شعار قسم ميدان

لأن مسامحة الآخرين ليست فضيلة فقط.. بل ضرورة لصحتك النفسية

كان إيفريت ورثينجتون، أستاذ علم النفس في جامعة فرجينيا كومنولث، يدرس التسامح لما يقرب من عقد من الزمان عندما واجه أسوأ أزمة ممكنة لوضع اهتمامه بالتسامح قيد الاختبار، لقد قُتلت والدته في حادث سطو منزلي. يقول ورثينجتون إنه استغرق سنوات طويلة ليسامح هذا القاتل (1)، وإنه وجد أن هذه المسامحة هي أمر تُهديه لنفسك في المقام الأول. عندما تسامح، فإنك تتخلى عن مشاعر المرارة والاستياء والرغبة في الانتقام.

هل آذاك شخص ما أو آلمك بطريقة صعبة ووجدت نفسك تقول: "لن أسامحك أبدا"؟ هل شعرت بأن قلبك لا يستطيع نسيان الألم أو الغفران لهذا الشخص؟ إذا كُنت قد جربت هذا الشعور فمؤكد أنك تعرف أن الغضب الذي يعتريك كلما مرّت أمام عينيك ذكرى الشخص أو الموقف مؤلم ومنهك. لذلك، يُقال باستمرار إن التسامح أمر حيوي لصحتنا العقلية ورفاهيتنا النفسية، وبالفعل رصدت بعض الدراسات العلمية مدى أهمية التسامح والغفران لتحقيق الصحة العقلية والجسدية أيضا.

ما هو التسامح؟

التسامح يعني اتخاذ قرار بالتغاضي عن الشعور بالاستياء والتخلي عن الأفكار الانتقامية. هنا يجب معرفة أن الفعل الذي سبّب لك الشعور بالجرح أو الإهانة ربما ستُرافقك ذكراه طوال الوقت، ولكن التسامح من الممكن أن يُقلل من سيطرة ذلك الشعور على نفسك، ويساعدك على التحرر من القيود النفسية التي يفرضها عليك الشخص الذي أساء إليك.

يقول بوب إنرايت، عالم نفس في جامعة ويسكونسن-ماديسون، الذي كان رائدا في دراسة التسامح منذ ثلاثة عقود، إن المسامحة الحقيقية تذهب إلى أبعد من التخلي عن المشاعر السلبية، حيث تقدّم شيئا إيجابيا، هو الشعور بالتعاطف والرحمة والتفاهم تجاه الشخص الذي آذاك. هذا العنصر يجعل التسامح فضيلة عظيمة.

عندما تنجح في فعل ذلك، فإنك تتجنب استمرار الشعور بالغضب والمرارة والكراهية، وهي مشاعر مُنهكة تُثقل جسدك وأفكارك. حين لا تُحرر هذه المشاعر وتتخلى عنها، فإنها تظل حبيسة بداخلك، ويمكنها أن تُسبب أمراضا جسدية مثل آلام المعدة وارتفاع ضغط الدم، ويمكن أن تزيد من سوء بعض الاضطرابات العقلية مثل الاكتئاب والقلق (2).

من المهم هنا أن نشير إلى أن التسامح لا يعكس الجبن أو الضعف. هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة التي نسجها البعض حول المقصود بالتسامح، فمثلا يرى البعض أن التسامح يعني أن تكون ضعيفا، أو ألا تطالب بالعدالة، أو أن تبرر السلوك البغيض، أو تترك نفسك للمعاملة السيئة دون أن تتخذ أي موقف لوقف هذه المعاملة أو وضع الحدود. هذه التصورات عن التسامح خاطئة تماما، فالتسامح يعني التوقف عن الشعور بالاستياء تجاه شخص ما أو شيء ما، وهو يدل على القوة، لأن الشخص الذي يستطيع القيام به هو شخص يعرف كيفية السيطرة على مشاعره ويستعيد  إحساسه بالذات (3).

المسامحة تضعك في مركز قوة، وهي لا تُبرر السلوك السيئ أو المؤذي أو الأناني. كذلك فالمسامحة لا تعني المصالحة مع الجاني أو المُخطئ، إذ يرى "ورثينجتون" أن التسامح لا يتطلب المصالحة مع المعتدي وإعفاءه من تبعات فعله، ربما كل المطلوب هنا أن تصل الضحية إلى درجة من التعاطف والتفاهم تجاه الجاني. يقول ورثينجتون: "سواء أُسامِح أو لا أُسامِح، فلن يؤثر هذا على سير العدالة وتحقيقها، الغفران يحدث داخل جلدي".

لا يعني التسامح أيضا أن الشخص الآخر سيغير من تصرفاته أو سلوكه أو كلماته، هو فقط سينهي قدرة الطرف الآخر على السيطرة على حياتك، ويُمكنك من تعيين حدودا واضحة عند التعامل معه، حال استدعت الحاجة ذلك.

للتسامح فوائد علمية

تُشير الدراسات إلى أن التعرّض للانتهاك يمكن أن يكون سببا مهما للإصابة بالاكتئاب، وأن ممارسة التسامح يمكن أن تخفف من مشاعر الغضب والانتقام التي تؤدي إلى عواقب سلبية على الصحة العاطفية والجسدية وكذلك العلاقات (4).

ظهر كذلك أن التسامح مرتبط بنتائج الصحة العقلية الإيجابية، مثل تقليل القلق والاكتئاب والاضطرابات النفسية الرئيسية، كما أنه مرتبط بتحسين الصحة الجسدية وانخفاض معدلات الوفيات، فمثلا وجد تحليل تلوي أن الغضب والعداء مرتبطان بزيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب (5)، ووجدت إحدى الدراسات أن التسامح يرتبط بشكل إيجابي مع عدة مقاييس للصحة، مثل نوعية النوم، ومقدار الشعور بالتعب (6).

خلال كتابهما "التسامح والصحة"، قام كل من "توسان ورثينجتون" و"ديفيد ر. ويليامز" بتفصيل الفوائد الجسدية والنفسية للتسامح. يقترح "توسان وورثينجتون" أن تخفيف التوتر ربما يكون هو العامل الرئيسي الذي يربط بين التسامح وتحقيق الرفاهية، فيقول: "نحن نعلم أن الإجهاد المزمن مضر بصحتنا، المسامحة تسمح لك بالتخلي عن الضغوطات الشخصية المزمنة التي تسبب عبئا لا داعي له"(7). وقد وجد توسان وزملاؤه، في دراسة تستكشف العلاقة بين التوتر والرفاهية النفسية والتسامح، أن الأشخاص الذين لديهم مستويات أعلى من الإجهاد المتراكم طوال حياتهم أظهروا نتائج أسوأ على مستوى الصحة العقلية (8).

كتاب "التسامح والصحة"، لـ "توسان ورثينجتون" و"ديفيد ر. ويليامز".

خلال دراسة أخرى، وجد توسان أنه عندما ارتفع التسامح، انخفضت مستويات التوتر، وقد أدى انخفاض التوتر بدوره إلى انخفاض أعراض مشكلات الصحة العقلية والجسدية. يمكن أن يتسبب التوتر والغضب غير الصحي في حدوث بعض المشكلات الصحية، مثل: الضغط العصبي، والشد العضلي، والمشكلات القلبية، وانخفاض وظيفة المناعة(9).

خلال مقال نُشر على موقع "سايكولوجي توداي" (psychologytoday)، أكدت "أبيجيل برينر"، طبيبة نفسية في عيادة خاصة، أن للتسامح فوائد عديدة، منها: أنه يُخرجك من وضع الضحية، فالتسامح يسمح لك بكسر الروابط التي تربطك سلبا بشخص آخر. يمكنك أن تسامح دون أن تنسى، ما حدث لك حدث، ليس هناك من ينكر ذلك. ويجب ألا تحاول التظاهر بأن كل شيء قد عاد إلى طبيعته، قد تسامح شخصا ما وتختار ألا تراه مرة أخرى أبدا.

عندما لا تعدُّ ضحية، فهذا يعني أن المشاعر السلبية لم تعد تتحكم فيك، يمكنك ساعتها التركيز على أن تصبح أقوى، وأن تعيد بناء شخصيتك بحيث لا تسمح لنفسك أبدا بأن تقع في موقف يمكن أن يؤذيك أو يؤلمك فيه أحد (10).

مسامحة الشريك السابق

يتضمن التسامح بعد الطلاق أو الانفصال الوصول إلى فهم سبب انتهاء الزواج والاعتراف بإنسانية نفسك وشريكك السابق، وتفهم أن الخطأ وارد لدى كليكما.

بالنسبة إلى الوالدين المنفصلين، يمكن أن يساهم التسامح أيضا في تحسين علاقة الأبوة والأمومة، وذلك من خلال تمكين الأزواج (أو الزوجات) السابقين من رؤية بعضهم بعضا على أنهم بشر لديهم عيوب وفضائل، وليس روبوتات "شريرة" بدون مشاعر تستحق الاحترام، وهو ما سينعكس إيجابيا على التعامل مع الأطفال الذين ربما كانوا يُعانون بالأساس من مشكلات الطلاق، ولا يحتاجون إلى المزيد من المعاناة بسبب الصورة السلبية لدى والديهم تجاه بعضهم بعضا.

لكن الأمر ليس سهلا، فمسامحة الزوج (أو الزوجة) السابق/ـة قد يكون أمرا صعبا بشكل خاص، لكن يمكن القيام به إذا كانت لديك رغبة في تكوين حياة جديدة. مسامحة زوجك السابق (أو زوجتك)، مثل مسامحة أي شخص آخر، لا تتطلب منك التغاضي عن سلوكه المؤذي أو قبوله، كما أنها لا تتطلب الشعور بالحب أو محاولة المصالحة معه، المسامحة تتطلب فقط التوقف عن الشعور بالغضب، والتخلي عن المرارة والاستياء تجاهه، حتى تتمكن من المضي قدما في الحياة وتمهيد الطريق لعلاقة تعاون مثمرة من أجل الأطفال، هنا يكون التسامح ليس شيئا تُهديه لنفسك فقط، ولكن تُهديه لنفسك و لأطفالك.

يتضمن التسامح بعد الطلاق أو الانفصال الوصول إلى فهم سبب انتهاء الزواج والاعتراف بإنسانية نفسك وشريكك السابق، وتفهم أن الخطأ وارد لدى كليكما، وهذا يتطلب جهدا واعيا لتغيير المواقف واستيعاب تعقيدات السلوك البشري. فاعتبار الطرف الآخر شريرا أو بغيضا هي نظرة مبسّطة يمكن وصفها بالسطحية، عليك أن تنظر إليه على أنه كائن بشري معقد له عيوب ومزايا، بالإضافة إلى استيعاب أن الناس عادة ما يفعلون أشياء لأنهم يعتقدون أنها منطقية أو أنها خيارهم الوحيد في ذلك الوقت(11).

حسنا، دعونا نُذكِّر التسامح لا يقتصر على قدرتك على الغفران للآخرين فقط، لكنه يشتمل أيضا على قدرتك على مسامحة نفسك. التسامح مع الذات يستلزم إطلاق المشاعر السلبية الموجهة من الشخص نحو نفسه، ويتطلب أيضا تعزيز المشاعر الإيجابية الموجهة نحو الذات، مثل التعاطف والكرم والحب تجاه الذات(12). المسامحة الذاتية هي عملية تكاملية تحدث داخل الشخص، يتم خلالها الاعتراف بارتكاب الخطأ، وقبول الأمر، ثم إتاحة الفرصة للإصلاح والمُضي قدما في الحياة، دون أن يجلدك شعورك بالذنب ويعرقلك عن ممارسة حياتك.

كيف تمارس التسامح؟

أحيانا نجد أنفسنا غير قادرين على المسامحة، لأن الأذى كان عميقا جدا، أو لأن الشخص كان مسيئا للغاية، أو لم يعترف بخطئه ولم يعرب قط عن ندمه عمّا فعله. لكن يمكن جعل الأمر أكثر سهولة من خلال اتباع الخطوات الآتية التي تساعدك تحديد وإدراك مقدار غضبك وألمك وما تشعر به، والتعبير عنه بشكل كامل وتحريره.

بداية، يجب التأكد من أنه يمكنك التعبير عن مشاعرك حول ما حدث في كلمات تقولها لشخص مقرب أو ربما تكتبها، هذا يتطلب منك أن تُدرك مشاعرك أولا، حتى المشاعر غير المرغوب فيها. لاحقا، حاول تحديد الجانب المشرق للإيذاء الذي مررت به، هناك جانب مشرق في أكثر الأشياء سوءا، فربما يكون الإيذاء قد دفعك إلى اكتشاف جانب ما من القوة في نفسك، أو جعلك تحصل على دعم أشخاص آخرين وتختبر مشاعر إيجابية معهم، التعرّف إلى الجانب المشرق في الأحداث المؤذية لا يحدث بسهولة، الأمر قد يحتاج إلى مرور الوقت ليكون لديك مساحة عاطفية أكبر للتعرف على ما اكتسبته.

لتدريب نفسك على التسامح، يمكن أن تغفر الأشياء الصغيرة أولا. وإذا كنت تواجه مشكلة في مسامحة أذى كبير، فعليك التدرب على التعاطف مع نفسك بدلا من تأنيب نفسك أو لومها. التعاطف والتسامح مع الذات من الأدوات المهمة التي يجب امتلاكها قبل محاولة مسامحة شخص آخر. هنا يجب تذكر أن قرار شخص آخر بإيذائك ليس خطأك أبدا، لأن البعض قد يلوم نفسه على الإيذاء الذي تعرّض له.

لست بحاجة إلى الاتصال بشخص ما لتسامحه، لأن المسامحة هي شيء يحدث داخلك فقط.

يجب أيضا معرفة أن التسامح يبدأ وينتهي عندك، يمكنك أن تسامح بغض النظر عن وضعك مع الطرف الآخر. لست بحاجة إلى الاتصال بشخص ما لتسامحه، لأن المسامحة هي شيء يحدث داخلك فقط، فهي لا تعني المصالحة، فقد تسامح وتُقرر في الوقت ذاته ألا ترى هذا الشخص الذي آذاك أبدا. لكن على الرغم من ذلك، يمكن أن تكون كتابة الرسائل طريقة جيدة للتسامح مع فرد من أفراد العائلة آذاك أو زوج سابق مسيء أو أي شخص لا تريد استئناف الاتصال به(13).

يُمكن تلخيص عملية التسامح في الخطوات الأربع الآتية: تتمثل الخطوة الأولى في التفكير في الحادث الذي أغضبك، تقبّل أنه حدث، تقبل ما شعرت به حيال ذلك. الخطوة التالية هي الاعتراف بالجانب الإيجابي لما حدث، مثلا ما الذي جعلك الحدث تتعلمه عن نفسك أو عن احتياجاتك أو عن تعيين وصيانة حدودك؟ أما الخطوة الثالثة فهي التفكير في الشخص الآخر بأنه إنسان وأخطأ مثلما يُخطئ جميع البشر وإن تفاوتت درجات الخطأ، لقد تصرف هذا الشخص معك من منطلق معتقدات محدودة وإطار مرجعي منحرف لأننا في بعض الأحيان نتصرف جميعا وفقا لمعتقداتنا المحدودة وأُطرنا المرجعية.

أما الخطوة الرابعة والأخيرة، فهي قرارك الخاص جدا بما إذا كنت تريد إخبار الشخص الآخر أنك قد سامحته أو سامحتها. إذا قررت عدم التعبير عن المسامحة بشكل مباشر، فافعل ذلك مع نفسك، قل عبارة "أنا أسامحك" بصوت عالٍ ثم أضف ما ترغب في قوله (14).

___________________________________________________________________

المصادر:

  1. Forgiveness can improve mental and physical health
  2. How Do You Forgive Even When It Feels Impossible?
  3. The importance of forgiveness
  4. Forgiveness, Feeling Connected to Others, and Well-Being: Two Longitudinal Studies
  5. The association of anger and hostility with future coronary heart disease: a meta-analytic review of prospective evidence
  6. Forgiveness and health: An unanswered question.
  7. Forgiveness and Health
  8. Effects of lifetime stress exposure on mental and physical health in young adulthood: How stress degrades and forgiveness protects health
  9.  Forgiveness, Stress, and Health: a 5-Week Dynamic Parallel Process Study
  10. 5 Reasons Why It’s Important to Forgive
  11. The importance of forgiveness
  12. Forgiveness therapy: An empirical guide for resolving anger and restoring hope.
  13. How to Forgive Someone (Even If They Really Screwed Up)
  14. How Do You Forgive Even When It Feels Impossible?
المصدر : الجزيرة