شعار قسم ميدان

وهم المعرفة.. كيف يمكن أن تخدعنا عقولنا؟

"فكل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا"
(سقراط)

هل تعرف كيف تعمل الدرّاجة؟ هل تعرف شكل هيكلها؟ ذلك بالتأكيد شيء سهل، يمكن لنا جميعًا وصف الدّراجة بدقة وشرح آلية عملها، فهناك "الجادون" الخاص بها، البدّال، والعجلتان، والجنزير الذي يوجد بالأسفل حول البدّال، وتلك التروس الصغيرة والكبيرة… إلخ، يمكن لأي شخص عادي -ربما هكذا ستقول- أن يصف بدقّة شكل الدرّاجة وآلية عملها، فمعظمنا قد ركبها لفترة، طالت أو قصرت، من حياته، كذلك فإننا نراها بشكل شبه يومي تجري هنا وهناك في الشوارع حول منازلنا، الأمر بسيط .. أليس كذلك؟

 

لا، في الحقيقة، ليس لتلك الدرجة، لكن لفهم مدى تعقد أن تعرف "كيف تعمل الدّراجة؟" دعنا نرجع بالزمن لفترة ليست بالبعيدة، أواخر تسعينيات القرن الماضي، حينما بدأ كل من(1) ليونايد روزنبليت (Leonid Rozenblit) وفرانك كيل (Frank Keil)، متخصصا علم النفس من جامعة ييل، مجموعة تجارب جديدة ذات هدف غريب قليلًا، حيث تهتم برصد فكرة البشر عما يعرفونه حقًا عن الأشياء، إنها نفس فكرة سؤالنا بالأعلى عن الدرّاجة العادية التي يتخطى عدد من ركبوها مرة في حياتهم الـ80% في كل بقاع الأرض تقريبًا، لكن كل من روزنبليت وكيل صمموا تجاربهم بحيث تتجنب أية مشكلات ممكنة، وتفحص كل جانب ممكن للقضية، عبر اختبارات عدّة.

 

كيف تعمل طائرة الهيليكوبتر؟

حيث في البداية، مثلًا، يُطلب إلى الخاضع للتجربة أن يقيّم(2) قدر معرفته بشيء ما، كان ثلاجة مثلا، درّاجة، هاتفا نقّالا… إلخ، بدرجة ما. لكن قبل ذلك، ولكي نحصل على تقييم دقيق، يتعلم الخاضع للتجربة كيف يمكن له وضع تقييم كهذا، فنبدأ مثلًا بإعطائه درس قصير عن كيفية تقييم معرفته بالقوس الرياضي (المستخدم في النبالة)، وهو آلة معقدة، فنخبره بأن يضع لنفسه -مثلًا- سبعة من سبعة، إن كان يعرف كل هيكل القوس، وآليات الرماية، وأنواع الخشب، والخيوط، والمادة المصنوع منها، وكل شيء تقريبًا حول هذا الشكل وآلية عمله، بعد ذلك نتدرج للأسفل حتى نعلّمه أن يعطي لنفسه اثنين من سبعة مثلًا، حينما يكون كل ما يعرفه عن القوس الرياضي هو الشكل العام للقوس (قطعة خشب مرنة وخيط وسهم).

يمثل السؤال حول آلية عمل الهيليكوبتر نموذجا حول وهم المعرفة، إذ أنننا نتوهم أننا نعرف الآلية، في حين أننا بالفعل لا نعلم التفاصيل الدقيقة.
يمثل السؤال حول آلية عمل الهيليكوبتر نموذجا حول وهم المعرفة، إذ أنننا نتوهم أننا نعرف الآلية، في حين أننا بالفعل لا نعلم التفاصيل الدقيقة.

جميل، الآن يفهم كل خاضع للتجربة معنى أن يقيّم مدى معرفته بشيء ما، بعد ذلك سوف نطلب من الخاضع بدء الاختبار، ويكون ببساطة؛ أن يعطي هو -برقم محدد من 1 لـ7- تقييما لقدر معرفته عن آلات أخرى عادية من حياتنا اليومية، كالغسّالة مثلًا، أو الثلاجة أو طائرة الهيليكوبتر، كما تعلّم في تمرينه، ثم بعد إتمام ذلك، نسجل القيمة التي وضعها كل خاضع للتجربة لنفسه ونسميها مثلًا "القيمة 1″، بعد ذلك سوف نعطي كل الخاضعين للتجربة مقالا يشرح آلية عمل هذه الآلة وتركيبها، ثم نطلب منهم من جديد تقييم قدر معرفتهم السابقة بنفس الآلة بعد قراءة المقال، هل نرفعها قليلًا؟ نتركها كما هي؟ هل نقلل منها؟

 

سوف نسجل ذلك في قائمة إضافية "قيمة 2″، بعد ذلك سوف نود المضي قدمًا في اختبار مدى قدرتهم على تقييم ذواتهم، هنا سوف نسأل عن نقطة تقنية أكبر، سوف نسألك مثلًا: هل تعرف الفارق بين الآلية التي ترتفع بها طائرة الهيليكوبتر للأعلى والتي تنطلق بها للأمام؟ هنا -من جديد- نطلب منهم إعادة تقييم معارفهم السابقة، هل كان الرقم الذي أعطوه في أول مرة مناسبًا؟ ونسجل ذلك في قائمة إضافية "قيمة 3". هل تعتقد أننا الآن وصلنا إلى المرحلة التي أدركنا فيها أننا كنّا بالفعل نجهل الكثير عن شكل وآلية عمل أشياء عادية؟ دعنا نضيف مستوى جديدا للعبة.

 

سوف نعطي كلا من الخاضعين للتجربة تقريرا مفصّلا، تقنيا، ومكوّنا من عدة صفحات، لما يعنيه فعلا تركيب وآلية عمل الثلاجة مثلًا، أو الطائرة الهيليكوبتر، ونطلب منهم -من جديد- إعادة تقييم معرفتهم الأولى لشكل وكيفية عمل تلك الآلات، هل كانت مساوية لما يعتقدونه فعلًا؟ أم أقل أو أكثر؟ هنا نكوّن قائمة جديدة، وهي "القيمة 4″، وأخيرًا، لتقييم أن التأثير لم يكن عاطفيًا في التقييم الخاص بكل فرد، أقصد لفحص إن كانت الأرقام المكتوبة في قوائم القيم، نتيجة لحالة إحباط خاصة بالخاضع للتجربة بعد معرفته بمدى تعقد الآلة التي أمامه، سوف نسأل كل خاضع منهم أن يقيّم قَدْر معرفته بشكل وآلية تلك الآلة -الآن- بعد أن قرأ مقالا طويلا عنها، ونسجّل الـ"قيمة 5".

undefined

قام كل من كيل وروزنبليت بعمل(3) 12 تجربة من نفس النوع، لكن  في ظروف مختلفة، على مجموعات أكبر وأصغر من الأولى، كذلك في مجموعات من مراحل سِنّية مختلفة، ومن وظائف مختلفة، ومن جامعات مختلفة، وخرّيجين وجامعيين، وعلى آلات مختلفة، درّاجة، مرحاض، سيّارة، غسّالة، طائرة… إلخ، مع تغيير آلية التجربة في المرحلة الثانية من الدراسة؛ حيث سوف نعرّف الخاضع للتجربة مقدمًا بكل شيء عنها، فمثلًا في المرحلة الأولى، لم يعرف المُقدِمون على التجربة عن أسئلة ما بعد التمرين، ولم يعرفوا أنهم مطالبون بكتابة كل تفصيل يعرفونه عن هذه الآلة بعينها، في النهاية نصل لنتيجة واحدة، نحن نميل كبشر، وتقريبًا في كل الحالات التي واجهها كل من كيل وروزنبليت، لنوع من الوهم نسميه "وهم عمق القدرة على الشرح (Illusion Of Explanatory Depth)".

 

وهم عمق قدرتنا على الشرح

يشير "وهم عمق القدرة على الشرح" إلى أن الناس يظنون أنهم يفهمون الظواهر المعقدة سببيًا بصورة أعمق مما يفهمونها بالفعل، في الحقيقة قد يقودنا ذلك إلى تحيز معرفي آخر شهير يعبِّر عن قضية مشابهة، وهو تأثير دانينج كروجر(4) (Dunning-Kruger effect)، والذي يرتبط بوهم التفوق أو عدم قدرة الأشخاص غير المؤهلين على إعطاء تقييم صحيح لذواتهم عن قدراتهم الإدراكية الحقيقية، أو مهاراتهم العامة، في المقابل، يقوم الأشخاص الأكثر معرفة وخبرة بالعكس، يقللون من تقييم ذواتهم عن قدراتهم الإدراكية، لكن الأمر بالنسبة لوهم عمق القدرة على الشرح، يختلف قليلًا في نقاط أكثر عمقًا، وقد يتعارض في بعض الأحيان مع تلك الفكرة.

undefined   

فمثلا، لا يرتبط وهم عمق القدرة على الشرح بالثقة الزائدة في النفس(5) (Overconfidence)؛ بمعنى أن الخاضعين للتجارب واجهوا تلك المشكلات مع شرح آليات عمل الآلات المتعددة، والظواهر الطبيعية (سقوط المطر مثلًا أو المد والجزر)، والمواقف السياسية، إلا أنهم لم يخفقوا في تقييم قدراتهم بالنسبة للحقائق (أسماء العواصم أو البلدان) أو الإجراءات (كطريقة عمل الكيك مثلًا أو كيفية عمل مكالمة دولية أو فتح حساب على الفيسبوك)، أو السرديات (كفيلم أو مسرحية)، أضف لذلك أن الخاضعين لتجارب هذا النوع قد تراجعوا -كما ترى بالرسم البياني المرفق للقيم من 1 لـ5- لتقييمات أقل كلما أدركوا أن هناك قصورا في قدراتهم على الشرح.

 

"وهم عمق القدرة على الشرح" يرتبط إذن بظواهر معقدة سببيًا فقط، ويعني ذلك أننا كبشر، لا نستخدم طريقة تشبه النظريات العلمية لشرح العالم لذواتنا. فقد تصور النفسانيون أن الإنسان -لكي يتعلّم- يبحث دائمًا عن السبب والوظيفة في الأشياء، ثم يكوِّن مفاهيم مرتبطة سببيًا ببعضها البعض، ليشرح الظواهر التي تقع قبالة عينيه لنفسه، فإن كانت هناك مشكلة بتصوّراتنا عن هذا الشرح لذواتنا، كانت هناك مشكلة بالأساس في طريقة إدراكنا للعالم، وكان هذا في الحقيقة هو مركز اهتمام دراسة أخرى بجامعة ليفربول(6) سنة 2006، إنه سؤال الدرّاجة الذي اهتممنا به في أول التقرير، هل تعرف كيف تعمل الدراجة؟ هل يمكنك أن ترسم لنا درّاجة الآن؟

undefined  

هنا، قيّم 40% من الأفراد العاديين الخاضعين للتجربة أنفسهم بدرجة أعلى مما يُفترض أنهم يعرفونه بالفعل، وتعمَّدت التجربة إقصاء احتمال أن تكون قدرات الخاضعين مرتبطة بمهاراتهم في الرسم، فحدّدت لهم الهيكل العام، حيث رسم منفذو التجربة درّاجات لكن بدون (جادون، هيكل المنتصف، البدّال)؛ بحيث يكملها الخاضعون للتجربة برسمات غاية في البساطة، إذن، كانت المشكلة التي تواجه الخاضع لتلك المجموعة من التجارب؛ هي فقط موضع الأداة.

undefined  

لكن ما يلفت الانتباه بدرجة أكبر في هذه التجربة، وفي تجارب كيل وروزنبليت كذلك، ومجموعة أخرى من التجارب المخصصة لتلك الفكرة، والتي أقيمت بجامعة ييل أيضًا وشارك فيها فرانك كيل بعنوان(7) "لعنة الخبرة The Curse Of Expertise"، هو أن تقييم الخبراء بالدرّاجات، أو أي آلة أخرى بالتجارب الأخرى، جاء أعلى بفارق كبير مما يعرفونه بالفعل مقارنة بالشخص غير الخبير، لكن ذلك كان واضحًا بشكل خاص فقط ضمن نطاق خبرة هذا الخبير، أي أن تسأل خبيرا بالدّراجات عن الدرّاجة، أما بالنسبة لتقييم الخبراء لمناطق خارج نطاق خبرتهم، فكانوا أدق كثيرًا من المواطن العادي، ويرجح ذلك الدور الهام للتعليم، فهؤلاء الذين تلقوا تعليمًا جيدًا سجّلوا في تجارب كيل وروزنبليت نتائج أفضل من أقرانهم الذين لم يتلقّوا تعليمًا جيدًا.

 

كذلك، بجانب الخبرة، هناك عدة أسباب(8) يُعتقد أنها السبب في حدوث هذا النوع من الأوهام المعرفية، أوّلها؛ هو إرجاع وهم المعرفة إلى كيفية الاستخدام، يعني ذلك، مثلًا، أن معرفة الشخص العادي بكيفية استخدام الهاتف النقال، يجعله يظن أنه يعرف كيف يعمل، سبب آخر هام يتعلق بنمط حياتنا اليومية، هو أننا لم نتعرض بالقدر الكافي لشروحات وافية لأي شيء، ولم نبحث عنه كذلك، خذ مثلًا ذلك الاستفتاء(9) الهام الذي يقول إن 6 من كل 10 أمريكيين لا يقرأون من الخبر إلا عنوانه فقط. إن أشهر طرق المعرفة حاليًا هي الفيديوهات القصيرة جدًا التي تشعل الأنترنت، التويتات وتدوينات الفيسبوك، إذ يميل المجتمع إلى السطحية، وحينما يكون هذا هو كل ما في المجتمع، فإن هناك ظنا عاما أننا نعرف أكثر ما نعرف حقًا.

 

الاستقطاب السياسي

كان سقراط صادقًا، بشكل ما، إذن في قوله إن "كل ما أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئًا"، لكن ذلك في نطاق "وهم عمق القدرة على الشرح" يختص بالآلية التي نرى بها العالم ونتعلمه، والأمر قد يتطرق ربما لما هو أبعد من ذلك، فمثلًا، في تجربة لـفيل فيرنباش(10،11) من جامعة بون، سنة 2013، سُئل الخاضعون للتجربة عن تقييم قدر معارفهم بموضوعات سياسية واقتصادية كمشكلات الضرائب والتأمين الصحّي مثلًا، والتغير المناخي والسياسات الخارجية والمهاجرين، ثم في نفس الوقت تقييم قدر تطرفهم لدعم تلك الأمور.

ربما يقلل التعليم من درجات استقطابنا في فترة من تاريخ هذا الكوكب لا شيء فيها إلا الاستقطاب والتطرف، وهو جم ما نرغب به في عالم حرج كهذا العالم.
ربما يقلل التعليم من درجات استقطابنا في فترة من تاريخ هذا الكوكب لا شيء فيها إلا الاستقطاب والتطرف، وهو جم ما نرغب به في عالم حرج كهذا العالم.

هنا جاءت النتائج لتقول إن هؤلاء الذين طلب إليهم تقديم شرح لآلية عمل تلك التوجهات السياسية، قللوا من تقييمهم لذواتهم ولدرجات دعمهم لتلك الموضوعات السياسية والاقتصادية، أما هؤلاء الذين طلب منهم فقط تعديد أسباب دعمهم لهذا التيار أو التوجه دون غيره، فقد استمرت تقييماتهم كما هي، ما يعني أن هؤلاء الناس في البداية قد تطرَّفوا لصالح توجه سياسي ما، ظنًا أنهم يفهمون جيدًا آلية العمل السببية لهذا التوجه، وبالتالي، فإن وهم عمق القدرة على الشرح، كان سببًا في التطرف السياسي، هنا سوف نسأل لمرة أخيرة: ما الحل إذن؟

 

الإجابة قد تكون في التعلّم، سواء في العموم، أو بتعلّم تلك التحيّزات الإدراكية (12،13،14) قدر الإمكان، الأشخاص الأكثر تعليمًا كانوا في كل الاختبارات أكثر قدرة على تجاوز أوهام المعرفة، عدا أزمة التخصص، سواء أن يكون هذا التعليم هو سياسة دولة أو حتّى تعلمًا ذاتيًا، فربما يقلل ذلك من درجات استقطابنا في فترة من تاريخ هذا الكوكب لا شيء فيها إلا الاستقطاب والتطرف يسيطر على أروقة مباني الرئاسة ووزارات الدفاع ومجالس الشيوخ ووسائل الإعلام. هنا، والآن، يكون التعلّم سببًا في التواضع المعرفي، في الحكمة، وهو جم ما نرغب به في عالم حرج كهذا العالم.

————————————————

ملاحظة

لتعلّم بعض الشيء عمّا يعنيه التواضع كفلسفة، ينصح كاتب التقرير بمساق مهم ورائع، لكنه ليس بالسهولة الكافية، مقدم عبر منصة "كورسيرا(15) Coursera"، بعنوان "Intellectual Humility"، المساق يعرض لمجموعة هامة من التحيزات الإدراكية، والتي تضع البشر في منطقة "عمى" حقيقي بالواقع، أو بذواتهم، وبالتالي يفتح ذلك الباب لوقوعنا تحت أسر عواطفنا، بغض النظر عن مدى عقلانية حججنا، ويؤثر ذلك كثيرًا على نمط حياتنا، سواء فكريًا أو -حتى- اقتصاديًا، خاصة حينما تتلاعب شركات التسويق بعواطفنا.

المصدر : الجزيرة