شعار قسم ميدان

تضامن برائحة المونديال.. كيف فككت قطر آلاف المنازل المتنقلة وأرسلتها إلى ضحايا زلزال تركيا وسوريا؟

رغم مأساوية الحدث الذي خلّف أكثر من 50 ألف قتيل، فإنه كان اختبارا مباشرا لمصداقية الدعاوى التي نادت بها قطرفي خضم تحضيراتها للمونديال بأن الكثير من منشآتها التي استقبلت فيها أكثر من مليون ونصف سائح خلال شهر واحد سيُستفاد منها بالتبرُّع عبر أوجه مختلفة للدول الأكثر احتياجا، وهو ما حدث بعد أقل من شهرين من انتهاء المسابقة العالمية.

"في ضوء الاحتياجات العاجلة في تركيا وسوريا، قررنا أن نشحن مقصوراتنا وبيوتنا النقالة إلى المنطقة لتوفير دعم فوري يحتاج إليه بشدة شعبا تركيا وسوريا".

كان هذا تصريحا لمسؤول قطري عالي المستوى لوكالة "فرانس برس"، بعد ساعات من الهزة الأرضية المُدمِّرة بقوة 7.8 ريختر التي ضربت جنوب تركيا وشمال سوريا، فجر السادس من فبراير/شباط، وتسببت في دمار هائل في المنشآت والبنى التحتية للمدن الكائنة على الحدود التركية – السورية، وخلّفت أعدادا هائلة من القتلى لامست الخمسين ألفا بعد مرور قرابة أسبوعين من الكارثة، فضلا عن مئات الآلاف من الجرحى والمُصابين والمفقودين في كلا الجانبين.

التصريح القطري جاء بعد تغريدة رسمية لأمير البلاد يعلن فيها الوقوف إلى جانب تركيا وسوريا من خلال حزمة من المساعدات لمواجهة أضرار الزلزال، عبر جسر جوي يحمل فريقا للبحث والإنقاذ يتبع قوة الأمن الداخلي القطري "لخويا"، بالإضافة إلى مستشفى ميداني ومساعدات إغاثية فورية وخيام ومستلزمات شتوية. (1، 2)

ورغم أن الموقف القطري جاء في خضم حملة عالمية لإرسال المساعدات إلى المناطق المنكوبة في الدولتين، تزامنا مع إطلاق جسور جوية من مختلف دول العالم لإغاثة المتضررين، فإن جزءا أساسيا من المعونات القطرية إلى تركيا وسوريا كان لافتا للنظر بشكل أكبر من جملة المساعدات العالمية، كونها أعادت إلى الأذهان واحدا من أهم الموضوعات التي أثارت انتباه العالم أثناء تنظيم دولة قطر للمونديال العالمي نهاية العام الماضي.

رائحة المونديال

في تغريدة رسمية لصندوق قطر للتنمية، وهو كيان حكومي مسؤول عن التنمية الدولية والمساعدات الخارجية التي تشرف عليها دولة قطر، أعلن الصندوق أن الدوحة ستتبرع بـ10 آلاف منزل متنقل كانت مخصصة للمشجعين الوافدين إلى أراضيها أثناء بطولة كأس العالم 2022.

بعد التصريح بقليل، نشرت وسائل الإعلام الاجتماعي صورا ومقاطع فيديو للشحنة الأولى من المنازل المتنقلة التي بدأ إرسالها يوم 13 فبراير/شباط، وتضم 350 منزلا. ومن المتوقع أن تتوالى الشحنات بكميات أكبر من المنازل، مع ارتفاع أعداد الضحايا، وتفاقم أزمة الإسكان في المدن المتضررة لكلتا الدولتين بعد تدمير عدد هائل من المنشآت والمباني السكنية، وصعوبة توفير منازل وملاجئ للناجين والمشرّدين إثر الأزمة.

جاء هذا الإجراء تزامنا مع زيارة رسمية من أمير قطر إلى تركيا بصفته أول زعيم أجنبي يصل إلى إسطنبول ليُجري لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحثا عن السبل التي يمكن أن تساهم بها الدوحة للتخفيف من آثار الكارثة، ونقل التضامن القطري مع الضحايا.

قطر كانت قد أعلنت أثناء تنظيمها لكأس العالم أنها تخطط للتبرع بالكثير من وحدات المنازل المتنقلة التي قامت بتجهيزها لاستضافة المشجعين على أراضيها. هذه المنازل المتنقلة سهلة التركيب والتفكيك ساهمت بشكل كبير في تخفيف التكدس في الفنادق والمنازل السياحية، وساعدت في استضافة عدد كبير من المشجعين أثناء إقامة البطولة، الذين قُدِّرت أعدادهم بنحو 1.5 مليون وافد خلال شهر واحد.

ومع انتهاء البطولة، قامت قطر بتفكيك هذه المنازل وتجهيزها للتبرّع بها للدول والمؤسسات التي في حاجة إلى مساعدات عاجلة، حتى جاء زلزال تركيا الذي تسبب في دمار أعداد هائلة من المنازل السكنية في جنوب تركيا وشمال سوريا، ما جعل التبرع بهذه المنازل المتنقلة لتوفير بيوت للناجين والمتضررين من أكثر المساعدات الضرورية التي تحتاج إليها الدولتان وتحمل بصمات كأس العالم. (2)

نظرة داخلية

قبل انطلاق بطولة كأس العالم في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، بدأ المنظّمون في قطر تأسيس ما يشبه مدينة صغيرة في منطقة المسيلة بالعاصمة القطرية الدوحة، أُطلق عليها اسم "مدينة الكرفان" أو "قرية الكرفان". جاء تأسيس هذه المدينة الترفيهية الصغيرة بهدف توفير حل ذكي ومؤقت لاستقبال أعداد كبيرة من المشجعين الوافدين إلى أراضيها لحضور البطولة، خصوصا المشجعين ذوي الميزانيات المتوسطة.

المدينة كانت تتكون من عدد كبير من المقطورات يصل إلى 1000 مقطورة، تضم بيوتا متنقلة "كرفانات" تحت 6 فئات مختلفة الأسعار، ومزودة بعدد كبير من الخدمات الترفيهية. وبحسب التقارير الصحفية التي ألقت نظرة تفصيلية على طبيعة الحياة في مدينة الكرفان، فإن معظم هذه البيوت قدّمت خدمات أساسية مثل الاتصال بالإنترنت وجهاز تكييف وسريرين، ويمكنها استيعاب 2-4 أشخاص، فضلا عن أنظمة متقدمة للكهرباء والمياه الجارية.

أما الأسعار، فمع تقسيم البيوت المتنقلة إلى عدة فئات، كان إيجار المنزل الواحد يوميا يبدأ بنحو 200 دولار، ويتصاعد ليصل إلى أكثر من 1000 دولار في الليلة الواحدة كلما زادت وسائل الرفاهية المُلحقة بالمنزل. كما ضمّت المدينة عددا من المقاهي والأنشطة الترفيهية وصالات الرياضة والألعاب والمطاعم، الأمر الذي جعلها أشبه بمدينة صغيرة متكاملة الخدمات، بُنيت بالكامل حول المقطورات التي تضم هذه البيوت المتنقلة سهلة التركيب والتفكيك.

استوعبت مدينة الكرفان عدة آلاف من مشجعي كأس العالم، وكانت المدينة من ضمن المنشآت التي أعلنت قطر أنها ستتبرع بها إلى الدول الصديقة بعد انتهاء المونديال، بعد أن حققت الهدف المطلوب منها بتوفير أماكن إقامة مريحة لأعداد كبيرة من المشجعين لتقليل الضغط على فنادقها ومنشآتها السكنية أثناء البطولة، دون أن تضطر إلى إنفاق مبالغ كبيرة على صيانتها أو الإبقاء عليها بعد انتهاء المسابقة العالمية. (3، 4، 5)

لا أفيال بيضاء

تم تفكيك ملعب 974 بالكامل، ويعد أول ملعب في العالم يُفكك للاستخدام لأغراض أخرى بعد نهاية البطولة. (شترستوك)

كانت قطر قد أعلنت أثناء رحلتها لتنظيم كأس العالم 2022 أنها تستهدف تقديم نموذج استدامة في جميع المنشآت التي قامت ببنائها من أجل استضافة المسابقة الدولية، حيث اعتمدت الكثير من المنشآت الرياضية والسياحية على مبدأ التركيب والتفكيك السهل، لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من هذه المنشآت بعد انتهاء البطولة، سواء بإعادة تدويرها في مشروعات داخلية أو التبرع بها لدول صديقة، وذلك تجنبا لمأزق "الأفيال البيضاء"، وهو مصطلح اقتصادي يشير إلى ارتفاع تكلفة صيانة المنشآت التي صُنعت لأجل هدف معين، ولم يعد بالإمكان الاستفادة منها.

بعد انتهاء البطولة، فككت قطر ملعب 974 بالكامل الذي بُني أساسا عبر تجميع حاويات السفن، وأُعيد استخدام الحاويات مرة أخرى في الشحن والنقل البحري. بينما شهدت العديد من الملاعب الرياضية الأخرى التي شيّدتها قطر تفكيكا لعدد كبير من مقاعد المتفرجين والأجهزة وغرف اللاعبين وغيرها، وتحويل طوابقها العلوية إلى فنادق فخمة أو مجمعات تجارية.

حتى ملعب لوسيل الذي يُعَدُّ درة الملاعب، الذي شهد مباراة النهائي بين الأرجنتين وفرنسا، ويُعَدُّ تحفة معمارية صُمِّمت على شكل وعاء عربي تقليدي مزخرف بألوان ذهبية، ويتسع إلى 80 ألف متفرج، فقد صُمم بأدوات مستدامة أتاحت لقطر أن تقوم بتفكيك عدد كبير من مقاعده وإعادة استخدامه في بناء متاجر وفنادق ومحلات، فضلا عن التبرع بعدد كبير من مقاعده، والإبقاء على هيكله الخارجي ذكرى لبطولة كأس العالم.

ومنذ نهاية كأس العالم، وضعت قطر إستراتيجية للتبرع بأكثر من 170 ألف مقعد بعد إزالتها من ملاعبها للدول النامية التي تعاني في تأسيس بنى تحتية رياضية جيدة، إلى جانب التبرع بآلاف البيوت المتنقلة التي استضافت من خلالها عشرات الآلاف من المشجعين والسياح لحضور المباريات على أراضيها، التي قررت الدوحة أخيرا أن أفضل جهة للتبرع بها هي تركيا وسوريا إثر الزلزال المدمر الذي هزّ المنطقة. (6)

جهود عربية

الجهود القطرية لإرسال 10 آلاف منزل متنقل لإغاثة منكوبي الزلزال في سوريا وتركيا تزامنت مع حملة تبرعات شعبية واسعة النطاق لامست سقف الخمسين مليون دولار في يومها الأول، تقدمها أمير البلاد بنفسه. كما أطلقت المؤسسات الخيرية القطرية حملة تبرعات كبيرة تستهدف توسيع نطاق التدخل الإغاثي للمتضررين من الزلزال، ومشاريع الإنعاش المبكر وإعادة الإعمار.

لم تقتصر جهود التضامن والإغاثة على قطر وحدها، حيث دشنت المملكة العربية السعودية جسرا إغاثيا ضم 12 طائرة محملة بالمساعدات حتى وقت كتابة هذا التقرير، فضلا عن إطلاق حملة تبرعات للضحايا جمعت أكثر من 100 مليون دولار. من جانبها، أعلنت الإمارات عن مساعدات بمبلغ 100 مليون دولار مناصفة بين تركيا وسوريا، وأطلقت حملة جسور الخير لجمع التبرعات لإغاثة المنكوبين في البلدين، تزامنا مع تدشين جسر جوي لنقل المساعدات. من جانبها، قدمت الكويت أيضا مبلغ 30 مليون دولار مناصفة بين تركيا وسوريا، وأطلقت حملة "الكويت بجانبكم" لجمع التبرعات للمتضررين من الشعبين.

كما أطلقت كلٌّ من سلطنة عمان والبحرين جسورا جوية محملة بالبضائع والتبرعات لإغاثة المنكوبين، إلى جانب 16 دولة عربية أخرى ساهمت في جهود الإنقاذ، حيث بلغ إجمالي التبرعات العربية وخصوصا الخليجية، بحسب ما قدرته وكالة الأناضول، خلال الأسبوع الأول بعد الهزة الأرضية المدمرة في تركيا وسوريا نحو 385 مليون دولار، ما بين تبرعات نقدية وإغاثية. (7)

في النهاية، يمكن القول إنه رغم مأساوية الحدث الذي خلّف أكثر من 50 ألف قتيل، فإنه كان اختبارا مباشرا لمصداقية الدعاوى التي نادت بها قطر عدة سنوات في خضم تحضيراتها للمونديال بأن الكثير من منشآتها سيُستفاد منها بالتبرّع عبر أوجه مختلفة للدول الأكثر احتياجا، وهو ما حدث بعد أقل من شهرين من انتهاء المسابقة العالمية، كما أنه كان اختبارا أظهر تضامن العرب والمسلمين في كل مكان مع أشقائهم المنكوبين بفعل الكارثة.

______________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة