شعار قسم ميدان

من الشاشة إلى عقلك.. كيف تحافظ على صحتك النفسية في أزمنة الحروب؟

قلق الحرب

"كانت أحاديث السهرة تدور

فقلت: حدثونا عن غير الموت

قالوا: نحكي عن الحرب

قلت: عن غير الحرب

قالوا: نحكي عن دموع المشردين

قلت: عن غير دموعهم

قالوا: عن المنتظرين

قلت: عن غير المنتظرين

قالوا: لا نعرف غير هذا، فعمّ نحكي؟"

زياد الرحباني

منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع الأحداث المتلاحقة ما بين قصف المباني السكنية إلى أزمات اللاجئين على الحدود والتهديدات النووية، يراقب الآلاف حول العالم الأزمة عن بعد، سواء من منازلهم الآمنة متابعين للأخبار، أو بحكم طبيعة عملهم في غرف الأخبار وأروقة الصحف. وبينما صارت متابعة ما يحدث من حولك جزءا أساسيا من الحياة اليومية، فإن قدرتنا الحالية على الوصول إلى آخر المستجدات بلمسة لشاشة الهاتف، تركتنا منغمسين حتى النخاع في قلب الحدث وكأننا نعيشه.

 

وفي زمن تتصارع فيه منصات التواصل الاجتماعي على إبراز المشاهد الدموية والمؤلمة وتأطيرها في هيستيريا لجذب المزيد من المشاهدين، صار تأثير هذه الأخبار على سلامتنا النفسية أكثر حدة وعنفا. يعني ذلك أن دفء منزلك الآمن لن يحميك من خليط مشاعر العجز والخوف والحزن والقلق، وربما مشاعر الذنب أيضا. وحتى من لا يشعرون بالقلق المباشر تجاه الحرب، تأثروا في بلادهم بآثارها غير المباشرة، مثل زيادات أسعار الطاقة والبنزين والسلع الغذائية، بما يحمله ذلك إلينا من مشاعر قلق وترقب.

"في بلدي الذي يبعد أميالا عن الحرب، ضحك بائع الخبز ساخرا بعد أن أبديت استغرابي من زيادة سعر الرغيف ضِعفا في يوم واحد، وعلّق بأنه لا يهتم بالسياسة لكن هذه الحرب البعيدة ستقتلنا جوعا في بلادنا"..

شهادة حية لميدان

من الشاشات إلى عقولنا.. كيف تؤثر علينا أخبار الحرب؟

سيدة تشاهد الأخبار

حتى مع عدم تعرضنا لتهديد جسدي مباشر، تتصرف أجسادنا بشكل تلقائي وغريزي في حالات استشعار التهديد وعدم اليقين، حيث تتحول أدمغتنا إلى حالة التأهب القصوى، وتتفاعل أعضاؤنا مع هذا الشعور بالتهديد، فترتفع مستويات هرمونات الأدرينالين والكورتيزول. وينعكس ذلك على مؤشراتنا الجسدية، وهو ما يؤدي إلى ظهور أعراض مثل زيادة التعرق وتسارع نبضات القلب وتوتر العضلات.

 

تستعرض دراسة منشورة في "International journal of creative research thoughts" في سبتمبر/أيلول 2021 تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المتعلقة بالحرب على الصحة العقلية والنفسية للأفراد. تخبرنا الدراسة أن التعرض المفرط للمواد الإعلامية العنيفة والسلبية يتسبب في آثار نفسية حادة وطويلة الأمد تتجاوز مشاعر الاستنكار والتشاؤم العابرين. هذا، وتتفاوت مستويات القلق والتوتر باختلاف مدى التعرض للأخبار، وطبقا للدراسة، يمكن أن ترتبط مشاعر التوتر والاضطراب بأعراض جسدية مثل التهاب المفاصل الروماتويدي وأمراض القلب والأوعية الدموية وغيرها من المشكلات الصحية الناجمة عن ارتفاع هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر. يعني ذلك أن مشاهدة الصور والمقاطع المصورة العنيفة يمكن أن تؤدي إلى تحفيزات مشابهة لتلك الناتجة عن التعرض للعنف الفعلي.

 

في السياق ذاته، أشار الدكتور "جراهام ديفي"، وهو متخصص في الآثار النفسية للعنف الإعلامي، إلى أن التعرض للمواد الإعلامية العنيفة قد يحفز اضطرابات الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة، لا سيّما في ظل المنافسة الإعلامية الضارية بين المنصات الإعلامية المختلفة لخلق محتوى صحفي مصور أكثر حدة عاطفيا وبصريا لجذب المتابعين(1).

 

لا تعد هذه التحذيرات جديدة على أي حال، ففي دراسة أُجريت عام 2001 ونُشرت في "journal of Nervous and Mental Disease"، كُشف أن أشخاصا ممن تابعوا الأخبار الخاصة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر على التلفاز أصيبوا بأعراض واضحة لاضطراب ما بعد الصدمة، وأشارت الدراسة إلى وجود تناسب طردي بين مقدار الوقت الذي يستغرقه الشخص في مشاهدة الحدث على الشاشة وحدة الأعراض.

 

القلق في أروقة غرف الأخبار

القلق من الاخبار

ربما تبدو الأمور أبسط إن لم تكن وثيقة الصلة بعملك، أليس كذلك؟ لكن ماذا لو كنت واحدا من هؤلاء الذين ترتبط وظائفهم بالتعرض المستمر لأخبار الحروب ومآسيها؟

 

لسنوات طويلة عملت "سلمى" مترجمة في إحدى وكالات الأنباء العالمية، ما عرّضها للاحتكاك المباشر واليومي بالأخبار، لتُشكّل أحداث القتال والحروب والدماء ساعات دوامها اليومي. ذكرت "سلمى" في شهادتها لميدان أن التعرض المفرط لمثل هذه النوعية من المواد كثيرا ما أصابها بنوبات التوتر والقلق والاكتئاب، بداية من أحداث العنف المحلية التي تؤثر عليها وعلى عائلتها، ومرورا بالأحداث العالمية التي لا تؤثر عليها بشكل مباشر.

 

في البداية كانت سلمى تحتاج إلى الانسحاب لدقائق بعيدا عن مكتبها والبكاء في دورة المياه حتى تهدأ، لكن تطوّر الأمر بشكل شعرت بأنه يهدد صحتها النفسية، ما دفعها لاتخاذ قرار مصيري بتحويل مسيرتها المهنية بأكملها إلى مسار آخر بعيد عن الحروب وأخبارها.

 

لم تكن سلمى الوحيدة التي عانت جراء العمل والاحتكاك المباشر بالأخبار العنيفة، فرغم اهتمام العديد من الوكالات الإخبارية بتوفير معايير السلامة الجسدية لمراسليها وصحفييها، فغالبا لا تُولي الاهتمام ذاته لإعدادهم ومساعدتهم على فهم كيفية تأثير عملهم على سلامتهم النفسية.

 

لسنوات، ظل النقاش المتعلق بالصحة العقلية والعمل الصحفي مرتكزا بشكل أساسي على اضطراب كرب ما بعد الصدمة (PTSD)، مع التركيز بشكل أساسي على المراسلين والصحفيين الميدانيين بافتراض أن الاضطراب يقتصر على هؤلاء الذين يشهدون الصراعات بشكل مباشر، ولكن في الوقت نفسه، جرى اضطرابات أخرى لا تقل خطورة، وربما تكون أكثر انتشارا مثل القلق والتوتر والاكتئاب والصدمات غير المباشرة التي تنتج عن التعرض للبيانات والمقاطع المصورة.

 

في هذا السياق، ربما يكون من المفيد الاطلاع على تجربة "هانا ستورم"، صحفية ومستشارة إعلامية تقدم المشورة للعاملين بغرف الأخبار بشأن سلامة الصحفيين النفسية وقضايا الصحة العقلية، وهي المؤسِّسة والمديرة المشاركة لشبكة "هيدلاينز" التي أُنشئت للترويج لمزيد من المحادثات المفتوحة حول الصحة العقلية في وسائل الإعلام.

 

شاركت "هانا ستورم" قصتها الشخصية التي تعود إلى عام 2010 خلال تغطيتها الزلزال في هايتي لصالح إحدى القنوات الإخبارية البريطانية. بحسب ما ذكرتْ، لا يمكن أن تقارن ما تعرضت له بمستويات الصدمة التي تعرض لها السكان المحليون في هايتي، إلا أنه أثّر بدرجة كبيرة على صحتها العقلية، لتقرر بعد شهرين فقط من عودتها من هايتي ترك العمل في غرفة التحرير.

 

طبقا لشهادتها، ظلت "هانا ستورم" في السنوات التالية تشارك في كتابة العديد من المواد والتقارير حول الصحة العقلية دون أن تعي أن حافزها الأساسي هو تجربتها الشخصية على مدار ثمانية سنوات كاملة، قبل أن تدرك في عام 2018 أنها لا تزال تعاني من أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة.

 

تحدثت ستورم أيضا عما أسمته "الضرر المعنوي"، والذي على عكس اضطراب كرب ما بعد الصدمة واضطرابات القلق والاكتئاب، ليس مرضا عقليا، لكنه يمكن أن يسبب ضائقة عاطفية كبيرة إن تُرِك دون معالجة. وتصف ستورم الضرر المعنوي بأنه ضرر يلحق بضمير الشخص أو بوصلته الأخلاقية عندما يرتكب أو يشهد أو يفشل في منع الأفعال التي تتعارض مع القيم الأخلاقية أو قواعد السلوك الخاصة به. ويرتبط الأذى المعنوي بمشاعر الذنب والعار، وطبقا لستورم: "في بعض الأحيان، نجد أنفسنا نحن الصحفيين في مواقف نضطر فيها إلى التنازل عما نعتقد أو نرى أشخاصا آخرين يفعلون ذلك"(2).

 

ولإدارة عملك الصحفي (أو أي عمل آخر تضطر معه للتعامل مع الكوارث أو الحروب) والحد من الأضرار الواقعة على سلامتك النفسية، عرضت ستورم مجموعة من النصائح: بادئ ذي بدء، تعامل مع المواد المؤلمة بعناية خاصة. شبّهت هانا ستورم التعامل مع المواد المؤلمة نفسيا والصور الصادمة بالتعامل مع المواد المشعة التي ينبغي الحد من التعرض لها، والتعامل معها بحذر. على سبيل المثال، تقترح هانا تصغير الصور الصادمة عند مشاهدتها، لمساعدتك في وضع ما تراه في السياق الحقيقي له، كما تقترح أيضا التركيز على تفصيلة خلفية في الصورة بعيدة عن الجزء الصادم. وبالنسبة إلى مقاطع الفيديو، تقترح أن تشاهد المقطع دون صوت أولا ثم سماع الصوت لاحقا.

 

ونصحت ستورم أيضا أن تضع خطا زمنيا للعمل يتيح لك أخذ قسط من الراحة بعد التعامل مع المواد المزعجة. كما أكدت على ضرورة وضع حدود صارمة بين العمل والحياة الشخصية، من أجل حماية نفسك وحماية علاقتك بأسرتك وأحبائك أيضا. من الضروري أن تعرف كيف تترك العمل خارج عتبة دارك (3).

 

كيف تقي أطفالك من التأثر بأخبار الحروب؟

المعاناة النفسية مع الحرب

"في البداية تجاهلت ذكر ما يحدث أمام طفلتي التي تبلغ من العمر أحد عشر عاما، لكني فوجئت بها تردد أن الحرب العالمية الثالثة قادمة، وتقارن توقعاتها بما تعلمته في حصص التاريخ بالمدرسة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، لأدرك أن تجاهلي لذكر الأمر جعلها أكثر قلقا، وهو ما دفعني للجلوس معها لطمأنتها وشرح ما يحدث بهدوء، والإجابة عما يدور في ذهنها من تساؤلات".. شهادة حية لميدان

 

قد يلتقط الأطفال الكثير من الأخبار غير الصحيحة والمخيفة، سواء من الأصدقاء أو زملاء الدراسة أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي. توصي البروفيسورة "فيفيان هيل"، من جمعية علم النفس البريطانية، بخوض هذه المحادثات الصعبة وعدم الإحجام عنها، على أن يحدث ذلك بطريقة مناسبة لعمر الطفل.

 

بالنسبة إلى الأطفال الأصغر سنا، اجعل أحاديثك معهم قصيرة ومُطَمئنة قدر الإمكان، دون أن ترهقهم بالكثير من التفاصيل، أظهر لهم مثلا مكان أوكرانيا على الخريطة كي يفهموا أن ما يحدث بعيدا عنهم. أما في حالة الأطفال الأكبر سنا أو المراهقين، يمكنك أن تحدثهم عن السياق بتفاصيل مناسبة لأعمارهم، وجّههم نحو مصادر الأخبار الموثوقة، وتحدث معهم عن كيفية إدارة الأخبار الكاذبة والتعامل معها، وفي جميع الأحوال عليك أن تركّز على طمأنتهم.

 

وإذا كان أطفالك يشعرون بالقلق بشأن الأفراد في أوكرانيا، تقترح "هيل" التحدث عن الإجراءات التي اتخذها الناس لحماية أنفسهم، كالبقاء في الملاجئ الآمنة أو الانتقال إلى بلدان أخرى أكثر أمانا (4).

أرق الذنب

الاحساس بالذنب

عانى "علي.م"، 63 عاما، مُدرّس على المعاش، مقيم بإحدى محافظات الوجه البحري في مصر؛ من ويلات القلق والشعور الطاغي بالعجز وقلة الحيلة، حيث سافر ابنه الوحيد منذ نحو 3 سنوات للحصول على شهادة الطب من إحدى الجامعات الأوكرانية، كان الرجل يعد الأيام كي يُنهي سنوات دراسته ويعود، لكن بعد أن بدأت أخبار الحرب، استسلم لضياع الجهد والمال اللذين بذلهما خلال السنوات الماضية، وكل ما تمناه فقط أن يعود ابنه إليه سالما.

 

أما "إيمان"، ناشطة على مواقع التواصل، فعلى الرغم من عدم وجود أقارب لها في أوكرانيا، فإنها شعرت بمزيج القلق والعجز ذاته وهي تشاهد الأخبار المتوالية حول معاناة الطلاب العرب ومحاولاتهم النجاة. تقول "إيمان" في حديثها لميدان: "نظرا لوجود عدد كبير من المتابعين لي على صفحات التواصل الاجتماعي، أشعرتني مشاركاتي لأخبار الطلاب العرب، ومشاركة منشورات تحمل أرقاما تعرض المساعدة وأماكن اللجوء المتاحة للطلبة العرب أني أشارك بإيجابية، حتى ولو بشكل بسيط، خاصة عندما عرفت أن هذه المنشورات كانت سببا في نجاة البعض".

 

ربما تغرق في الشعور بالذنب لعدم قدرتك على المساعدة، أو لمجرد إدراكك أنك محظوظ بنجاتك وأمنك في منزلك، بينما يعاني الآخرون في الملاجئ وتحت ويلات الحصار. لا تحكم على نفسك ولا تنتقدها، وإنما تعاطف مع نفسك كما تتعاطف مع الآخرين، وحاول أن تجد وسيلة للمساعدة بإيجابية. جميعنا نشعر بالعجز عند مواجهة الحروب والأحداث الكبرى، وفي تلك الأوقات تمنحنا مساعدة الآخرين شعورا بالرضا والقدرة على السيطرة (5).

كيف نداوي أنفسنا الهشة؟

قلق

بينما يعصف العالم من حولك بالمآسي، يبقى أحد أهم الأمور التي يمكننا أن ننصح بها هو التركيز على ما يمكنك التحكم به بدلا من التركيز على الأمور الخارجة عن سيطرتك.

 

تذكّر أنك لا تستطيع التحكم في سلوكيات الآخرين أو سياسات الحكومات أو تقلبات الطبيعة، وأن القلق تجاه تلك الأشياء يستنزف طاقتك التي يمكنك توفيرها لتحسين جودة حياتك وحياة الأشخاص المقربين منك. وبينما لا يمكنك التحكم في هذه الأمور البعيدة، لا يزال بإمكانك التحكم في كم المقاطع والصور التي تشاهدها، وفي مقدار النوم الذي تحصل عليه.

 

تعتبر التمارين أيضا ركنا مهما في إدارة الصحة العقلية. احرص على أن تجعل الرياضة والحركة جزءا أساسيا من يومك، حتى لو بدأت بنصف ساعة من المشي أو 15 دقيقة من تمارين اليوجا. تساعدك ممارسة الرياضة على ممارسة اليقظة وعلى أن تكون حاضرا في المكان والزمان.

 

توقف عن الاتصال بالإنترنت طوال الوقت، وتَحَدَّ رغبتك المستمرة في تقليب صفحات الأخبار ومتابعتها، أغلق الشبكة قليلا، وابق دون اتصال. تنصح عالمة النفس الإكلينيكي "د. إيما هيبورن" (Dr Emma Hepburn) بتحديد أوقات معينة في اليوم لمتابعة الأخبار أو وسائل التواصل الاجتماعي، ثم إغلاقها والقيام بأشياء تساعدك على الاسترخاء. كما أوصت بأن تتأكد من المصدر الذي تحصل منه على معلوماتك، وأن تركز على الحقائق بدلا من الانخراط في التكهنات المثيرة للقلق. وختاما، تنصحنا بالتقليل من مشاهدة المحتوى المصور أو مقاطع الفيديو(6).

 

تذكَّر العامَين السابقين كيف عشنا جميعا في حالة تأهب قصوى منذ بداية أزمة الوباء، لقد منحتنا الأزمة دروسا، وعلمتنا أن لكل حادثة مدا وجزرا. وفي انتظار الجزر، ننصحك بالحفاظ على سلامتك وصحتك النفسية قدر المستطاع.

——————————————————————————

المصادر

WAR-RELATED NEWS AND IMPACT ON MENTAL HEALTH: A REVIEW

My mental health journey: How PTSD gave me the strength to share my story 

Six tips to take care of your mental health while covering the war in Ukraine from afar

Ukraine conflict: How to help yourself, your kids, and others

MANAGING ANXIETY DURING THE UKRAINE CRISIS – SMALL THINGS THAT CAN HELP IN BIG MOMENTS

Ukraine conflict: How to help yourself, your kids, and others

المصدر : الجزيرة