شعار قسم ميدان

فرصة أم كارثة.. هل يمكن تأسيس شركة ناشئة ناجحة وسط ركود اقتصادي عالمي؟

ما العامل المشترك الذي يمكن أن يجمع بين شركة "جنرال موتورز" لصناعة المحركات التي تأسست في عام 1908 ومحطة "CNN" الإعلامية التي تأسّست عام 1980؟ وبين شركتَيْ أبل ومايكروسوفت للتقنية اللتين تأسّستا في أوائل السبعينيات؟ وبين "أوبر" (uber) للنقل التشاركي و"إير بي إن بي" (Airbnb) لتأجير العقارات اللتين تأسس كلاهما في عام 2008؟ للوهلة الأولى ستبدو الإجابة أن الشيء المشترك بين هذه الشركات هو أن جميعها شركات عملاقة في تخصصات مختلفة. ولكن في الواقع هناك عنصر آخر مشترك، وهو أن جميع هذه الشركات تأسست في منتصف ركود اقتصادي عنيف أطاح بآلاف الشركات في فترات زمنية مختلفة.

 

التاريخ يُخبرنا أنه رغم أن الركود الاقتصادي هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث بالنسبة للشركات في معظم المجالات، وأنه في معظم الأحوال يعني بالضرورة شهادة الوفاة لآلاف الأعمال التجارية وتأزُّم الأوضاع الاقتصادية، فإنه -في الوقت نفسه- كان دائما يُلوِّح ببارقة الأمل للشركات الناشئة أن أمامها فرصة للصمود أمام العاصفة، وأحيانا تغيير قواعد اللعبة بالكامل. (1)

new work

عنوان ميدان

في يونيو/حزيران 2020، أعلن البنك الدولي أن من المُتوقَّع أن ينكمش الاقتصاد العالمي بنسبة 5.2% في ظل انتشار جائحة كورونا، وأن اقتصاديات الدول المتقدمة قد تشهد انكماشا يصل إلى 7%، وهو ما يعتبر أسوأ أداء اقتصادي على مستوى العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945.

 

بالنسبة للولايات المتحدة، فبالفعل صُنِّفت رسميا بدخول مرحلة الركود (Recession) في مايو/أيار، مع ارتفاع نسبة البطالة إلى مستوى قياسي لامس سقف الـ 22 مليونا، رغم انخفاضه بشكل طفيف في الأشهر اللاحقة من العام. في بريطانيا، توقَّع بنك إنجلترا في صيف 2020 أن البلاد سوف تشهد أسوأ ركود اقتصادي لها منذ عام 1706 (أي ما يزيد على 314 عاما مضت) بانكماش يصل إلى 14%.

 

أما في آسيا، فقد أصدر البنك الدولي تقريرا يتوقَّع فيه أن جائحة كورونا ستتسبّب في أسوأ نمو اقتصادي تشهده منطقة جنوب شرق آسيا والصين منذ أكثر من 50 عاما بنسبة نمو 0.9% فقط، وهي أدنى نسبة نمو تشهدها المنطقة منذ عام 1967. كما أن المتوقَّع أن يصل النمو في الصين إلى 2% هذا العام، وأن تشهد بقية منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي انكماشا بنسبة 3.5%. هذه الأرقام قد تؤدي إلى الدفع بـ 38 مليون شخص في هذه المنطقة إلى خط الفقر.

 

على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فبحسب تقرير البنك الدولي من المتوقَّع أن يشهد النشاط الاقتصادي في المنطقة انكماشا بنسبة 4.2% نتيجة لتوابع جائحة كورونا ومستجدات أسواق النفط. (2، 3، 4، 5)

 

عنوان ميدان

new work

على مدار الأشهر التي تلت الإعلان عن جائحة كورونا، ودخول الاقتصاد العالمي مرحلة الركود، كان قطاع الشركات الناشئة من القطاعات الأكثر تضررا، لدرجة اعتباره حدث انقراض جماعي (Mass extent event) للشركات الناشئة بحسب تقرير مناخ الشركات الناشئة العالمي (Global Startup Ecosystem Report) الذي سلَّط الضوء على تداعيات الأزمة التي تسبَّبت فيها الجائحة على مستوى الشركات الناشئة.

 

ما بين انهيار حاد في معدلات التمويل الجريء للشركات الناشئة، وتراجع في معدلات الإنفاق، وتسريح أعداد كبيرة من الموظفين النظاميين، وما بين مشكلات في الإدارة والتشغيل وخطط التوسُّع، وليس انتهاء بركود كامل في صناعات معينة على رأسها قطاعات السياحة والسفر، أدَّت الجائحة إلى أوضاع كابوسية لمعظم الشركات الناشئة في العالم كله، بما فيها المنطقة العربية، وهو ما أفردنا له تقريرا مستقلا سابقا. (6)

 

لكن في المقابل، كان من التوابع الرئيسية لهذا الركود الصعودُ الهائل في معدل تأسيس الشركات الجديدة بعد التخلي عن ملايين الموظفين حول العالم. ففي الولايات المتحدة التي تُعتبر من أكثر بلاد العالم تضرُّرا، تقول الإحصائيات إن البلاد شهدت طفرة في طلبات التقديم لإنشاء شركات جديدة بمعدل كبير مقارنة بالسنوات الماضية. على سبيل المثال شهد الأسبوع الأربعين من عام 2020 -أي الأسبوع الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020- أكثر من 91 ألف طلب لإنشاء شركة تجارية جديدة، وهو ما يعني زيادة تُقدَّر بـ 39% من الفترة نفسها مقارنة بالعام الماضي. (7)

 

عنوان ميدان

necessity entrepreneurship

هذه الظاهرة -ظاهرة تأسيس شركات تجارية في وسط أزمة ركود اقتصادي- يطلق عليها الاقتصاديون اسم "ريادة الأعمال الاضطرارية" ( necessity entrepreneurship). فمع موجات التسريح الهائلة من الوظائف النظامية، وارتفاع معدلات البطالة، يكون البديل الأساسي -وربما الوحيد في ظل انخفاض معدلات التوظيف- هو لجوء الملايين لبدء تأسيس شركة تجارية تُتيح لهم مصادر دخل جديدة.

 

ريادة الأعمال الاضطرارية عادة ما تكون الخيار الأول للأشخاص الذين كان لديهم أفكار تجارية مُعلَّقة لم يقوموا باختبارها من قبل باعتبار أن لديهم وظائف نظامية بالفعل تدرّ لهم دخلا ثابتا يُمكِّنهم من تأجيل تنفيذ هذه الأفكار التجارية إلى أجل غير مُسمّى. في أوقات الركود الاقتصادي، تكون هذه الفئة هي الأكثر ميلا لتأسيس أعمال تجارية بعد خسارة الوظيفة أو تهديد أمانهم الوظيفي بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

من ناحية أخرى، يُمثِّل مفهوم "الاضطرار" للبعض الآخر اقتناصَ الفرصة لتأسيس شركات يتعطّش لها السوق تحت وطأة الركود الاقتصادي، والعمل على تلبية متطلبات السوق الجديد في ظل الأزمة حتى لو لم يكن لديه الخبرة الكافية لتلبيتها، مثل شيوع الشركات الصغيرة التي ظهرت لتصنيع الكمامات والواقيات في بداية انتشار الجائحة، وما أعقبها من طفرة كبرى في تمويلات الشركات المتخصصة في مجالات الصحة والتطبيب والتعليم عن بُعد، باعتبارها المجالات الأكثر إلحاحا لتلبيتها في زمن الجائحة ولا يمكن الاستغناء عنها بحال. (1، 8)

 

عنوان ميدان

ريادة أعمال

في مقالته المنشورة في موقع فوربس العالمي المتخصص في مجال الأعمال، اتخذ جون غريتهاوس رائد الأعمال المتسلسل (serial entrepreneur) منحى مختلفا لاستعراض تأثير الركود الاقتصادي مُركِّزا على ما يصفه الاقتصاديون بـ "الجانب الإيجابي" منه بالنسبة للشركات والأعمال التجارية الناشئة.

 

المرونة: من أبرز الخصائص التي تُعتبر فرصة واضحة للشركات الناشئة والأعمال التجارية الصغيرة أثناء الركود الاقتصادي إمكانية أن تتحرك سريعا وبمرونة أكبر بكثير، بينما تعاني الشركات الكبرى في إعادة هيكلة وتنظيم نفسها خلال وقت طويل للتكيُّف مع الأزمة. الشركة الصغيرة هنا أشبه بدولفين سريع الحركة، يمكنه تغيير مساراته بشكل أسرع وأسهل، بينما تستغرق الحيتان الكبرى وقتا طويلا وجهدا كبيرا لتغيير مساراتها والتأقلم مع الواقع الجديد.

 

خلق الفرص: يتسبَّب الركود الاقتصادي في خلق المزيد من المشكلات، وغالبا ما يكون الهدف الأساسي للشركات الناشئة الصغيرة هو التركيز على الابتكار والإبداع (Innovation) للتغلب على هذه المشكلات وتوفير حلول فعّالة لها بشكل أكثر سرعة من الشركات الكبيرة التي تحتاج إلى وقت طويل لتطوير منتج أو خدمة ودراسة ملاءمته للسوق ومواءمات الأرباح والإيرادات.

 

هذه المزية تحديدا -تركيز الشركات الناشئة على الابتكار وخلق الحلول- كانت السبب في ظهور الشركات التقنية الناشئة التي غيّرت معادلات الأسواق العالمية، مثل شركة مايكروسوفت وأبل اللتين ظهرتا أثناء ركود كبير في السبعينيات، وهو أيضا ما أدّى إلى ظهور عشرات الشركات الناشئة في وادي السيليكون في فترة الأزمة المالية العالمية 2008-2010 التي تحوّلت لاحقا إلى شركات عالمية ضخمة مثل "أوبر" و"إيربي إن بي" و"واتساب" وغيرها.

انفوغراف بعنوان ( شركات تقنية عملاقة تأسست أثناء الأزمة المالية العالمية 2008 - 2010 )

 

عنوان ميدان

لكنّ واحدا من أهم "إيجابيات" الركود الاقتصادي على الشركات حديثة التأسيس هو انخفاض التكاليف، ليس فقط فيما يخص العمليات المتصلة بالتشغيل، بل أيضا فيما يخص انخفاض تكاليف التوظيف، وهو ما يؤدي إلى زيادة نشاط الشركة بشكل ملحوظ.

 

انخفاض التكاليف: واحدة من أهم مزايا تأسيس الشركات الصغيرة في فترات الركود الاقتصادي هي انخفاض أسعار المنتجات والخدمات، أو على الاقل لا يُتوقَّع زيادتها خلال فترة الأزمة. وبالتالي، يبيع المورّدون وتجار التجزئة المنتجات والخدمات بأسعار أقل لتحريك المخزون لديها وتقليل معدلات الخسائر.

 

حتى بالنسبة للقروض والاستثمارات في الشركات التجارية، فإن أسعار الفائدة تكون في أدنى مستوياتها لاقتراض المال أو فتح خطوط ائتمان جديدة لتمويل العمليات برسوم وأسعار أقل، مما يجعل هذا التوقيت يُعتبر فرصة لمؤسسي الشركات الصغيرة والناشئة بتخفيض النفقات في معظم العمليات، والتركيز بشكل أكبر على تطوير الخدمة والمنتج وتسويقه.

 

سهولة توظيف الكفاءات: فمع ارتفاع معدلات البطالة نتيجة لتسريح الشركات لملايين الموظفين، يعج السوق الوظيفي بعدد كبير من الموظفين ذوي الكفاءات العالية الذين يبحثون عن فرصة عمل جديدة في إحدى الشركات، أو ما سمَّاهم "جون غريتهاوس" بـ "اللاجئين القادمين من شركات كبيرة"!

 

تستغل الشركات الصغيرة حالة الركود الاقتصادي في توظيف "اللاجئين" الذين يقبلون غالبا بتقاضي أجور أقل مما أُتيح لهم قبل أزمة الركود الاقتصادي، فقط لتأمين وظيفة نظامية. وبالتالي، يكون متاحا أمام الشركات الناشئة والصغيرة تعيين كفاءات عالية بخبرات كبيرة في شركاتهم، مقابل أجور كان من الصعب لتلك الكفاءات قبولها في الظروف العادية.

 

الأمر نفسه بالنسبة للبحث عن شريك صاحب خبرة كبيرة، فأوقات الركود الاقتصادي تكون مثالية للعثور على شريك مؤسس (Co Founder) جيّد تخلّى عن وظيفته أو سُرِّح منها بدوره ويبحث عن فرصة تأسيس عمل تجاري كونه حلا بديلا لوظيفته النظامية. (9، 10، 11)

 

 عنوان ميدان

نقص التمويل

مع حقيقة أن هناك مزايا للشركات الصغيرة والناشئة يجب الاستفادة منها في ظل الأزمة، وحقيقة ظهور كيانات صغيرة أثناء أزمات الركود الاقتصادي على مدار العقود الماضية تحوّلت لاحقا إلى شركات عملاقة، فإن الأمر يظل يحمل في طياته الكثير من أوجه المخاطر والصعوبات التي يمكن أن تمرّ بها هذه الشركات، مثلها مثل آلاف الشركات الأخرى التي تعرّضت للإغلاق.

 

يظل نقص التمويل وأزمة التدفق النقدي (Cash flow) الناتج عن انخفاض الطلب في الأسواق على رأس المخاطر التي تمرّ بها الشركات الناشئة التي تتأسس في خضم ركود اقتصادي، والسبب الرئيس في هذه الأزمة هو تراجع صناديق الاستثمار الجريء والمستثمرين الأفراد في ضخ أموالهم في شركات ناشئة جديدة، مع ضبابية الرؤية للسوق في هذه الظروف، مما يؤدي إلى الإطاحة بالكثير من الشركات الناشئة التي تعمل في الأسواق التي طالها الركود، وهو ما حدث بالفعل بعد أسابيع من جائحة كورونا لأغلب الشركات الناشئة حول العالم.

 

ومع ذلك، يبقى الحل لتجاوز هذه العقبة بتركيز الشركات الناشئة على القطاعات الجديدة التي وَلَّدها الركود الاقتصادي لتوفير الحلول الإبداعية لها، وهو ما يُسهِّل فرص حصولها على جولات تمويلية كونها أولوية عن غيرها أثناء الأزمة. (12، 13، 14)

 

في النهاية، جميع فترات الركود تنتهي، حتى لو أخذت معها آلاف الضحايا من الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة التي لم تستطِع التأقلم بشكل كافٍ، لكن التاريخ أثبت أن هذه الفترات من الركود الاقتصادي كانت سببا في نهاية شركات تقليدية، وبداية شركات أخرى غير تقليدية تسلّمت دفة القيادة وتحوّلت هي بعد مرور الأزمة إلى أقطاب في أسواقها.

____________________________________________________________________

المصادر

  1. Why a recession can be a good time to start a business
  2. كورونا تهوي بالاقتصاد العالمي في غمرة أسوأ كساد منذ الحرب العالمية الثانية
  3. World Bank says coronavirus to shrink 2020 global output by 5.2%
  4. Pandemic pushes US into official recession
  5. Bank of England warns of sharpest recession on record
  6. البجعة السوداء.. كيف أثّرت جائحة كورونا على المشاريع الناشئة في العالم والمنطقة العربية؟
  7. Business Formation Statistics
  8. Necessity Vs. Innovation-Based Entrepreneurs
  9. Recession Coming? 10 Reasons To Start A Company In A Downturn
  10. Top 8 Reasons to Start a Business in a Recession
  11. Top 10 Reasons to Start a Business in a Recession
  12. The Pros and Cons of Founding a Startup During a Recession
  13. استغلال الجائحة.. القطاعات الناشئة الأكثر ازدهارا في زمن كورونا
  14. Why a Recession is a Great Time to Launch a Startup