شعار قسم ميدان

لماذا عليك أن تتوقف عن توجيه الكاميرا إلى وجه طفلك حالا؟

"إن الأزمة الحقيقية للعصر الرقمي ليست اختفاء الطفولة؛ بل شبح طفولة لا يمكن نسيانها أبدا"

(الكاتبة كيت إيشهورن)

فيما مضى، كان التصوير لحظة مهمة، نتأنق من أجلها ونذهب إلى الأستوديو، أو نجهز كاميرا فوتوغرافية لتسجيل حدث مهم مثل عيد ميلاد أو رحلة، الصور كانت محدودة ولذلك كل صورة مهمة ولها ثمن، فلا نستعجل بالضغط على زر الالتقاط إلا بعد أن نرى لحظة تستحق ذلك. صور الأطفال في تلك الحقبة عادة ما تكون نادرة وقليلة وعلى مراحل متفرقة من العمر.

ولكن الآن، ومع انتشار الهواتف الذكية، يحصل الأطفال على عشرات الصور يوميا منذ ولادتهم، ولتلك العادة آثار سيئة على الطفل، ونحن هنا لا نتحدث عن الصور التي تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وتنتهك خصوصية الأطفال منذ سن صغيرة فقط (1)، بل نتحدث أيضا عن الأثر النفسي الذي يتركه توجيه الآباء للكاميرا إلى أطفالهم يوميا على نفسية الطفل وتكوين شخصيته.

لماذا لم أعد مركز الكون؟

تسليط كاميرا الهاتف لفترة طويلة على الطفل قد يزيد من تصرفاته المبالغ فيها إذا انشغلت الأم عن تصويره فترة طويلة حتى يستعيد الاهتمام لنفسه. (شترستوك)

جوديث مايرز وولز، أستاذ في الدراسات الأسرية في جامعة بوردو، تلفت نظر الآباء إلى أن الطفل يكون فردا فعّالا في تجربة التصوير، بمعنى أنه يستوعب التجربة كاملة ويراقب ردود أفعال الآباء وقت تصويره مهما كان عمره صغيرا، ولذلك إذا كان الآباء يلتقطون الكثير من الصور لطفلهم فسيشعر الطفل مع الوقت أنه "مركز الكون"، وأن كل الاهتمام مُنصَب عليه وحده، خاصة بعد أن يدرك أن ما ينظر إليه الآباء في الهاتف هي صورته الشخصية.

مع الوقت، يتعود الطفل على مطالبة الآباء بأن يرى صورته التي التقطوها ليقيمها بنفسه، خاصة إذا كان رد فعل الآباء جيدا على الصورة ولاحظ ملامح الإعجاب على وجوههم، تلك لحظة مهمة جدا للطفل وتُشعره بأهمية مبالغ فيها.

توضح جوديث أن تصوير الأطفال ليس بالأمر الجديد، وقد ظهر مع ظهور الكاميرات ولكنه لم يكن حدثا يوميا مثلما هو الآن، وهي تحذر من أن هذا الإفراط في التصوير يتسبب في زرع بذرة النرجسية داخل الطفل، ولذلك تنصح الآباء ألا تكون الصور يومية، وألا تكون أيضا للطفل وحده، حيث يفضل أن تكون معظم الصور عائلية حتى لا يترسخ في لا وعي الطفل أنه الفرد الأهم في الأسرة. (2)

طبيعة الطفل بسيطة، إنه في حاجة دائمة إلى الاهتمام ولفت النظر، وتسليط كاميرا الهاتف لفترة طويلة على الطفل قد يزيد من تصرفاته المبالغ فيها إذا انشغلت الأم عن تصويره فترة طويلة حتى يستعيد الاهتمام لنفسه ويصبح مركز الكون مرة أخرى، قد يلجأ إلى كل ما هو مرفوض من الأم بشكل لا واعٍ منه حتى تنتبه له وتسلط عليه الكاميرا مرة أخرى، وفي حالات أخرى قد يبدأ في تصنُّع المرح والسعادة للفت الانتباه، وإذا أمسكت الأم الهاتف وصورت تلك اللحظة، فإن الطفل سيعتبر ذلك تأكيدا أن التصرفات المبالغ فيها والاستعراض لهما مقابل إيجابي. (3)

أريد وجها آخر

وجد استطلاع للرأي عام 2021 في كندا أن 37% من الأطفال الإناث لا يشعرن أنهن جميلات دون إجراء تعديلات على الصور. (شترستوك)

أضف إلى ذلك مشكلة أخرى عميقة، إذا كنت من الأجيال التي وُلدت قبل تطور تكنولوجيا الهواتف والتصوير، ونظرت إلى صور طفولتك الآن، فعادة ما ستجدها مضحكة وتشعرك أنك بت في صورة أفضل الآن (شكليا على الأقل)، وهذا يكون له تأثير نفسي إيجابي، ولكن هل يمر أطفال الأجيال الجديدة بالخبرة نفسها؟

حاليا تنتشر التطبيقات التي تسمح باستخدام "الفلاتر"، التي من شأنها تغيير ملامح الوجه بإخفاء عيوب البشرة أو تغيير لونها من الأساس وتغير لون العين وغيرها من الإعدادات، ويستخدم الآباء هذه "الفلاتر" لتصوير أبنائهم قبل إرسال الصور إلى الأصدقاء والأقارب ليكون الطفل في أفضل صورة. (4) ولكن هذا يكون له تأثير سلبي على المدى البعيد، فهذا الطفل سيرى على شاشة الهاتف شخصا وفي المرآة شخصا آخر مختلفا، وعندما يكبر سيشعر أن صوره وهو أصغر كانت أفضل من ملامحه الحالية. ومع الوقت قد يتخلى الطفل عن المرآة لأنها تذكره بشخص لا يعرفه، ليس الشخص نفسه الموجود على هاتف والديه، وسيلجأ إلى الكاميرا والفلاتر على أنها مرآة لنفسه، ما يجعل صورته الذهنية عن ذاته مشوشة.

يطلق علماء النفس الحديث على هذه الحالة اسم "خلل الفلاتر" (Filter Dysmorphia)، ويقصد به الحالة النفسية التي قد تنتاب الفرد خاصة الأطفال والمراهقين بتشوش الصورة الذهنية عن شكل وجههم الحقيقي بسبب الاستخدام المبالغ فيه للفلاتر وتعديل الصور. (5)

(شترستوك)

تؤكد الدراسات واستطلاعات الرأي هذه الحقيقة. ففي استطلاع رأي أجري في كندا عام 2021، تبين أن 80% من الإناث في سن الثالثة عشرة قد قاموا بتحميل تطبيقات تعديل الصورة ويستخدمونها يوميا (6)، ووجد الاستطلاع نفسه أن 37% من الأطفال الإناث لا يشعرن أنهن جميلات دون إجراء تعديلات على الصور.

الأكثر خطورة أن الأمور لا تقف عند هذا الحد. في إحصاءات نشرتها "مجموعة باسيفيك لجراحات التجميل"، ظهر أن جيل الألفية في وقتنا الحالي يطلب عمليات تجميل أكثر مما مضى، ففي عام 2011 مثلا، أُجري ما يقرب من 800 ألف عملية تجميل على الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 18-30 عاما، وعموما زادت جراحات التجميل في الولايات المتحدة بنسبة 87% في العقد الماضي، والأخطر أن ما يقرب من 2% من تلك العمليات التجميلية قد أجريت للقُصَّر الذين تتراوح أعمارهم ما بين 13-18 عاما. (7)

هذا جيل قد تربى على إمكانية تعديل شكله الخارجي ولن يتنازل عن ذلك، ولأن عمليات التجميل ليست متاحة للجميع سواء لأسباب اقتصادية أو ثقافية؛ فهذا معناه أن هناك عددا كبيرا من الأطفال سيعيشون مع وجه لا يريدونه ويهربون منه داخل الفلاتر التي تعودوا عليها منذ الطفولة.

حتى الطفل له خصوصية

الأطفال يدركون تماما معنى المساحات الشخصية، وقد يطلبون من شخص عدم التقاط صور لهم، أو قد يستاؤون من إقحام الكاميرا في وقت اللعب. (شترستوك)

تخيل معي هذا المشهد: طفل يلعب مع أصدقائه منطلقا ولا يهمه شكل ملابسه، يقع على الأرض ثم يقف ضاحكا منظفا ملابسه بحركة لا إرادية دون أن ينظر إليها، فتأتي والدته من بعيد حاملة الهاتف طالبة منه التوقف عن اللعب وتعديل ملابسه من أجل اتخاذ صورة مثالية له، في هذه اللحظة لا تعرف الأم أنها حرمت طفلها من أمرين في غاية الأهمية: التركيز في متعة اللحظة، والخصوصية.

نحن لا نعني بالخصوصية هنا فقط نشر الأم للصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، بل يتحدث الخبراء النفسيون عن أهمية إدراك الآباء بأن الأطفال في حاجة إلى خصوصية ومساحة شخصية مثلهم مثل الناضجين، وتصويب الكاميرا عليهم في معظم الأوقات قد يشعرهم بالحصار والتوتر وفقدان مساحاتهم الشخصية.

لن يكون الأطفال قادرين على اللعب بتلقائية كلما شعروا أن الكاميرا موجهة عليهم، خاصة إذا كانوا على مشارف المراهقة ويهتمون برأي أصدقاء الوالدين على صورهم؛ وقتها لن يكون الطفل على طبيعته بغرض أن يظهر في أبهى صورة ولا يتعرض لتنمر أو يرى رد فعل سيئا من الأقارب والأصدقاء على صورته.

تقول تونيا روني، أستاذة في التوثيق الرقمي للأطفال في كلية التربية بالجامعة الكاثوليكية في أستراليا، إن على عكس ما يعتقده البعض فإن الأطفال يدركون تماما معنى المساحات الشخصية، وقد يطلبون من شخص عدم التقاط صور لهم، أو قد يستاؤون من إقحام الكاميرا في وقت اللعب مع أصدقائهم. (8)

هل يجب أن نتذكر كل تفصيلة عن طفولتنا؟

كتاب "نهاية النسيان: أن تكبر في عصر مواقع التواصل الاجتماعي" (مواقع التواصل)

أضف إلى ذلك مشكلة قد لا يدرك البعض أهميتها، فالكثير منا لديه ذكريات من الطفولة وبداية المراهقة يريد أن يمحوها من ذاكرته، مواقف محرجة وأيام سيئة، في الطبيعي يساعدك عقلك على نسيان هذا الموقف من أجل صحتك النفسية، ولكن صورة واحدة من هذا اليوم قد تذكرك بالموقف وتهز ثقتك بنفسك أو تحزنك.

تقول دارلين ماكلولين، الطبيبة النفسية والأستاذة المساعدة في كلية تكساس للطب، إن العقل قادر على تحريرك من هذه الذكريات عن طريق حجبها. (9) وفي كتابها "نهاية النسيان: أن تكبر في عصر مواقع التواصل الاجتماعي" (The End of Forgetting: Growing Up with Social Media)، تشير الكاتبة والباحثة في الدراسات الثقافية والإعلامية كيت إيشهورن (10) إلى أن توثيق جميع لحظات الأطفال والمراهقين ليست دائما إيجابية، حتى لو لم تكن منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي.

تقول كيت في كتابها إن من حق الطفل أن ينسى بعض ذكريات الطفولة، خاصة التي يختار العقل اللاواعي إخفاءها لأنها صادمة أو محرجة، وهذا العصر يحرم الأطفال من متعة نسيان فترات من الطفولة والمراهقة قد يكون استرجاعها سيئا لصحتهم النفسية، فالنسيان "حرية"، على حد وصف الكاتبة.

_________________________________________

المصادر

  1. ?What do parents think, and do, about their children’s online privacy
  2. ‘Center of the universe’: Experts warn against too many kid photos
  3. Do Young Children of the “Selfie Generation” Understand Digital Photos as Representations?
  4. Should Parents Use Filters on Baby Pictures?
  5.  From ‘Instagram Face’ To ‘Snapchat Dysmorphia’: How Beauty Filters Are Changing The Way We See Ourselves
  6. It’s Time to Have The Selfie Talk –
  7. MILLENNIAL GENERATION DRIVING UP DEMAND FOR COSMETIC SURGERY
  8. Is It Bad to Take So Many Pictures of My Kid?
  9. Psychiatrist explains how the brain blocks memory to help get through traumatic event
  10. The End of Forgetting: Growing Up with Social Media
المصدر : الجزيرة