شعار قسم ميدان

بعد حوادث القتل المتكررة.. هل الدراما مسؤولة عن قتل الفتيات في الشوارع؟

"وعَرش ربنا ما سَايبك تتهنِّي لحظة"، كانت هذه الجملة جزءا من إحدى رسائل التهديد التي أرسلها محمد عادل، الطالب بكلية الآداب بجامعة المنصورة، قاتل زميلته نيرة أشرف، إلى زميلته قبل أن يقوم بقتلها بحسب تحقيقات النيابة في مصر.(1) "عرش ربنا" هو اللفظ ذاته الذي استخدمه قاتل الطالبة سلمى بهجت الشوادفي، الطالبة بكلية الإعلام بأكاديمية الشروق، خلال رسائل تهديده لها بعدما رفضت الارتباط به (2)، في حادثة شهيرة أخرى تفصلها عن الأولى بضعة أسابيع.

إذا عُدنا إلى الوراء عامين فقط، تحديدا في رمضان عام 2020، الذي أُذيع خلاله مسلسل "البرنس"، نتذكر شخصية "فتحي" (أدَّاها الفنان أحمد زاهر) التي سيطرت على الساحة الدرامية حينها بانفعالاتها والألفاظ والتعبيرات التي ترددت على لسانها. فبعد إذاعة المسلسل، أصبح كثيرون يُرددون تعبيرات شخصية "فتحي" ويُقلِّدون طريقة كلامه. "وعرش ربنا" هو القَسَم الذي كانت تُردده شخصية "فتحي" خلال أحداث المسلسل، وكان دائما ما يُكرِّره في جميع أحاديثه، وقد كان هذا القَسَم لافتا للعديد من متابعي المسلسل.(3)

قد يخلق هذا التأثر بشخصية درامية إلى حد ترديد كلماتها وتبني انفعالاتها سؤالا حول مدى تأثير مقدار العنف المُقدَّم في الأعمال الدرامية على انتشار العنف والجرائم والسلوكيات العنيفة في المجتمع. بعبارة أخرى: هل يمكن توجيه اللوم للدراما وتحميلها جزءا من مسؤولية مقتل الفتيات بهذا الكم من العنف؟

"باتمان" حقيقي يقتل 12 شخصا

جيمس هولمز (رويترز)

في 20 يوليو/تموز عام 2012، وقع حادث إطلاق نار جماعي في دار سينما في أورورا بولاية كولورادو الأميركية. أسفر الحادث عن مقتل 12 شخصا، أصغرهم كانت فتاة تبلغ من العمر 6 سنوات، بالإضافة إلى إصابة ما لا يقل عن 70 آخرين. بدأ حادث إطلاق النار داخل السينما بعد وقت قصير من بدء عرض منتصف الليل لفيلم "عودة فارس الظلام" (The Dark Knight Rises).

عندما شاهد الجمهور الذي أتى لمشاهدة الفيلم جيمس هولمز، مُنفِّذ الحادث، الذي كان يبلغ من العمر حينها 24 عاما، وهو يدخل من الباب مُلقيا بعبوات الغاز، بينما يرتدي القناع القتالي الأسود الذي يرتديه باتمان، اعتقد بعضهم في البداية أنه يؤدي فقرة ترويجية للفيلم، وقبل أن يتبيَّن أحد من الجمهور ما الذي يحدث بالضبط، أطلق هولمز النار عليهم عشوائيا. وصلت الشرطة بسرعة إلى مكان الحادث، وقُبِض على هولمز خلف السينما دون مقاومة. خلال التحقيقات أخبر هولمز المُحققين أنه فجَّر منزله بأجهزة متفجرة، فيما علم المحققون أنه في الأشهر التي سبقت إطلاق النار على مسرح أورورا، حصل هولمز على أسلحة من متاجر أسلحة في كولورادو، وطلب آلاف الطلقات من الذخيرة عبر الإنترنت.

كان هولمز شابا مُلتحقا ببرنامج لدراسة الدكتوراه في علم الأعصاب في جامعة كولورادو أنشوتز في أورورا في عام 2011، لكنه ترك الدراسة في يونيو/حزيران 2012 بعد إخفاقه في اختبار مهم.(4) أثار الحادث حينها، الذي مرَّ عليه الآن نحو 10 أعوام، جدلا واسعا وأشعل النقاشات في مجتمع الطب النفسي حول العنف الإعلامي وتأثيراته على السلوك البشري. هل تأثر هولمز بشخصية باتمان الخيالية إلى حد تقليده بهذه الصورة؟

تُشير أدلة بحثية واسعة النطاق إلى أن العنف المُتداول في وسائل الإعلام يمكن أن يساهم في السلوك العدواني، وإزالة التحسس من العنف، والكوابيس.

بالعودة إلى الوراء أكثر، تحديدا عام 2002، أكَّد تقرير صدر عن الخدمة السرية (هيئة أمنية فيدرالية) ووزارة التعليم الأميركية، الذي فحص 37 حادثة إطلاق نار وهجمات مدرسية في الفترة ما بين عامي 1974-2000 في الولايات المتحدة، أن أكثر من نصف المهاجمين أظهروا بعض الاهتمام بمشاهدة العنف من خلال الأفلام وألعاب الفيديو والكتب والوسائط الأخرى.(5)

بعد ذلك بفترة، تحديدا عام 2009، صدر بيان عن الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال جاء فيه: "تُشير أدلة بحثية واسعة النطاق إلى أن العنف المُتداول في وسائل الإعلام يمكن أن يساهم في السلوك العدواني، وإزالة التحسس من العنف، والكوابيس، بالإضافة إلى الخوف من التعرض للأذى".(6) الأمر ذاته هو ما أكَّدته لجنة مكافحة العنف الإعلامي التابعة للجمعية الدولية لأبحاث العدوان في تقريرها عن العنف الإعلامي، الصادر عام 2012، الذي جاء فيه: "على مدى السنوات الخمسين الماضية، أظهر عدد كبير من الدراسات التي أُجريت في جميع أنحاء العالم أن مشاهدة أعمال العنف التلفزيونية، ومشاهدة الأفلام العنيفة أو ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة، تزيد من احتمالية السلوك العدواني".(7) (8)

"الدراما" وتغيير المفاهيم

في سياق مُشابه، وخلال عام 2021، نُشرت دراسة بحثت دور الدراما الاجتماعية المصرية في تغيير المفاهيم الاجتماعية وإدراك الجمهور، بالتطبيق على مسلسل "ليه لأ" من بطولة الفنانة المصرية منة شلبي، الذي قامت خلاله بدور طبيبة عيون تحتضن طفلا من إحدى دور الأيتام، وتواجه العديد من الصعوبات لتدافع عن اختيارها في بقاء طفلها المُحتضن بصحبتها. حاولت الدراسة معرفة دور المسلسل في تغيير مفهوم "الاحتضان" لدى الأفراد المتزوجين وغير المتزوجين، ولدى مَن لديهم تجربة في "احتضان الأطفال". اعتمدت الدراسة على عينة مُكوَّنة من 50 شخصا من متابعي المسلسل. أکَّدت نتائج الدراسة أن مسلسل "ليه لأ" قد ساعد على تحريك المياه الراکدة وخلق نقاشا مجتمعيا حول فكرة الاحتضان، بالإضافة إلى أنه كان مُشجِّعا لإحياء العديد من المبادرات في هذا الصدد.(9)

مسلسل "ليه لأ" (مواقع التواصل الاجتماعي)

سابقا، أوضحت دراسة نُشرت عام 2015 أن تقرير اتحاد إذاعات الدول العربية قد أفاد بأن عدد القنوات الفضائية التي تفرد مساحات کبيرة للمسلسلات والأفلام السينمائية العربية قد بلغ 1394 قناة، منها 152 قناة متخصصة بشكل كامل في بث الدراما والأفلام. يعني هذا أنك فقط من خلال الضغط على زر جهاز التحكم سيُصبح متاحا أمامك كل هذا الكم من القنوات التي تعرض لك الأعمال الدرامية التي تتضمن قدرا ليس بالقليل من أعمال العنف.(10)

تأكيد كثرة المعروض من أعمال العنف أوضحته دراسة نُشرت عام 2022، بحثت خلالها الباحثة بسمة بهاء، وهي مدرس بقسم الإعلام بكلية الآداب جامعة الزقازيق، أثر الدراما التلفزيونية المصرية على انتشار معدلات العنف السلوكي والجريمة بين الشباب في المجتمع المصري. كانت المشكلة الرئيسية التي رصدتها الدراسة هي انتشار العديد من الأعمال الدرامية غير الهادفة التي أصبحت تُقدِّم نماذج وصورا کثيرة للانحراف الأخلاقي والعنف السلوکي والتجسيد الكامل للجريمة. استعانت الدراسة بعينة من الشباب يبلغ عددهم 120 شابا، لتحديد أهم الأعمال الدرامية التي رکَّز محتواها على الجرائم وممارسة العنف السلوکي التي عُرضت خلال عام 2021. من النتائج التي رصدتها الدراسة ارتفاع نِسَب العنف والجريمة والانحراف الأخلاقي في الأعمال الدرامية في عينة الدراسة.(11)

من خلال الدراستين السابقتين، يتضح مقدار التأثير الذي يُمكن أن تُحدثه الدراما على تغيير مفاهيم المجتمع سواء سلبا أو إيجابا، فكما يمكن للدراما أن تخلق حالة من النقاش المجتمعي حول موضوع ما، يمكن لها أيضا أن تنشر أعمال العنف وتزيد من السلوكيات غير الأخلاقية داخل المجتمع. تُفسِّر نظرية "الغرس الثقافي" هذا التأثر الإيجابي أو السلبي بوسائل الإعلام. تفترض النظرية أن التعرُّض طويل المدى لوسائل الإعلام يُشكِّل وجهات النظر والأفكار والآراء لمستهلكي وسائل الإعلام بشكل يمكن أن يُحدِّد الطريقة التي ينظر بها الشخص إلى العالم، وكذلك كيف يتصرف في الحياة.

قدَّم هذه النظرية الأستاذ الأميركي، المجري المولد، جورج جيربنر في الستينيات، بوصفها وسيلة لفحص تأثير التلفاز على المشاهدين. تُشير نظرية الغرس الثقافي إلى أن أولئك الذين يتعرَّضون لوسائل الإعلام يُفسِّرون الحقائق الاجتماعية وفقا لكيفية تصوير هذه الحقائق في وسائل الإعلام. نصَّت فرضية النظرية أيضا على أنه كلما زاد التعرض للتلفاز، زادت احتمالية امتلاك مشاهديه وجهة نظر للواقع أقرب إلى تصوير التلفاز لهذا الواقع. بالنسبة للعديد من الأفراد، تُمثِّل الحقيقة المشوهة والجزئية التي يتم تصويرها على شاشات التلفاز وجهات نظرهم في العالم حقا. لذلك، وجدت النظرية أن من المرجح أن يرى مشاهدو التلفاز الذين يتعرَّضون لمحتوى عنيف أن العالم أكثر خطورة مما هو عليه في الواقع.(12)

مَن يتأثر بالعنف أكثر؟

(شترستوك)

هل مشاهدة الأفلام والعروض العنيفة أو الانخراط بشكل تفاعلي في ألعاب عنيفة في العالم الافتراضي يزيد من احتمالات أن ينخرط "كل" الأشخاص في درجات وأشكال مختلفة من السلوك العدواني على المدى القصير أو الطويل؟ الجواب أنه بطبيعة الحال، فإن مشاهدة فيلم عنيف عادة لا يقود الناس، بشكل عام أو جمعي، إلى الاعتداء على شخص آخر عند مغادرتهم السينما. كما أنه ليس صحيحا أن اللاعبين الشغوفين بألعاب الفيديو شديدة العنف ينتهي بهم الأمر غالبا مجرمين عنيفين.

تفسير هذا هو أنه لا يوجد عامل خطر واحد يجعل الطفل أو المراهق يتصرف بعدوانية، لكن تراكم عدد من عوامل الخطر هو ما يؤدي إلى ارتكاب عمل عدواني.(13) وفقا لرأي إيمانويل تاناي، أستاذ الطب النفسي المتقاعد في جامعة واين ستيت والطبيب النفسي لأكثر من 50 عاما، فإن بعض الأفراد المصابين بأمراض واضطرابات عقلية مُعرَّضون للتأثر بالعنف الدرامي أكثر من غيرهم، لأنهم قد يُسيئون تفسير الأشياء والأحداث من حولهم. يتوافق رأي تاناي مع ما كشفته وثائق محاكمة هولمز في وقت لاحق من أنه قبل شهر من إطلاق النار في أورورا، أبلغ طبيب نفسي في جامعة كولورادو، كان قد عالج هولمز، شرطة الحرم الجامعي أن هولمز قد يكون خطرا على الآخرين ويُهدِّد سلامتهم.(14)

لا يمكن إغفال عامل السن كذلك. من المرجح أن عجلة مشاهدة العنف والتعرض الدائم له تدهس الأطفال أولا، ويمتد تأثيرها عليهم حتى مرحلة البلوغ، الأمر الذي قد يقود إلى ارتكاب أفعال إجرامية كما أوضحت بعض الدراسات. بالنسبة للكثير من الباحثين، كان تصوير العنف مثار قلق، خاصة بالنسبة لعالِم النفس ألبرت باندورا، الذي انصبَّت أبحاثه في السبعينيات حول التعلم الاجتماعي وميل الأطفال إلى تقليد ما يرونه، وقد جاءت نتائج 15 عاما من الدراسات والأبحاث حول المحتوى العنيف لبرامج الأطفال مُقلقة باستمرار.

أوضحت الدراسة أن تعرُّض الأطفال للعنف الإعلامي يمكن أن يتنبأ بالسلوك العدواني للشباب من الذكور والإناث. (بيكسابي)

قبل نحو 53 عاما من الآن، تحديدا في عام 1969، شُكِّلت اللجنة الاستشارية العلمية حول التلفاز والسلوك الاجتماعي بهدف تقييم تأثير العنف على مواقف وقيم وسلوكيات المشاهدين من الأطفال. حدَّد تقرير اللجنة وتقرير المتابعة في عام 1982، الصادر عن المعهد الوطني للصحة العقلية، الآثار الرئيسية لمشاهدة العنف على التلفاز بأن الأطفال يُصبحون أقل حساسية لآلام ومعاناة الآخرين، وأكثر خوفا من العالم من حولهم. أيضا قد يُصبح الأطفال أكثر عُرضة للتصرف بطريقة عدوانية أو مؤذية تجاه الآخرين.(15)

توصَّلت الأبحاث أيضا إلى أن الأشخاص الذين شاهدوا الكثير من العنف التلفزيوني عندما كانوا في الثامنة من العمر كانوا أكثر عُرضة للاعتقال والمحاكمة بسبب الأفعال الإجرامية التي ارتكبوها عندما أصبحوا بالغين. بحثت الدراسة في العلاقات الطولية بين مشاهدة العنف التلفزيوني في سن 6-10 سنوات والسلوك العدواني للبالغين بعد نحو 15 عاما، وذلك لعينة نشأت في السبعينيات والثمانينيات. أوضحت الدراسة أن تعرُّض الأطفال للعنف الإعلامي يمكن أن يتنبأ بالسلوك العدواني للشباب من الذكور والإناث.(16)

بالمثل، أوضحت الأبحاث التي أجراها عالما النفس دوغلاس جنتيل وبراد بوشمان أن التعرض للعنف الإعلامي هو عامل واحد من بين عدة عوامل يمكن أن تسهم في السلوك العدواني. أجرى الباحثان دراسة على نحو 430 طفلا من أطفال الصف الثالث حتى الرابع، ورُصِدت عوامل الخطر التي قد تؤدي إلى تبني العنف كالتالي: العامل الأول كان هو التعرض للعنف الإعلامي، سواء من خلال التلفاز أو الأفلام أو ألعاب الفيديو. أما العامل الثاني فهو التعرض للإيذاء الجسدي، والعامل الثالث كان المراقبة الأبوية والعدوان المسبق. أوضحت النتائج أن التعرض للعنف الإعلامي يتشابه مع عوامل الخطر الأخرى للعدوان، فيجب ألا يتحمَّل المسؤولية كاملة، كما يجب ألا يُستبعَد بوصفه عامل خطر.(17)

كما أسلفنا، لا تُعَدُّ الدراما وحدها سببا في حالات العنف المتكررة في مجتمعاتنا العربية، لكن الإنسان كائن مُقلِّد، يحب المحاكاة ويؤمن بها، ألا تستغرب أن حالات قتل الفتيات الأربعة الفائتة (واحدة بالأردن وثلاث بمصر) وخلال أشهر قليلة تشابهت في الكثير من السمات؟ شاب يريد الانتقام من فتاة أبت أن ترتبط به أو تتزوجه، مع مجموعة أخرى من الملابسات المتشابهة تنتهي بمحاولة فعلية من القاتل للانتحار (نجحت في حالتين)، يُشير ذلك إلى أسباب أكثر عمومية من مجرد حالة حب أو انتقام خاصة، هنا يمكن أن يكون للدراما دور مؤثر أكثر مما يظن الجميع.

_______________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة