شعار قسم ميدان

"مرض النقص".. لماذا يزدري المجتمع المرأة أثناء فترة انقطاع الطمث؟!

"إن الخوف من الموت هو أمر فطري، لكن الخوف من الشيخوخة أمر ثقافي"

(أشتون أبل وايت، ناشطة وكاتبة)

حسنا، لنبدأ بالأرقام مباشرة، فهي خير مُعبِّر عن المشكلة دائما. يُتوقع أن يزيد عدد السيدات في مرحلة انقطاع الطمث من 476 مليون سيدة عام 1990 ليصل إلى 1.2 مليار سيدة في عام  2030(1). وتمثل هذه المرحلة تحديا تواجهه كل سيدة يؤثر على جسدها وصحتها النفسية كليهما، لكن المشكلة الكبرى أن ذلك يحدث دون أن يسمح لها أحد حتى بالحديث عن مشكلاتها تلك، بل تسكت تحت وطأة الوصمة المجتمعية التي تجعلها أسيرة الخوف والقلق والألم لسنوات طويلة من حياتها.

تأتي مرحلة انقطاع الطمث كجزء رئيسي من الشيخوخة التي تنتقل بالنساء من سنوات القدرة الإنجابية إلى مرحلة جديدة يفقدن فيها هذه القدرة، ترافقها تحديات صحية ونفسية ومجتمعية، وعادة ما تبدأ في نهاية الأربعينات أو بداية الخمسينات، وقد تبدأ في وقت مبكر لدى بعض السيدات كبداية الثلاثينات. وبشكل عام، يضم المفهوم العام لـ"انقطاع الطمث" 3 مراحل: الأولى مرحلة ما قبل انقطاع الطمث، وخلالها تضطرب مستويات الهرمون الجنسي "الإستروجين" بين ارتفاع وانخفاض، وتظهر بعض الأعراض المصاحبة لذلك، وقد تمتد هذه المرحلة إلى 7 أو 10 سنوات. تليها مرحلة انقطاع الطمث، وفيها تنقطع الدورة الشهرية لمدة 12 شهرا متواصلة، ويتوقف المبيضان عن إنتاج البويضات، وتفقد السيدة قدرتها على الحمل والإنجاب. ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي ما بعد انقطاع الطمث، وفيها تقل حدة الأعراض التي بدأت قبل انقطاع الطمث أو تزيد(2).

بينما يهيئ الجسم نفسه لرحلة انقطاع الطمث بمراحلها الثلاثة، تختلف الأعراض التي تظهر على السيدات، وتتباين بين ما هو جسدي وما هو نفسي. نستعرض هنا بعضها، مع شهادات لسيدات شاركن شعورهن حول هذه المرحلة في دراسة بحثية نفذتها "مورين بوتن"، محاضرة وعميدة كلية التمريض والقبالة بجامعة سيدني في أستراليا(3).

على لسانهن

(دويتشه فيلله)

تقول إحداهن: "ما هو أسوأ من المشاعر أنني كنت أشعر بالتعب الشديد وأنني بلا طاقة، وقد كان هذا أسوأ شيء أمرّ به، لأنه كان يعني أنني لن أتمكن من القيام بمهامي، وكوني مُدرّسة لن أتمكن من قول: (لا يمكنني الذهاب للمدرسة اليوم لأنه ليس لدي طاقة لذلك)، فضلا عن أن أُخبر أطفالي: (أنا آسفة، لا يمكنني إعداد الشاي هذه الليلة، فأنا متعبة)، إنه لا يشبه التهاب الحلق أو ارتفاع درجة الحرارة أو حتى كسر الذراع، إنه شيء لا أستطيع أن أطلب بسببه إجازة ليومين أو ثلاثة، وعليّ أن أتعامل معه". تشتكي بعض السيدات من فقدان القدرة على العمل أو أداء المهام التي اعتدن القيام بها، كالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال ومسؤوليات المناصب الوظيفية، وقد يظهر هذا عليهن خلال أي مرحلة من مراحل انقطاع الطمث.

في كثير من الأحيان، لا تكون الأعراض واضحة بحيث يسهل فهمها أو تحديدها. تقول سيدة أخرى في الدراسة نفسها: "لقد كنت منشغلة دائما، وشعرت لبعض الوقت أنني لست بخير، لكنه كان شيئا يصعب فهمه أو تحديد سببه، ولم يكن كافيا لجعلي أبتعد عن العمل، لكنه كان كافيا لجعلي أشعر بأنني لا أملك أي طاقة عند العودة إلى المنزل لدرجة تجعلني أزحف على ركبتي من التعب، ولم أكن أستطيع النوم جيدا، كان شيئا كنت سأستطيع التعامل معه لو كان لدي الوقت، لكن لم أملك الوقت مطلقا".

قد يترتب على الأعراض السابقة ظهور أعراض جديدة، كالتقلبات المزاجية وزيادة خطر الاكتئاب، اللذين قد ينتجان عن التغير الهرموني أو عن اضطراب النوم ونوبات الحرارة، وقد لا تدرك السيدات إن كانت العوامل النفسية الأخرى مسببة لانقطاع الطمث أو ناتجة عنه. تقول إحداهن في الدراسة نفسها: "عندما كنت أصغر سنا، أُخبرتُ أن التوتر يُسبب توقف الحيض، لكنني لم أكن متأكدة إن كنت متوترة بسبب توقف الحيض أم العكس، كان الأمر تماما كسؤال البيضة والدجاجة".

مع الوقت، تظهر أيضا أعراض النسيان أو ضبابية التفكير وعدم القدرة على التركيز، قد يكون الأمر مفاجئا ومقلقا لدى بعض السيدات، وقد يُشبّهن الأمر بتعرضهن لمرض الزهايمر لكون العرض الرئيسي له هو النسيان. تشمل الأعراض أيضا تغير الرغبة الجنسية، وزيادة خطر الإصابة بهشاشة العظام، وتغير مستويات الكوليسترول في الدم؛ ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب، وحدوث مشكلات في المثانة والمهبل تزيد من فرص حدوث الالتهابات، فضلا عن مشكلات أخرى(4).

من الألم إلى الوصمة المجتمعية

(شترستوك)

تؤكد "تشيرلي ترافيس"، أستاذة علم النفس ورئيسة قسم دراسات المرأة بجامعة "تنسي" الأميركية، و "شارون روستوسكي"، أستاذة علم النفس بجامعة "كنتاكي" الأميركية؛ بعد مراجعتهما أبحاثا نُشرت في مجلات علمية طبية ونفسية على مدار 10 سنوات أن النظرة تجاه النساء في منتصف العمر كانت في كثير من الأحيان نظرة ازدرائية، فقد تم تصوير مرحلة انقطاع الطمث بشكل سيئ، ووصف ما يعانين منه خلال هذه المرحلة بـ"مرض النقص"(5)(6)، لكن لِمَ يبني المجتمع صورة نمطية عن شيء ما من الأساس؟

يميل الناس إلى نشر الصور النمطية في محاولة منهم لتصنيف سلوكيات وأفكار الآخرين، ففي حالة انقطاع الطمث أو ما يُعرف في بعض المجتمعات بـ"سن اليأس" مثلا يمكن القول إن المجتمع ولعدم قدرته على فهم الأعراض المصاحبة لانقطاع الطمث قرر وصم النساء كافة في مرحلة منتصف العمر، معتبرا المرأة في هذه المرحلة كائنا شديد التوتر ومضطربا ومتقلب المزاج ويبحث عن المشكلات، وهي صورة نمطية منتشرة بين الفئات العمرية كافة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أثرت هذه الوصمة على تصور النساء أنفسهن لطبيعة المعاناة خلال تلك الفترة(7).

أحد الأدلة العلمية على ذلك بحثٌ نفذته "كيرين ماثيوز"، أستاذة علم النفس بجامعة "بيتسبرغ" الأميركية، حللت فيه وجهة نظر أكثر من 500 سيدة بين عمر 42 و50 حول انقطاع الطمث وتوقعاتهن عن التأثير النفسي لهذه المرحلة، وأوضحت النتائج أن تجارب السيدات كانت مطابقة لتوقعاتهن، فالسيدات اللواتي توقعن أن يكون لهذه المرحلة تأثير سلبي عليهن تعرضن لأعراض سلبية أكثر حدة، بعكس السيدات اللواتي كانت لديهن توقعات إيجابية، فقد أظهرن مستوى أقل من الاكتئاب وبقية الأعراض المصاحبة لانقطاع الطمث، وكانت هذه النتائج مطابقة لنتائج أبحاث أخرى في السياق نفسه(8).

تقدم هذه النتائج دليلا حول أن الصورة النمطية والأفكار المجتمعية أو الثقافية تؤثر بصورة كبيرة في أعراض انقطاع الطمث وبشكل يفوق التأثير البيولوجي لهذه المرحلة، ويؤيد ذلك بحث نُفّذ على أكثر من 1200 سيدة يابانية، ففي حين اتفقت السيدات على أن النوبات الحارة هي العَرَض الأشهر المرتبط بمرحلة انقطاع الطمث، لم يتمكن سوى 20% منهن من تأكيد مرورهن بهذا العرض، بل إن العرض السائد بينهن كان نوبات الصداع، أي أن حديثهن عن النوبات الحارة كان مطابقا لما يشاع في مجتمعهن حول أعراض انقطاع الطمث، ورغم أنه لم يظهر لدى الجميع، فإنهن أوردنه باعتباره عرضا رئيسيا(9).

(شترستوك)

ما يزيد الأمر سوءا هنا هو أن هذه الصورة النمطية السلبية تؤثر في النساء لدرجة تجعلهن يتقبلنها ويصمن أنفسهن بها فيما يُعرف بالـ"التنميط الذاتي"، فعندما ينشر الآخرون عنّا صورة نمطية ما، يؤثر هذا في أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا لدرجة تجعلنا نتقبل هذه الصورة، وهذا ما يحدث للسيدات في مرحلة انقطاع الطمث أو المرحلة الانتقالية التي تسبقها، إنهن يتقبلن هذه النمطية وكأنها جزء من هويتهن المجتمعية، فتتحكم هذه الصورة في شعورهن وأفكارهن ونظرتهن لأنفسهن بل وحتى أفعالهن، حتى لو كانت هذه الصورة سلبية وازدرائية(10) (11).

لكن إلى أي مدى قد يصل تأثير نظرة المجتمع على السيدات في هذه المرحلة؟ حاولت دراسات الجواب على هذا السؤال، وأكدت أن هناك ارتباطا كبيرا بين النظرة المجتمعية السلبية وظهور أعراض الأرق والاكتئاب وتهيج الطباع ونوبات البكاء على السيدات اللواتي يمررن بانقطاع الطمث، حتى إن هذه الأعراض تظهر بمستويات مرتفعة خلال السنوات الأولى لمرحلة انقطاع الطمث ثم تنخفض بعد ذلك، كما تتأثر هذه الأعراض بعوامل أخرى تخص السيدة، كالطفولة القاسية أو غياب الدعم النفسي أو انخفاض المستوى الاجتماعي أو المادي، ومن ثم تظهر هذه الأعراض نتيجة اتحاد التغير البيولوجي مع الظروف الحياتية، وليست نتاج هذا التغير البيولوجي وحده فقط(12).

يتفاقم الأمر عندما تسبب هذه النظرة السلبية أيضا انهيار العلاقات الأسرية، فتغير الرغبة الجنسية لدى السيدات يعد من أسباب الخلاف الزوجي والطلاق، وهذا ناتج عن تردد السيدات وخوفهن من الوصمة اللذين يمنعانهن من طلب المساعدة الطبية، وخوفهن من مناقشة ما يحدث لهن مع العائلة؛ فالحديث في هذه المواضيع من المحرمات المجتمعية، يضاف إلى ذلك قلقهن من أن يؤدي ذلك بأزواجهن إلى الزواج بزوجة أخرى (أو الدخول في علاقات خارج إطار الزواج في المجتمعات التي تتقبل ذلك) لتلبية احتياجاتهم الجنسية غير المجابة من قبلهن(13).

مصدر القوة

(الألمانية)

لكن هذا لا يعني أن جميع السيدات سيعانين من تبعات التنميط المجتمعي، فهناك تأكيد علمي أن مرحلة انقطاع الطمث لا تؤثر سلبا بشكل حتمي على الرفاه (رضا الشخص عن حياته وقدرته على القيام بمهامه)، فمثلا نوبات الحرارة أو التعرق ليلا لا تؤثر على سعادة السيدة أو رضاها عن حياتها إذا كانت العوامل النفسية داعمة ومساندة لها، وهذا يمنح السيدة قدرا من المرونة التي تمكّنها من التعامل مع تحديات المرحلة. وفي حال أثّرت مرحلة انقطاع الطمث في رفاه السيدة النفسية بشكل مبالغ فيه، فقد يكون ذلك نتيجة مسببات أخرى، كالتعرض للتوتر، وأحداث الحياة، وعدم ممارسة التمارين الرياضية، وغياب الرضا عن العمل، والوحدة، والنظرة الشخصية السلبية للشيخوخة وسن انقطاع الطمث(14).

بشكل عام، لا تستطيع الصورة النمطية التي تصم هذه المرحلة التأثيرَ على السيدات اللواتي يتمتعن بسمات إيجابية راسخة تنبع من أفكارهن الإيجابية تجاه السعادة والمرونة والرفاه(15)، وفي هذا الصدد، يمكن استخلاص العديد من النصائح المهمة التي تؤكدها السيدات اللواتي مررن بانقطاع الطمث أو المتخصصون، والتي من شأنها أن تساعد السيدات الأخريات على مواجهة هذه المرحلة.

نفّذ 3 باحثين بكلية "وايل كورنيل" للطب في قطر دراسة بحثية بهدف تحليل نظرة وتوقعات السيدات في منتصف العمر حول انقطاع الطمث، وأوضحت الدراسة اتفاق السيدات المشاركات في الدراسة على الصورة السيئة الشائعة حول انقطاع الطمث، لكنهن يعتقدن أيضا أن هذه المرحلة زادت نشاطهن الاجتماعي، وساعدتهم على المشاركة بشكل أكثر فاعلية في الأنشطة الدينية بعيدا عن مقاطعات الدورة الشهرية، وأكدن أنهن يجدن في دعم الزوج والعائلة عاملا مهما يساعدهن على تجاوز تحديات المرحلة، ويعتقدن أن السيدات اللواتي لن يجدن هذا الدعم سيكُنّ معرضات لنتائج سلبية وربما زيادة خطر الانتحار بسبب الاكتئاب خلال مرحلة انقطاع الطمث(16).

(شترستوك)

تُنصَح السيدات أيضا بمشاركة قصصهن والحديث عن تجاربهن مع الدوائر المقربة، فهذا من شأنه أن يقلل من انتشار الصورة النمطية ويشجع الأخريات على الحديث وطلب المساعدة إن احتجن، وكذلك ببناء علاقات جيدة مع مقدمي الرعاية الصحية، فهذا يسهل عليهن الحديث عن الأعراض عند ظهورها، وعن أي مشكلات مرتبطة بالصحة الجنسية أو الدورة الشهرية، ويُنصحنَ وبالتعلم حول الموضوع بالحصول على المعلومات الدقيقة من مصادر موثوقة، فالاستعداد المعرفي يزيد قدرة السيدات على التعامل مع الأعراض عند ظهورها(17) (18).

تدعو مجلة هارفارد للأعمال السيدات اللواتي حصلن على الدعم إلى مساندة النساء في محيطهن ممن يواجهن تحدي انقطاع الطمث، وحثهن على الحديث وطلب الدعم الطبي والنفسي إن احتجن ذلك، كما تنصح بتطوير بيئات العمل لتكون أكثر مرونة مع متطلبات النساء خلال تلك الفترة، مع حث الجميع على تفهم هذه المرحلة وصعوباتها (19) (20).

أما بالنسبة إلى الأعراض، فهناك دائما ما يخفف حدتها ويسهل تعامل السيدة معها، وهذا ما سينصح به الأطباء، كمسكنات الألم، وبعض الأغذية الصحية، وبعض الممارسات الرياضية لتحسين النوم وتخفيف التوتر؛ وربما يتم أيضا وصف أدوية بديلة الهرمون للمساعدة في التغلب على الأمر.

_______________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة