شعار قسم ميدان

تأثير البلاسيبو.. هل يمكن لدواء وهمي التغلُّب على مرض عضال؟

"أصبح من الواضح أن عواطفنا ومواقفنا وأفكارنا تؤثر تأثيرا عميقا على أجسادنا، وأحيانا تصل إلى درجة الحياة أو الموت. أصبحنا ندرك هذا إلى حدٍّ كبير من خلال البحث عن تأثير الدواء الوهمي".

(لاري دوسي، إعادة اختراع الطب: ما وراء العقل والجسم لعصر جديد من الشفاء)

لا ينفصل الشفاء من أي مرض عن الحالة النفسية التي يمر بها المريض، وينطبق هذا حتى على أشد الأمراض خطورة وأصعبها، فعلى سبيل المثال، يوصي الأطباء مريض السرطان -دائما- بالمحافظة على حالة نفسية جيدة نظرا لتأثير ذلك على معدلات الشفاء، ونرى ذلك أيضا في أمراض القلب وغيرها، حيث يوصي الأطباء عائلة المريض بتجنيبه أكبر قدر ممكن من الانفعالات أو الحزن. وفي المقابل؛ فإن أولئك الذين يُهملون استقرار أوضاعهم النفسية يؤثرون سلبا على استجابة أجسادهم للعلاج والعقاقير، نرى ذلك في أبسط الأمراض وأقلها خطورة، فالمُصاب بالبرد مثلا إن تكاسل واستسلم للفراش فإنه يستهلك وقتا أطول للوصول إلى مرحلة التعافي والشفاء.

في فيلم "رجال عود الثقاب" (Matchstick Men)، يُجسِّد نيكولاس كيدج شخصية "روي"، وهو رجل مهووس بالنظافة وغلق الأبواب، إلى درجة أن كل بُقعة على سجادته، أو باب يُترك مفتوحا بوجه الريح، كفيل بأن يُصيبه بالغثيان وتسارع نبضات القلب وعين لا تكف عن الرمش. يُداوم روي على تعاطي حبوب علاجية تعمل على تخفيف توتره في الحالات التي تُفقده اتزانه، كان يحصل عليها بطريقة غير قانونية، ولسبب ما يختفي المُورد الذي كان يُؤمِّن له ما يحتاج إليه من هذه الحبوب. يلجأ إلى أخصائي نفسي يصف لروي نوعا آخر من الحبوب التي ستساعده -تحت سقف قانوني- على تخفيف ما يمُر به.

ينفد شريط الأدوية، ويضطرب روي ويحتاج إلى المزيد لأنه لا يستطيع البقاء دون حبوب تُساعده يوميا على الثبات! ولكن طبيبه النفسي في إجازة لأيام، مما يُصيب روي بالتوتر ويدفعه للتوجُّه لأقرب صيدلية والتوسُّل مذعورا لمَن فيها بأن يرأفوا بحاله حتى ولو لم يكن يملك وصفة طبية. يأخذ الصيدلاني الشريط ويقول لروي: "لكن هذه مُكملات غذائية!". حين واجه طبيبه النفسي عن سبب وصفه لمكملات غذائية قال له: "لأنك لا تحتاج إلى الأدوية يا روي". يبدو الأمر هنا مُربكا نوعا ما، إذ إن هذه المكملات الغذائية كانت تُعطي مفعولا مُشابها ومماثلا لتلك العلاجات السابقة والمُخصصة لحالته النفسية، فهل هذا حقيقي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف حدث؟

"يلجأ مريض السرطان البائس، المُصاب بمرض قاتل، إلى علاج وهمي مهما كان باهظ الثمن ليمنحه فرصة تخيُّل حياة أطول. ويلجأ الأشخاص البائسون الحزانى، المُصابون بحياة مُتعثرة وقاسية، إلى علاج وهمي -أيضا- مهما بلغ ثمنه، ليمنحهم فرصة تخيل حياة كريمة أقل قسوة".

(سارة بيري، كل مهد قبر: إعادة النظر في أخلاقيات الولادة والانتحار)   

undefined

العلاج الوهمي "بلاسيبو" (Placebo) ظاهرة تتحسَّن من خلالها معاناة بعض المرضى من خلال تعاطيهم أدوية أو مواد محايدة لا يوجد أي سبب واضح لفعاليتها، ولكنهم يتحسَّنون من خلالها، ونتيجة لذلك فإنه يُعرف أوساط الطب والعلاج النفسي بـ "الدواء المُزيف". في مقال بعنوان "ماذا لو أن العلاج الوهمي ليس خدعة؟"، نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 بواسطة عالم النفس الأميركي غراي غرينبرغ، يدافع الكاتب عن أهمية هذا العلاج الذي يحظى بسمعة سيئة وبأنه مجرد خداع للمرضى، فيقول: "العلاج الوهمي هو علاج طبي طالما تجاهله الأطباء على حساب مرضاهم. وبعد ربع قرن من العمل الشاق، يمتلك الأطباء أدلة وفيرة لإثبات ذلك. أعطِ هؤلاء المرضى حبة حلوى وسوف يتحسَّنون، خاصة إذا كانوا من أولئك الذين يعانون الحالات المزمنة المرتبطة بالضغط النفسي التي تُسجِّل أقوى استجابة لتأثيرات الدواء الوهمي. أما إذا قُدِّم العلاج من قِبَل شخص يثقون به فإن التحسُّن سيكون شبه مضمون!". (1)

يضرب "غرينبرغ" أمثلة أخرى على ذلك، كأن تُخبر أي شخص أن الحليب -مهما كان مصدره- هو مشروب غذائي، وسوف تستجيب أمعاؤه كما لو كان المشروب قليل الدسم. اصطحب الرياضيين إلى الجزء العلوي من جبال الألب، ودرِّبهم على آلات التمارين الرياضية وربطهم بخزان الأكسجين، وسيكون أداؤهم أفضل مما لو كانوا يتنفسون هواء الغرفة، حتى لو كان هواء الغرفة نفسه هو المعبأ في الخزان. أيقظ مريضا من الجراحة وأخبره بأنك أجريت عملية لركبتيه، وستتحسَّن ركبته حتى لو كان كل ما فعلته هو تخديره وعمل شقين في جلده. أعطِ دواء اسما فاخرا، وسيعمل أفضل مما لو لم تعطِه هذا الاسم الفاخر. ويُضيف: "ليس عليك أن تخدع المريض، حيثُ يُمكنك أن تُخبر الذي يُعاني من القولون إنك تمد له حبة حلوى سُكرية -لا غير- ثبت أنها فعّالة عند استخدامها علاجا لحالات القولون التي يُعاني منها".

يؤكد غرينبرغ أنه كلما أخذت الوقت الكافي لإيصال هذه الرسالة بدفء، وباهتمام، فإن هذه الحيلة من شأنها أن تُظهِر نتائج قوية مع أولئك الذين يُعانون من الاكتئاب، آلام الظهر، الشعور بالضيق الذي يُصاحب العلاج الكيميائي، والصداع النصفي، واضطراب ما بعد الصدمة. ولكنه لا ينسى الإشارة إلى أن استجابة المريض للعلاج الوهمي "البلاسيبو" تختلف من مريض لآخر. (2)(3)

في السياق ذاته، يُوضِّح تيد كابتشوك، مدير برنامج دراسات الدواء الوهمي في مركز بيث، أن التفكير السائد سابقا كان هو أنك بحاجة إلى الاعتقاد فعلا أنك تتناول دواء حقيقيا -لا حبة حلوى- حتى ترى أي فوائد، وأن الطبيب الذي يخدع المريض عن قصد ويُخبره بأن حبة الحلوى هي دواء اسمه كذا يرتكب أمرا لا أخلاقيا(4)، ونتيجة لذلك أُلقي العلاج الوهمي إلى حدٍّ كبير في "سلة القمامة" في كل ما يتعلق بالممارسة السريرية. لكن دراسات لاحقة حاولت بحث إذا كان الناس قد يستفيدون من العقار الوهمي حتى لو علموا أنه دواء وهمي بدون مكونات فعالة. وكانت المفاجأة أن العلاج الوهمي حسَّن الأعراض لدى الأشخاص المصابين بمتلازمة القولون العصبي رغم علمهم بأنهم يتناولون عقارا وهميا. (5)

"عقلك هو أقوى ما يُمكن أن يكون تحت سيطرتك".

(كيث هولدن، قوة العقل في الصحة والشفاء)

إن فكرة أن العقل يمكنه ممارسة قوى شفائية على الجسم ترتبط في معظم الأحيان بالعلم الزائف، ولكن من ناحية أخرى، فإن تأثير الدواء الوهمي والتحسُّن الذاتي في الأعراض التي يبلغ عنها الأشخاص بعد تناولهم أدوية زائفة تُوضِّح أن العقل والجسم يعملان جنبا إلى جنب في بعض الأمراض الجسدية. يقول الدكتور تيد كابتشوك: "ما يحدث في عقل المريض هو أن طقوس الطب، ورموز الطب، والطبيب الدافئ المتعاطف (في سياق لقاء سريري) يُنشِّطون الناقلات العصبية في الدماغ، وهو ما يُحفِّز مناطق معينة من الدماغ قابلة لتعديل أعراض المرض الظاهرة على المريض". (6)  

    undefined

ويُوضِّح بأن تأثير العلاج الوهمي يكمن في دفع العقل للانتباه لتلك الأمور التي لا يُنتبه لها عادة في الطب، تلك الأمور غير الملموسة التي نغفل عنها بسبب اعتمادنا على العلاج الملموس. لكن على عكس ما يُشاع في العلوم الزائفة، فإن تأثير العلاج الوهمي لا يعتمد على إقناع نفسك بأن العلاج سينجح، فحتى لو كرَّرت في عقلك أن جملة حبات الحلوى ستجعلك تتحسَّن، فإن تلك الحبات لن تمتلك قدرة سحرية على تقليص حجم الورم، ولن يستطيع الدماغ التعامل مع الملاريا، ولكن العلاج الوهمي يؤثر فقط على ما يستطيع الدماغ التحكم به أو تعديله، كالشعور بالتعب، أو الغثيان، أو الشعور بالضيق. (7)

التساؤل -البديهي- الذي قد يُصاحب قراءة كل تلك الحقائق هو هل قورنت نتائج العلاج الوهمي بأولئك المرضى الذين يتعاطون أدوية حقيقية؟ في هذا الشأن تُبيِّن دراسة (8) أن حجم التحسُّن الناجم عن العلاج الوهمي كان جيدا بقدر الناجم عن تعاطي أدوية لعلاج تهيج الأمعاء، رغم أن الأمر لم يعمل بالقدر نفسه من الكفاءة مع جميع المرضى. وحتى الأطباء لا يعلمون ما الذي يجعله فعالا بالتحديد، خاصة أنه يحتفظ بتأثيره على الرغم من إفصاح الطبيب للمريض بأنه لا يتناول سوى حبوب من السكر، رغم أن بعض الدراسات لاحظت أن العلاجات الوهمية تحفز بعض الخلايا العصبية في الدماغ، وهذا ما يستجيب له الجسم!(9)

لا تزال هناك الكثير من الأبحاث التي تُجرى وتسعى للكشف عن أسرار تأثير العلاج الوهمي، وربط علاقة (المريض – الطبيب) بمدى استجابة العقل للوهم الذي يختبئ في حبات من السكر. ويسعى المختصون لتسخير هذا النوع من الأدوية سريريا ووصفه للمرضى الذين يحتاجون إليه دون اعتبار ذلك ممارسة غير أخلاقية. كما تُجرى دراسات أيضا لمعرفة الوقت الذي يحتفظ خلاله هذا التأثير بقوته، وهل ستستمر حبات السكر في إثبات فاعليتها في علاج آلام الظهر لوقت طويل؟ (10)

في دراسة مُثيرة للاهتمام في مجال العلاج الوهمي، أُجريت تجربة على الكلاب، الحيوانات التي لا تفهم حرفيا ما المركب الكيميائي أو الفارق بين العلاج الوهمي والحقيقي، وُضعت حبات من الدواء الحقيقي في الجبن، وبعد فترة استُبدلت هذه الحبات الحقيقية بحبات من السكر، وظل الجسم يستجيب ويتعافى كما لو كانت حقيقية بالكامل! (11) وفي سياق مختلف، أُجريت دراسة على الهامستر بخداعهم عن طريق تعديل الإضاءة لجعلهم يتوهَّمون بأننا في فصل الشتاء، الذي يعني طعاما أقل وحرصا أكبر حول كيفية استخدام السعرات الحرارية الثمينة. كانت النتيجة أن الهامستر الذي خُدِع استطاع التحكُّم جيدا في معدلات حرق الطاقة. ربما تكون القدرة على التكيُّف إذن هي السر الكامن داخل العلاج الوهمي؛ فمن الواضح أن هناك الكثير من الأشياء غير الملموسة التي تُحيط بنا ولها أهمية لا يمكن تجاهلها.


المصادر

  1. What if the Placebo Effect Isn’t Trick?
  2. المصدر السابق
  3. Morbidity and Mortality Weekly Report (MMWR)
  4. Fake Pills Can Work, Even If Patients Know It
  5. Is A Placebo A Sham If You Know It’s A Fake And It Still Works? 
  6. Placebo interventions for all clinical conditions
  7. Active Albuterol or Placebo, Sham Acupuncture, or No Intervention in Asthma
  8. Placebos without Deception: A Randomized Controlled Trial in Irritable Bowel Syndrome
  9. Just How Much Power Does the Mind Have to Heal the Body?
  10. Applied Animal Behaviour Science
  11. Creepy Physical Changes Your Mind Can Make in Your Body
المصدر : الجزيرة