شعار قسم ميدان

الأب المستبد والأم المسيئة.. كارثة لا نلتفت إليها إلا بعد فوات الأوان

الآباء المستبدون

"لا أستطيع أن أغفر له أبدا. أثناء طفولتي لم أكن أشعر بالأمان في بيتي، كنت أكره سماع وقع خطواته على سلم المنزل، كان هذا يعني ببساطة أنني سأدخل غرفتي ولن أخرج منها أبدا حتى يخرج هو من البيت مرة أخرى"، هكذا بدأت "غدير.ع"، الفتاة الثلاثينية التي تعمل موظفة بإحدى الشركات الخاصة، حديثها مع ميدان حول أبيها، ثم أضافت: "قضيت سنوات طويلة أخاف من مجرد رؤيته بسبب ضربه المُتكرر لي على أهون الأسباب، وأحيانا بلا سبب فعلي، بمُجرد ظنه أنني أخطأت كان يضربني، حتى وإن لم أُخطئ فعليا".

 

غدير هي إحدى الحالات التي تعرضت للإساءة من الوالدين. وبشكل عام، فإن الإساءة التي يتعرض لها الطفل من والديه يمكن أن تشمل الضرب والإهانة والسخرية وإبداء الاحتقار والتثبيط والشكوى الدائمة للآخرين منه، وهذه الأشياء مجتمعة تُعرف باسم الأسلوب الاستبدادي في التربية.

 

بحسب غدير، فإنها تغبط أقرانها من الفتيات اللاتي استطعن نسج علاقات وثيقة وآمنة مع آبائهن، تقول عن هذا: "كان أبي يريدني أفضل شخص في الدنيا، يُريدني ألا أخطئ أبدا، يُريدني أن أحترمه ولا أخرج عن طوعه، حتى وإن سبب لي الرعب في سبيل تحقيق هذا، كان يُريد الدرجات النهائية في المواد الدراسية، يريد أن يراني كما يُخطط ويرغب بالضبط، وإن بدوت غير منسجمة أو متناسقة إلى حد التطابق مع هذا التخطيط الطموح، كان جزائي ببساطة هو الصفع والضرب بعنف والإهانة والاتهامات والشكوى مني للجميع".

 

تُضيف قائلة: "أبي الآن تجاوز الخامسة والستين من عُمره، يُعاني من مشكلات الشيخوخة مُبكرا منذ فترة، بدأ الزهايمر يلتهم ذاكرته، أحيانا لا يستطيع التعرّف إلى أبنائه، الآن هو أصبح مثار عطف وشفقة. أحاول أن أؤدي دوري تجاهه، ولا أعرف إن كُنت أفعل هذا لأنني أعطف عليه فعلا أم لأنني لم أتزوج وأضطر لفعل هذا لأنني ما زلت أحيا في بيته. صحيح أنني أرعاه، لكن -مع الأسف- بلا عاطفة حقيقية، فما زال قلبي حتى هذه اللحظة يرتجف عند التحدث إليه، حتى وإن كان حديثا عاديا، كأن جسدي يحتفظ بألم كل مرة ضربني خلالها، ويُعيد التذكر حتى ولو دون وعي مني، ويظهر هذا في شكل دقات قلب سريعة عند رؤية أبي أو التحدث إليه".

 

الأسلوب الاستبدادي في التربية.. ما هو؟

الأب الاستبدادي

يُعبر الأسلوب الاستبدادي في التربية عن الطريقة الأكثر صرامة في الأبوة والأمومة. يعتقد الأبوان اللذان يتبعان هذا النمط من التربية بأن سلوك الطفل ومواقفه يجب أن تتشكل من خلال نظام تربوي صارم. الصراخ والعقاب البدني شائعان في الأسلوب الاستبدادي في التربية. الآباء الاستبداديون يعاقبون الأطفال على الفشل، بينما يتجاهلون إنجازاتهم، ولديهم توقعات عالية، حيث يتوقعون مثلا من الطفل ألا يخطئ، وأن يطيعهم بشكل كامل(1).

 

يفرض أسلوب التربية الاستبدادي السلوك الجيد من خلال التحكم النفسي والتهديدات وأشكال العقوبات الأخرى. وتبدو المفارقة هنا أنه على الرغم من كون الآباء ذوي الأسلوب الاستبدادي لديهم توقعات عالية جدا من أطفالهم، فإنهم لا يقدمون سوى القليل جدا من الاستجابات لاحتياجات أطفالهم ورعايتهم(2). فوفقا لتعريف علماء النفس، يرتبط هذا النمط من التربية بقدر أقل من الدفء والاستجابة الأبوية، وهو ما يُعرّض الأطفال للكثير من الآثار السلبية الناتجة عن نشأتهم في بيئات مُجهِدة نفسيا(3).

 

يتضمن الأسلوب الاستبدادي في التربية بعض الخصائص، والتي منها: التركيز الشديد على القواعد التي يضعها الوالدان دون أي تفسير أو حرص على إفهام الأطفال سبب وجود هذه القواعد، من سمات هذا النمط أيضا أن الآباء يتوقعون من أطفالهم الطاعة الكاملة دون توجيه أي أسئلة أو استفسارات، دون السماح لهم بالتعبير عن أنفسهم أو الرد. وعند مخالفة التوقعات أو خرق القواعد، يُقْدم الآباء الاستبداديون على تنفيذ عقوبات سريعة وصارمة، ورُبما مُبالغ فيها بشكل لا يتناسب مع حجم الخطأ الفعلي(4).

 

هل يمكن أن يحقق نتائج إيجابية؟

الأم المستبدة

يتبع الآباء نهج التربية الاستبدادي للحصول على نتائج أفضل مع أبنائهم، هم يعتقدون أن الشدة والصرامة البالغة هي الأدوات التي يُمكنهم من خلالها تربية الأبناء تربية جيدة وفرض السلوكيات القويمة، غير أن أدلة متزايدة تثبت أن التكتيكات القاسية تجعل الأطفال أسوأ(5).

 

تشير الأبحاث أن تكتيكات مثل الصرامة المتزايدة والشدة والسيطرة على الأطفال من خلال التهديدات أو العقوبات القاسية أو الإشعار بالذنب، لا تؤدي إلى تحسينات سلوكية طويلة المدى. بشكل عام، تُقيَّم فعالية الأساليب التربوية على أساس قدرتها على تقليل المشكلات السلوكية مع تقدم الأطفال في السن، لكن الدراسات تُشير إلى عكس هذا بالضبط مع الأطفال الذين تلقوا تربية استبدادية، حيث يميلون لإظهار سلوكيات تخريبية أو عدوانية أو متحدية أو حتى معادية للمجتمع مع تقدمهم في العمر.

 

فخلال تحليل تلوي لأكثر من 1400 دراسة منشورة، وجد الباحثون أن التربية القاسية والتحكم النفسي كانا في الواقع أقوى مؤشرات تؤدي إلى تدهور السلوك بمرور الوقت. لذلك، يرى الباحثون أن الأطفال الذين تعرضوا للتكتيكات الاستبدادية يميلون إلى تطوير المزيد من مشكلات السلوك الخارجي في نقاط زمنية لاحقة حتى وإن أظهروا انضباطا على المدى القصير (6).

 

بيد أن الباحثين لا يجزمون بعد أن المشكلات السلوكية الخارجية تعود بالكامل إلى الأبوة والأمومة الاستبدادية؛ لأن العوامل الوراثية قد تتحكم ولو جزئيا بالأمر، حيث إن بإمكانها أن تزيد من خطر إصابة الطفل بأنواع معينة من المشكلات السلوكية. ما يحدث في هذه الحالة هو العكس، فقد يميل الأطفال الذين تؤدي بهم العوامل الوراثية إلى مشكلات سلوكية لإثارة ردود استبدادية من قبل مقدمي الرعاية لهم. يرى الآباء أطفالهم يسيئون التصرف، ويكافحون لإيجاد حل، يشعرون بالتوتر والإحباط، فيتخذون إجراءات صارمة، مثل التهديدات والعقوبات، ويظهرون قدرا أقل من الدفء تجاه أطفالهم الذين يسيئون التصرف.

 

خلال هذه الحالة، تكون مشكلات السلوك هي التي تؤدي إلى حدوث الأبوة الاستبدادية، لكن هذا لا يُبرئ ساحة الأبوة الاستبدادية تماما، فالأدلة تؤكد أن الأسلوب الاستبدادي في التربية ضار، سواء أكان فعلا أو رد فعل، فهو يجعل مشكلات سلوك الأطفال أكثر سوءا بشكل أكبر مما نظن. (7).

 

هذا ما توصلت إليه دراسة مماثلة في علم الوراثة السلوكية للتوائم، ركزت على الأطفال الذين يعانون من "سمات غير عاطفية قاسية"، مثل ضعف التعاطف وسوء التنظيم الذاتي الأخلاقي، وهي سمات ترتبط بمشكلات سلوكية خطيرة، وفي حين أكّد الفريق البحثي أن الجينات مهمة، فقد كان بعض الأطفال أكثر عرضة لتطوير "سمات غير عاطفية قاسية" بشكل وراثي، فإن أسلوب الأبوة والأمومة كان له تأثير أيضا. عندما أظهر الآباء الكثير من الدفء والمودة للأطفال، أصبح الأطفال أقل عرضة لتطوير هذه السمات غير العاطفية القاسية، وحتى في حالة الأطفال المعرضين لمخاطر وراثية عالية، وجدت الدراسة أنهم أظهروا أعراضا قاسية أقل مع الأبوة الدافئة (8).

 

تأثيرات طويلة الأمد

الاب المستبد

"عنف أبي جعلني أتسول الحب من الجميع"، هكذا بدأت "نورهان.ح"، الفتاة الثلاثينية، حديثها مع ميدان. بحسب نورهان، كانت تتعرض للإيذاء البدني من والدها أثناء طفولتها وحتى بداية شبابها بغية تربيتها وتأديبها، تقول: "بعد تخرجي من الجامعة، عملت بإحدى المدارس الخاصة، كنت مسؤولة عن تعليم عشرات الأطفال وتربيتهم، ومع ذلك كان أبي يضربني في المنزل وأنا كبيرة هكذا، حتى إنني أحيانا لا أفهم بوضوح السبب الذي أُضرب من أجله، رُبما ضربني لأن أسلوب ردي على سؤال له لم يرق له. كنت أحاول اتقاء هذه الإهانة بكل الطرق، لكنها كانت تحدث أحيانا لأسباب واهية لا أستطيع التنبؤ بها".

 

تُضيف نورهان قائلة: "ماذا ترتب على هذا؟ تركت له حياته وبيته وكنت أتسول الحب والرعاية من غيره، كنت أذهب للعيش في بيت عمي أو خالي، لكي أشعر فقط ببعض الأمان والاحترام، وأصبح الآن كل ما أحاول فعله هو أن أؤمن لنفسي بيتا بعيدا عنه بالكامل. لا أرغب في الزواج، ولن أضع نفسي أبدا في يد رجل يضربني مثل أبي، إذا مكنتني الظروف من تأسيس منزل سأتبنى طفلا؛ لأنني أرغب في أن أُصبح أُمّا، وليُصبح طفلي المُتبنَّى هو أسرتي وعائلتي".

 

وجدت معظم الأبحاث أن أشكال الأبوة الاستبدادية الصارمة ترتبط بمزيد من الآثار السلبية على الأطفال. تشمل هذه التأثيرات: ضعف المهارات الاجتماعية لدى الأطفال، انخفاض مستويات احترام الذات، وإظهار مستويات أعلى من الاكتئاب(9). كذلك، يميل الأطفال من العائلات الاستبدادية من مختلف أنحاء العالم إلى إظهار كفاءة اجتماعية أقل، حيث أفادت الدراسات التي أُجريت على المراهقين الأميركيين أن المراهقين الذين لديهم آباء مستبدون هم الأقل عرضة للشعور بالقبول الاجتماعي من أقرانهم، كما صُنِّفوا أيضا على أنهم أقل اعتمادا على الذات(10)، (11).

 

إذا استُخدمت العقوبات القاسية بشكل أساسي مع الأطفال، فمن المرجح أن يؤدي هذا إلى جعل هؤلاء الأطفال يتخذون العنف نهجا أساسيا في حياتهم وتصرفاتهم. مثلا، وجدت دراسة أجريت على طلاب الجامعات الأميركية أن الطلاب الذين نشؤوا على يد آباء مستبدين كانوا أكثر عرضة للانخراط في أعمال التنمر(12). أيضا وجدت دراسة إسبانية روابط بين الأبوة الاستبدادية والبلطجة، فكان طلاب المدارس الثانوية الذين لديهم آباء مستبدون أكثر عرضة للانخراط في أعمال البلطجة، لا سيما إذا حاول آباؤهم السيطرة عليهم من خلال استخدام التأديب العقابي(13).

 

بخلاف كل هذا، أشارت الدراسات إلى أن الأطفال ذوي الآباء المستبدين هم أكثر، وليس أقل، احتمالا لاستخدام الكحول وإدمانه(14).

 

عمّ يبحث الآباء المستبدون؟

الآباء المستبدون

الأبوة والأمومة الاستبدادية في كثير من الأحيان ليست شيئا ينخرط فيه الآباء عن قصد. تميل أنماط الأبوة إلى الانتقال من جيل إلى جيل، لذلك إذا نشأ أحد الوالدين على أسلوب استبدادي صارم للغاية، فقد يكون أكثر عرضة لاتباع النمط ذاته في تربية أبنائه؟

 

غالبا ما يستخدم الأشخاص الذين يتبعون أسلوب الأبوة والأمومة الاستبدادي العقاب بدلا من التحدث والتواصل، وقد يعود سبب هذا إلى أنهم عادة ما يكونون غير مستعدين أو غير قادرين على شرح الأسباب الكامنة وراء قواعدهم.

 

كذلك يرغب الآباء المستبدون في التحكم في حياة أبنائهم، قد يرون أنهم يفعلون هذا لصالحهم، وأنهم يرون بوضوح ما لا يتمكن الأبناء من رؤيته، لذلك فهم يضعون الكثير من القواعد، ليتمكنوا من إدارة جميع جوانب حياة أطفالهم وسلوكياتهم تقريبا في المنزل وفي الأماكن العامة.

 

قد يتبع الآباء هذا النمط في التربية كذلك؛ لأن طبيعتهم الشخصية تجعلهم لا يؤمنون بالمناطق الرمادية، هم ينظرون فقط إلى المواقف على أنها سوداء وبيضاء، وليس لديهم مساحة تُذكر للتنازل. تُشير الأبحاث إلى أن الآباء المستبدين يميلون إلى الحصول على درجات أقل في سمة الشخصية المعروفة باسم التوافق مع الآخرين، فيكون لديهم علاقات أكثر صعوبة بشكل عام، بما في ذلك مع أطفالهم(15).

 

تُظهر الدراسات أيضا أن الآباء المستبدين يميلون أيضا إلى الحصول على درجات أعلى في مقاييس العُصابية. العصابية هي شخصية تظهر ميلا إلى الشعور بالقلق والشك والاكتئاب والمشاعر السلبية الأخرى(16).

 

هل يمكن تجنب الأمر؟

أام متفاهمة

إذا كُنت تُريد تجنب أسلوب التربية الاستبدادي مع أطفالك، فهناك بعض الأشياء التي يُمكنك القيام بها لاتباع أسلوب تربية أكثر موثوقية وفعالية. مما يُمكنك فعله، الاستماع إلى ما يقوله أطفالك دون أن تفقد صبرك أو تعطي استجابة غير متوقعة. يُعدّ الاستماع والتحقق من عواطف طفلك أمرا ضروريا لمساعدة الأطفال على تعلم التعرف إلى مشاعرهم وتنمية الشعور بضبط النفس.

 

يُمكنك بالطبع أن تضع قواعد منزلية، أن تُحدد التوقعات والإرشادات لأطفالك، لكن عليك من ناحية أخرى التأكد من أن أطفالك يفهمون أسباب هذه القواعد؛ ما يجعل اتباعها أسهل عليهم، وعندما تُختَرق القواعد المنزلية المُتفق عليها مُسبقا، عليك في هذه الحالة اتباع العواقب المتسقة والمعقولة. تجنب العقاب البدني، ولا تُعرِّض أطفالك للخجل والشعور بالخزي لارتكابهم أخطاء، حتى لا يحتفظوا بمشاعر سلبية تجاهك، وحتى لا يقضوا بقية أعمارهم يجلدون أنفسهم عند ارتكاب خطأ. أيضا يُمكنك اللجوء إلى متخصصين لتعلم وممارسة إستراتيجيات الأبوة والأمومة الفعّالة، والتي يمكنك بعد ذلك استخدامها في منزلك (17).

———————————————————————–

المصادر

  1. What Is Authoritarian Parenting?
  2. PARENTING STYLE
  3. The influence of parenting style on adolescent competence and substance use.
  4. Authoritarian Parenting: The Right Way To Raise My Kids?
  5. Authoritarian parenting style
  6. Associations of parenting dimensions and styles with externalizing problems of children and adolescents: An updated meta-analysis.
  7. Authoritarian parenting: What happens to the kids?
  8. Considering factors affecting the connectome-based identification process: Comment on Waller et al.
  9. Effects of Authoritative Parental Control on Child Behavior
  10.  Patterns of Competence and Adjustment among Adolescents from Authoritative, Authoritarian, Indulgent, and Neglectful Families
  11. Chinese Children’s Effortful Control and Dispositional Anger/Frustration: Relations to Parenting Styles and Children’s Social Functioning.
  12.  Bullying perpetration and victimization as externalizing and internalizing pathways: A retrospective study linking parenting styles and self-esteem to depression, alcohol use, and alcohol-related problems
  13.  Parenting styles and bullying. The mediating role of parental psychological aggression and physical punishment
  14. Which parenting style is more protective against adolescent substance use? Evidence within the European context
  15.  Personality and parenting style in parents of adolescents
  16. Comparison of Personality among Mothers with Different Parenting Styles
  17.  8 Characteristics of Authoritarian Parents
المصدر : الجزيرة