شعار قسم ميدان

لأن الأب الذي يهمل طفله هو الأخطر على الإطلاق!

لأن الأب الذي يهمل طفله هو الأخطر على الإطلاق!

"كنت أشعر ألا أحد يراني، أنا الأكبر سِنًّا بين إخوتي، وكان والداي يريان أنني الأقوى بنيانا أيضا من بينهم، لذا فإنهما شعرا أنهم أكثر احتياجا مني إلى العناية والرعاية وأنني أستطيع الاعتناء بنفسي. حتى عندما كُنت أمرض كان ما يُقدَّم لي من الاهتمام والرعاية لا يُقارن بما يُقدَّم لإخوتي، وبعدما مرَّت السنوات وأصبحنا أنا وإخوتي رجالا ونساء بالغين، أصبحت أنا الأكثر هشاشة والأكثر ضعفا، كأنني قد استنفدت مخزون قوتي وقدرتي على الاستقلال والاعتماد على نفسي وعدم الاحتياج إلى أحد". هكذا بدأت سارة. ع، الفتاة الثلاثينية، حديثها مع "ميدان".

 

مرَّت سارة بالعديد من تجارب الارتباط العاطفي التي فشلت قبل أن تصل إلى مرحلة الزواج، تقول: "أتممت تعليمي، أعمل في إحدى الشركات الخاصة الكبرى، شكلي لا بأس به، ومع ذلك قلبي يُخبرني دوما أنني لست أهلا للحب، عقلي يقول لي لن يتقبَّلني أحد، ولا أدري سببا ولا تفسيرا لهذا، حتى وإن أخبرني أحدهم أنه معجب بي أو يود الاقتران بي". ما تعرَّضت له سارة وما زالت تُعاني من تبعاته إلى الآن هو ما يُطلق عليه "الإهمال".

 

تُشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين أُهملوا عاطفيا وهم أطفال سوف يتعيَّن عليهم التعامل مع عواقب هذا الإهمال في الكبر. تشمل الآثار الأكثر شيوعا لإهمال الأطفال في مرحلة البلوغ كلًّا من اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب، وتجنُّب العلاقة الحميمية، وضعف الانضباط الذاتي، والشعور بالذنب والعار، فضلا عن الغضب والسلوك العدواني، وصعوبة الثقة أو الاعتماد على الآخرين.

 

ما هو إهمال الطفل؟ وما أنواعه؟

الأب المتسلط

يُمكننا أن نعتبر إهمال الطفل أحد أكثر أشكال سوء معاملة الأطفال شيوعا، وهو أمر يمكن أن يؤثر على الصحة البدنية والعقلية للطفل مع عواقب وخيمة محتملة على المدى الطويل. قد يحدث إهمال الطفل نتيجة بعض الأمور الأكثر تعقيدا، مثل اختلال الصحة العقلية أو البدنية للوالدين، أو التحديات المالية التي تواجه الأسرة، وربما تورُّط أحد الوالدين في تعاطي المخدرات أو الكحول.

 

في الولايات المتحدة الأميركية، تُعرِّف القوانين إهمال الطفل بأنه فشل أحد الوالدين أو مُقدِّم الرعاية في توفير ما يلزم الطفل من طعام أو مأوى أو ملبس أو رعاية طبية أو إشراف، للدرجة التي تُصبح خلالها صحة الطفل وسلامته ورفاهه مُهدَّدة بالضرر.(1) يُخبرنا هذا التعريف بوضوح أن الإهمال يتجاوز الفكرة البدائية حول التقصير في إطعام الطفل أو تركه وحده في المنزل. وفقا لمكتب الأطفال التابع لوزارة الصحة الأميركية، هناك عدّة فئات أساسية للإهمال، وتتضمَّن ما يلي: الإهمال التعليمي، وهو الفشل في تسجيل الطفل في المدرسة أو تجاهل احتياجات التعليم الخاصة بالطفل، والإهمال العاطفي، وهو تعريض الطفل للعنف المنزلي أو عدم تقديم المودة والدعم العاطفي له، وأيضا الإشراف غير الكافي، وهو يعني ترك الطفل الذي لا يستطيع رعاية نفسه بمفرده في المنزل، ويتضمَّن هذا عدم حماية الطفل من مخاطر السلامة.

 

وهناك أيضا الإهمال الطبي الذي يعني رفض أو تأخير العلاج الطبي الضروري أو الموصى به للطفل، وأخيرا الإهمال الجسدي، وهو الفشل في رعاية احتياجات الطفل الأساسية مثل النظافة أو التغذية أو المأوى.(2)

 

تأثير التعرُّض للإهمال على الأطفال

تأثير التعرُّض للإهمال على الأطفال

يُظهِر العلم أن التعرُّض المُبكر لسوء المعاملة أو الإهمال يمكن أن يُعطِّل النمو الصحي وتكون له عواقب تدوم مدى الحياة. عندما تكون استجابات البالغين لاحتياجات الأطفال غير موثوقة أو غير مناسبة أو غائبة، فإن هذا يُعطِّل نمو دوائر الدماغ، ما يؤثر سلبيا على كيفية تعلُّم الأطفال وقدرتهم على حل المشكلات والتواصل مع الآخرين.

 

يؤدي الإهمال غالبا إلى شعور الطفل بالتهديد، ومع تكرار هذا الشعور، تُنشَّط أنظمة الاستجابة البيولوجية للتوتر، ويمكن أن يكون للتنشيط المفرط لهذه الأنظمة تأثير سام على تطوير دوائر الدماغ. عندما يستمر نقص الاستجابة، يمكن أن يؤدي هذا إلى مضاعفة الفرص الضائعة لتنمية الطفل.(3)

 

لكن من ناحية أخرى، لا يتأثر جميع الأطفال الذين يتعرَّضون لتجارب مماثلة من سوء المعاملة والإهمال بالطريقة نفسها. بالنسبة لبعض الأطفال والشباب، قد تكون آثار الإهمال الذي تعرَّضوا له أثناء طفولتهم مزمنة ومُنهكة، في حين قد يعاني الآخرون من نتائج سلبية أقل.(4) يتحدَّد ذلك بناء على تجارب الحياة التي يمر بها الطفل والظروف العائلية الأخرى التي تؤثر إيجابا أو سلبا على قدرته على الصمود في مواجهة سوء المعاملة أو الإهمال. فعندما يكون لدى الطفل الذي تعرَّض للإهمال القليل من عوامل الحماية مثل العلاقات الإيجابية مع العائلة أو الأصدقاء، يزداد خطر حدوث نتائج سلبية.

 

ومن العوامل الحاسمة أيضا التي تُحدِّد الطريقة التي يؤثر بها الإهمال على الأطفال والشباب تواتر ومدة سوء المعاملة ومدى تزامن حدوث أشكال متعددة من الإهمال. ويُعرَّف سوء المعاملة المزمن بأنه "حوادث متكررة لسوء المعاملة على مدى فترة طويلة من الزمن"، ويرتبط غالبا بحدوث نتائج أسوأ.(5)

 

في محاولة شرح بعض النتائج السلبية المُرتبطة بالتعرُّض للإهمال المزمن ومتعدد الأنواع، صكَّ الباحثون مفهوم "الصدمة المعقدة" للتعبير عن هذا النوع المركَّب من الإهمال. تؤثر الصدمات المعقدة على الدماغ النامي، وقد تتداخل مع قدرة الطفل على دمج المعلومات الحسية والعاطفية والمعرفية، مما قد يؤدي إلى ردود فعل مفرطة تجاه الإجهاد النفسي اللاحق، بالإضافة إلى بعض الآثار طويلة المدى مثل مشكلات الصحة المعرفية والسلوكية والجسدية والعقلية.(6)

 

من المُرجَّح أيضا أن يُعاني الأطفال المعرَّضون لسوء المعاملة والإهمال من مشكلات التعلق غير الآمن أو غير المنظم مع مُقدِّم الرعاية الأساسي.(7) تُعَدُّ أنماط التعلق الآمن بمُقدِّم الرعاية في غاية الأهمية للنمو العاطفي والاجتماعي الصحي للطفل في وقت مبكر. بالنسبة للأطفال الذين يعانون من ارتباط غير آمن، يصبح الوالد/مُقدِّم الرعاية، الذي يجب أن يكون المصدر الأساسي للسلامة والحماية والراحة، مصدرا للخطر أو الأذى، وبدون الأمان والدعم من مُقدِّم الرعاية الأساسي، قد يجد الأطفال والرضع صعوبة في الوثوق بالآخرين عندما يكونون في ضائقة، مما قد يؤدي إلى تجارب مستمرة من القلق أو الغضب.(8)

 

وجدت الدراسات أيضا أن الإهمال في السنوات الأولى من الحياة يمكن أن يؤثر تأثيرا خطيرا على القدرات التنموية للرضع، وخاصة في المجالات الحاسمة للكلام واللغة، كذلك ارتبط إهمال الأطفال بصعوبات التعلُّم وضعف التحصيل الدراسي.(9) بالمثل، ارتبطت مشكلات الصحة العقلية، مثل الاكتئاب واضطرابات القلق، باستمرار مع إساءة معاملة الأطفال وإهمالهم، خاصة بالنسبة للمراهقين. ففي مراجعة لسبع دراسات، رُبط بين سوء معاملة الأطفال وإهمالهم من جهة، وحدوث الاكتئاب في مرحلة المراهقة من جهة أخرى.(10) إلى جانب ذلك، فإن سوء المعاملة والإهمال يزيدان من خطر التفكير في الانتحار ومحاولة الانتحار لدى الشباب،(11) بالإضافة إلى زيادة احتمالية تعاطي الكحول والمخدرات في مرحلة المراهقة والبلوغ.(12)

 

ما الذي يجعل الآباء يُهملون أطفالهم؟

طفل غاضب من أبيه

حسنا، لدى معظم الآباء نِيَّات حسنة، ولا يشرعون في إهمال أطفالهم عن عمد. لكن، مع الأسف، لا يستطيع بعض الآباء تلبية احتياجات الطفل بشكل كافٍ بسبب قلة المعرفة والدراية، كما في حالة الآباء الجدد الذين لا يفهمون أساسيات نمو الطفل، وقد لا يدركون عدد المرات التي يحتاج فيها طفلهم إلى التغذية أو تغيير الحفاض، أو لا يعرفون أنه ينبغي عدم ترك طفل يبلغ من العمر 5 سنوات بمفرده في المنزل.

 

قد يحدث الإهمال كذلك دائما نتيجة فشل أحد الوالدين في تلبية احتياجات أطفالهم. في بعض الأحيان، قد يمنع المرض العقلي الآباء من توفير الرعاية الكافية. هناك عوامل أخرى تزيد من خطر تعرُّض الطفل للإهمال مثل الفقر، والافتقار إلى الدعم الاجتماعي، والأُسَر ذات الوالد الوحيد، والعنف المنزلي، فضلا عن البطالة أو انخفاض الدخل.(13)

 

في بعض القرى المصرية يرغب الآباء في إنجاب الكثير من الأبناء، وهو ما قد يؤدي إلى عدم القدرة على تلبية احتياجاتهم المادية والنفسية بشكل كافٍ، وهذا ما تعرَّض له جمال. س، الشاب الثلاثيني، فيقول لـ "ميدان": "وُلدت وتربيت في إحدى قرى صعيد مصر، كان كل ما يشغل أبي هو إنجاب الكثير من الأولاد، كان يُعاني من مشكلات مالية، فقد كان يعمل مُدرسا، وليس لديه من الدخل سوى راتبه الحكومي، ومع ذلك أصرَّ على إنجاب طفل واثنين وثلاثة، حتى ثمانية أطفال، تراجعت صحة أمي بعد إنجاب كل طفل، فلم تقوَ على العناية بنا ورعايتنا، تراجعت مقدرة أبي المادية أيضا، فأصبح لا يطيق تعليمنا جميعا، ولا يستطيع أن يوفر رعاية صحية لجميع هؤلاء الأبناء. مات طفلان منّا، وبقي على قيد الحياة ستة أطفال".

 

كثرة الأبناء جعلت جمال وإخوته يُعانون لإيجاد أبسط أنواع الاهتمام والعناية، بداية من المأكل الذي لا يكفي الجميع، مرورا بالطبيب الذي لا يستطيعون زيارته عند المرض، وصولا إلى عدم القدرة على الحصول على مستوى جيد من التعليم، ويقول عن هذا: "كان كل ما يشغل أبي هو ألا يكون وحيدا عندما يكبر في السن، كان يريد العديد من الأبناء حتى يساعدونه ويحملونه في كبره، والغريب أنه بعد وفاة أمي تزوج بعضنا وسافر البعض الآخر بحثا عن فرصة عمل وحياة أفضل، ولم يبقَ مع أبي سوى أختي الصغرى التي تتولى رعايته في كبره".

 

ما يُدركه جمال جيدا هو أنه لا يرغب في إنجاب العديد من الأطفال حينما يتزوج، يرغب فقط في إنجاب طفل أو اثنين، لكي يستطيع توفير حياة مُستقرة ومُريحة لأبنائه، يُحدِّثنا قائلا: "أريدهم "شبعانين" محبة، متربيين ومتعلمين كويس". لكن على نقيض اهتمام جمال بتلبية احتياجات أطفاله المُستقبليين العاطفية، قد يصبح البالغون الذين عانوا من الإهمال العاطفي خلال مرحلة طفولتهم آباء يهملون أطفالهم عاطفيا، لأنهم لم يتعلموا أبدا أهمية عواطفهم، لذلك قد لا يعرفون كيفية التعامل مع مشاعر أطفالهم.(13)

 

كيفية التعامل مع الأطفال الذين تعرَّضوا للإهمال

كيفية التعامل مع الأطفال الذين تعرَّضوا للإهمال

يساعد علاج إهمال الأطفال وإساءة معاملتهم على تقليل مخاطر تعرُّض الطفل لمشكلات التعلُّم والمشكلات العاطفية والاجتماعية في وقت لاحق من الحياة. قد يستفيد الأطفال الذين تعرَّضوا للإهمال وسوء المعاملة من الخدمات العلاجية لمساعدتهم على معالجة عواطفهم أو سلوكياتهم أو مخاوفهم.

 

يمكن للطبيب النفسي أو المعالج أن يساعد الطفل على تعلُّم كيفية التعامل مع مشاعره بطريقة صحية. إذا كان الطفل معتادا على قمع عواطفه، فقد يكون من الصعب التعرُّف على العواطف واختبارها بطريقة صحية. وبالمثل بالنسبة للبالغين، يمكن أن تؤدي سنوات من كبت المشاعر إلى صعوبات في التعبير عنها. يمكن للمعالجين والمتخصصين في الصحة العقلية مساعدة كلٍّ من الأطفال والبالغين على تعلُّم التعرُّف على مشاعرهم وقبولها والتعبير عنها بطريقة صحية.(14)

 

هناك أنواع مختلفة من العلاج، مثل: العلاج التنموي، وهو نوع من العلاج يتعامل مع الطريقة التي ينمو بها الطفل والطريقة التي تداخل بها الإهمال مع النمو فمنعه أو عرقله، وهناك العلاج المعرفي والسلوكي، وهو العلاج الذي يتعامل مع الطريقة التي غيَّر بها الإهمال مشاعر وأفكار الطفل وسلوكه.(15) وهناك أيضا العلاج الأسري الذي يمكن أن يساعد كلًّا من الوالدين والطفل، فيمكن للمعالج أن يساعد الآباء على فهم التأثير الذي يُحدثونه في أبنائهم، كما يمكنه أيضا مساعدة الأطفال على تعلُّم كيفية التعامل مع المشكلات التي يواجهونها.

 

أيًّا ما كان نوع العلاج، يمكن أن يساعد التدخُّل الفعَّال، وفهم التجارب الخاصة في الإهمال، الأشخاص من جميع الأعمار في التغلُّب على آثار الإهمال العاطفي على المدى القصير، ومنع وقوع المضاعفات الخطيرة في المستقبل.

———————————————–

المصادر

  1. Definitions of Child Abuse & Neglect
  2. Acts of Omission: An Overview of Child Neglect
  3. Neglect
  4. Child maltreatment
  5. Chronic and isolated maltreatment in a child protection sample
  6. Down will come baby, cradle and all: diagnostic and therapeutic implications of chronic trauma on child development
  7. Attachment security and disorganization in maltreating and high-risk families: A series of meta-analyses
  8. Child Neglect: Developmental Issues and Outcomes
  9. Three decades of child maltreatment research: Implications for the school years
  10. Child abuse and neglect and the development of depression in children and adolescents.
  11. Adverse childhood experiences and suicidal behavior.
  12. Physical punishment/maltreatment during childhood and adjustment in young adulthood
  13. Risk Factors That Contribute to Child Abuse and Neglect
  14. Childhood Emotional Neglect: How It Can Impact You Now and Later
  15. Child Abuse and Neglect Treatment
المصدر : الجزيرة