong-body-part-theres-an-easy-fix/2021/11/19/c690ef94-4889-11ec-95dc-5f2a96e00fa3_story.html  
  21. https://www.researchgate.net/publication/257498180_Wrong_side_surgery_Are_we_on_the_’right_side’_of_patient_care
  22. https://www.researchgate.net/publication/10914656_Incidence_of_Wrong-Site_Surg
  23. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3963345/#ref2
  24. ery_Among_Hand_Surgeons
  25. https://premiummedicalprotection.com/2022/02/01/preventing-wrong-site-surgery/
  26. https://www.washingtonpost.com/national/the-pain-of-wrong-site-surgery/2011/06/07/AGK3uLdH_story.html 
المصدر : الجزيرة