شعار قسم ميدان

"فينك يا مشواري".. كيف عاش ميسي كأس العالم بصوت أحمد منيب؟

في أول مونديال تحتضنه أرض عربية، نتخيل لو كان ليو ميسي عربيا، أو على الأقل يفهم لغتنا ويتحدثها، ويستعد لانطلاق كأس العالم بالحماسة نفسها والمشاعر شديدة التأرجح بين الألم والأمل. وليلة الانطلاق، يسند رأسه إلى الحائط ويسرح، لتتردد في أذنيه أكثر أغنية بإمكانها التعبير عما يدور في رأسه، مع اقتراب التحدي الأهم في حياته على الإطلاق. (1)

تتجسد مشاعره بصوت الخال أحمد منيب، الذي يُشعرك دائما أنه يدندن إليك في جلسة مشتركة، وكأن أغانيه كُتبت ولُحِّنت لك وحدك، هكذا يشعر ليو حين يقرر الاستماع إلى أغنية "فينك يا مشواري" قبل أهم مشاوير حياته، على كثرة ما فيها من مشاوير. (2)

فينك يا مشواري؟

مع كل مقطع، تنتابك حالة إسقاط لما يدندنه الخال، إسقاط على حياتك وما تريده، أحلامك وخيباتك، والمزيج الفريد بين الأمل والألم، خاصة لو كانت الأغنية من كلمات الراحل عبد الرحيم منصور، خير مَن يمزج الخيبات مع الأمل في تجاوزها.

"فينك يا مشواري، يا أبو المشاوير يا مشواري

قريب من خطوتي، ولا لسه كتير يا مشواري؟"

مع هذا المقطع، يمر شريط الحياة أمام ليو، ولا يرى فيه سوى كأس العالم، وحلم الشعب بأن يتكرر إنجاز 1986، اعتمادا على ساحر من المنتظر أن يفوق في سحره مارادونا، فبعد أن سجَّل هدفا مماثلا لهدف القرن لديبجو أمام إنجلترا، كان لا بد أن يفعل الأمر ذاته بقميص بلاده، ثم يُنهي القصة بصورة يُحمل فيها على الأعناق، كتلك الصورة الشهيرة التي التقطها مارادونا حاملا كأس الذهب في 1986. (3)(4)

"صبرت كتير ومستني

وخايف عمري يسبقني

يا مشواري ما تسمعني

أنا عارف تمام إنك، لا متمهد

ولا أنت حرير يا مشواري"

هي أكثر كلمات يمكنها أن تلمس قلب ليو، فأما عن الصبر، فقد امتد لسنوات طوال، تحقق فيها كل شيء سوى ذلك الحلم، وأما عن الخوف من مرور العمر، فلم يعد في القصة سوى تلك المحاولة لكتابة النهاية المرجوة، رغم كثرة العراقيل التي تؤكد أن المشوار لم يكن ممهدا ولا حريريا. لا أحد يدرك ذلك ويثقل به كاهله سوى ميسي، مهما شعر به الملايين حول العالم، ستبقى هناك أحاسيس لا وجود لها إلا في قلبه فقط، ولن يشعر بها غيره.

مشيت ومشيت.. وما تعبتش

ميسي 2006 (غيتي إيميجز)

وسط شروده، ومرور شريط العمر، لا شيء بإمكانه قطع تسلسل تفاصيل الذكريات إلى عقله، كم مشى ومشى ولم يتعب، لحظات الاستسلام ثم نفض الغبار والمحاولة من جديد، وتلك الصعوبات التي عرقلت رحلته مع الأرجنتين، لتُحوِّلها إلى هاجس ودوامة من الضغط الذي حال بينه وبين الاستمتاع بها، رغم ما قدَّمه للعالم من متعة بكل القمصان التي ارتداها.

"مشيت ومشيت وما تعبتش

خطاوي ياما متعدش

وكل خطوة تهد

أرفع حمولي وأشد

أمشي وعيوني تمد

آخرك يا ليلي فجر

يشقشق في الخلا ينعش

ولو فاكر ملكش كبير، أنا جايلك يا أبو المشاوير، يا مشواري"

كلمات تنقل ليو إلى حالة مركبة، خليط بين الألم والأمل في تخطيه، وتذكُّر خطواته التي لا تُعَدُّ، التي كلما هدمته قام وأكمل رحلته، ناظرا بعينيه إلى الأمام، حيث ضوء يلمحه في آخر النفق، فيدب بداخله روح التحدي.

"خطاوي ياما متعدش"، تلك التي بدأت في 2006، مع صاحب الـ19 عاما الذي ترك مراهقته للتو ومع ذلك فهو يُقارَن بمارادونا. موهبة يتحدث عنها الجميع، تمتع العالم، وتبدأ أولى نهاياتها الحزينة بخروج من ربع النهائي على يد ألمانيا، مباراة أخرج فيها المدرب جوزيه بيكرمان ريكيلمي الذي سيطر على وسط الملعب ليحل محله لاعب الارتكاز كامبياسو، خوف من المجهول جعله يلجأ إلى الدفاع فيخسر سيطرته على المباراة، ويُعنون تبديله ذلك لحظة الخروج المؤلمة، التي بالطبع كانت أقوى من أن يتحملها ابن التسعة عشر عاما. (5)(6)

خطوة ثانية، في جنوب أفريقيا 2010، يخطوها وهو أفضل لاعب في العالم، وصاحب السداسية التاريخية، وخارج الخط، المدرب هو ذاك الرجل الذي يُقارنه به العالم، دييجو أرماندو مارادونا، الذي قد يكون أفضل مَن لمس الكرة في تاريخها، ولكن ذلك لم يمنحه أي معرفة عن كيفية إدارتها. (7)

مشوار بدأ مُبشِّرا، حتى تكررت قصة 2006 بحذافيرها، حين أفسد مارادونا كل شيء بسخريته من توماس مولر قبل مواجهة ربع النهائي أمام ألمانيا أيضا، وبتشكيل نسي فيه أن الدفاع جزء من كرة القدم، فخسر برباعية. ومع وجود أفضل لاعب في العالم على أرض الملعب، لا يمكن مقاومة رغبة تحميل المسؤولية لرجل واحد، ويكون توجيه السهام نحو ليو وحده هو أسهل ما يقوم به الجميع. (8)

في 2014، كان الكابوس أشد ألما، كان مؤلما لدرجة أن ميسي لم ينسَ لحظة خيبة الأمل تلك حتى الآن، وربما لن ينساها طيلة حياته. كانت المرة الأولى التي يصل فيها ليو إلى النهائي، والأولى للأرجنتين منذ 1990، ليلة بكاء مارادونا بعد الخسارة أمام ألمانيا أيضا، وكأنها الشبح الأسود الذي كُتب على راقصي التانغو السقوط أمامه مدى الحياة. (9)(10)

في 2014، كان الكابوس أشد ألما، كان مؤلما لدرجة أن ميسي لم ينسَ لحظة خيبة الأمل تلك حتى الآن، وربما لن ينساها طيلة حياته. (غيتي)

الاقتراب من ملامسة الإنجاز يجعل السقوط أكثر قسوة، بطولة قدَّم فيها ميسي كل شيء منذ البداية وحتى المشهد الأخير، وتُوِّج أفضل لاعب فيها، ولكن اللقب الأهم تاه من بين يديه هو وزملاؤه، فكانت الضربة أقوى من أن تجعله يبكي كمارادونا قبلها بـ24 عاما، بل وقف يحترق داخليا، بينما وجهه لا يتحرك، ولا يهتز له رمش. ولكن بمجرد النظر إليه، يمكنك أن تسمع صوت الألم الذي يحتفظ به داخله، بل صوت كسر قلبه بالأحرى. (11)

بعد ذلك، كانت 2018 هي لحظة ما بعد العودة من الاعتزال لإنقاذ بلاده من كابوس الخروج من التصفيات، والنجاح في ذلك بمشهد فردي لم يتمكَّن من محو اتهامات التخاذل بعد خسارة 5 نهائيات بين كوبا أميركا وكأس العالم، دون أن يسأل هؤلاء المتهمون كيف وصلت الأرجنتين إلى المشهد الأخير في كل مرة منها من الأساس؟ (12)(13)

في روسيا، كانت النسخة الأكثر خفوتا، التي أعلنت معها نهاية القصة بمشهد حزين، خافت أكثر مما ينبغي حتى في حزنه، ولكن مع التتويج بكوبا أميركا، دب الحماس في نفوس جيل جديد يبدو جائعا لذلك الحلم، وتجدد الأمل مرة أخرى قبل المحاولة الأخيرة في قطر. (14)

يا مشواري.. أنا شايفك!

ينطلق كأس العالم، خسارة من السعودية تُخلِّف الألم، وفوز على المكسيك يبعث الأمل، وبينهما يدور الكون ومعه ليو، يمشي خطوات مشواره إلى حافة النهاية، مُمنيًا نفسه ومعه ملايين البشر بنهاية سعيدة. (وكالة الأناضول)

رغم استحالة الظروف نظريا، كان كل شيء يشير إلى حتمية حدوث ذلك في دنيا الخيال والأحلام، فوز بكوبا أميركا وجيل متماسك، مستوى خافت من ميسي في موسم ثم صحوة في الموسم الذي تلاه بسبب اقتراب كأس العالم، تلك التي رأى ميسي فيها ملامح المشوار الأخير، ورسمه في خياله، أو فوق كفيه ربما. (15)

"يا مشواري أنا شايفك

خطوط مرسومة فوق كفي

قصاد عيني ومني قريب

وأنا ماشي كأني غريب

أتوه وأسأل عشان ألقاك

يا باقي العمر هتكفي؟"

في الطريق نحو السادسة والثلاثين من عمره، لا يوجد سؤال يمكن أن يدور في رأس ميسي أكثر من "يا باقي العمر هتكفي؟"، بعد سنوات من إخباره العالم بأن الجسد لا يرحم، وأن الأمور تصبح أكثر صعوبة مع مرور الوقت، وأنه سيكون على شفا الأربعين حين يأتي موعد المونديال القادم. (16)

مع نهاية الكلمات، تتوقف دندنة أحمد منيب، ربما لو عاشها ليو كما تخيلها لنظر إلى السماء حتى يخفت صوت الموسيقى، قبل أن ينزع سماعاته من أذنيه، وربما نزلت دموعه، أو احتفظ بها في قلبه قبل أن ينام ليلته، ويستيقظ لخوض مشواره الذي يعلم أنه سيكون الأخير أيًّا كانت نهايته.

وحول كل ذلك، ينطلق كأس العالم، خسارة من السعودية تُخلِّف الألم، وفوز على المكسيك يبعث الأمل، وبينهما يدور الكون ومعه ليو، يمشي خطوات مشواره إلى حافة النهاية، مُمنيًا نفسه ومعه ملايين البشر بنهاية سعيدة، يشقشق فيها الفجر بنهاية الليل، وفي الخلفية يتردد سؤال واحد: "قريب من خطوتي؟ ولا لسه كتير يا مشواري؟".

__________________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة