شعار قسم ميدان

يا محاسن الصدف.. هل المصادفات جزء من نظامنا الإدراكي أم أنها تخفي دلالة إلهية؟

اضغط للاستماع

خلال عشرينيات القرن الماضي، شكَّلت إحدى مريضات كارل يونغ مصدر إحباط من نوع خاص بالنسبة إليه -هذا برغم "مستواها التعليمي الممتاز" و"عقليّتها الديكارتيّة الحادّة"-، فقد كانت "مستعصية من الناحية السيكولوجية"، كما كتب الطبيب النفسي لاحقا في "التزامنيّة: المبدأ التصادفي في ربط الأشياء" الصادر عام 1960، وأراد يونغ بهذه العبارة القول إنَّها لم تكن تتقبل أساليبه المستقاة من العلم الزائف.

للولوج بشكل أفضل إلى وعيها الباطن، طلب منها يونغ أن تروي له آخر أحلامها، فأخبرته أنها رأت نفسها في منام الليلة السابقة تتلقى خنفسة ذهبية كقطعة مجوهرات، وبينما هي تصف منامها، كان هناك نقر على النَّافذة جعل يونغ يتلفت حوله، ويقول يونغ: "فتحت النَّافذة على الفور وأمسكت بحشرة تحلق بجناحيها إلى الغرفة، وقد كانت خنفسة من فصيلة الجعليات، وكان لونها الذهبي المخضر يتماثل تقريبا مع تلك الخنفساء الذهبية". أدرك يونغ أن هذا بالتحديد ما تعيّن على مريضته المتشككة أن تراه، ويضيف: "سلَّمت الخنفساء إلى المريضة قائلا "إليك خنفساءك". أحدثت هذه التجربة الثقب الذي أَمِلَهُ يونغ في عقلانية المريضة وحطمت جليد مقاومتها الفكرية، وبات يمكن للعلاج والحال هذه أن يُستكمل بالنتائج المرجوة.

اعتبر يونغ هذا الأمر مثالا على "التزامنية"، وهو مفهوم طبّقه على علم النفس وطوَّره برفقة المنظّر الفيزيائي النمساوي وولفانغ باولي لتفسير الطريقة التي يمكن فيها لأحداث غير مترابطة ظاهريا أن تكون متصلة بشكل كبير ومرتبطة بعضها ببعض بفعل قوّة غير مرئية، في هذه الحالة، كان حلم مريضته والواقع المشترك متداخلين من خلال تمظهر الخنفساء. كان يونغ يؤمن بوجود "عالم موحَّد"، لا فصل فيه بين العقل والمادة، حيث يرتبط كل أمر بآخر، وحيث لكل حدث غاية. وقد أقام اعتقاده على أفكار أكثر جموحا من هذه بكثير كالتخاطر، ودعَّم مفهومه حول "اللا وعي الجماعي"، الذي زعم فيه وجود أفكار ومعتقدات كونية وأنماط أوليَّة معيَّنة يفهمها الجميع منذ لحظة الولادة.

كتاب
كتاب "التزامنيّة: المبدأ التصادفي في ربط الأشياء" للطبيب النفسي كارل يونغ (مواقع التواصل)

استفاد عالم الأحياء النمساوي بول كاميرير، معاصر يونغ، من "التزامنية" في نظريته عن "التسلسليَّة" التي تقول إن المصادفات هي القوة الدافعة للكون، شأنها شأن قوة الجاذبية. وكان ألبرت أينشتاين الذي دائما ما استبعد الحدود بين العقل والإيمان قد وجد فكرة التسلسلية الرّوحية آسرة بشكل خاص، ويُشاع عنه قوله إنها "خلّاقة وليست عبثية بأي شكل".

هذه الأيَّام، يتفق كل العلماء تقريبا أن المصادفات هي محض مصادفات -أي إنها تخلو من معانٍ أكبر- لكنَّها أمر نختبره جميعا، وبشكل جامع يتخطى حواجز العمر، والجنس، والبلد، والوظيفة، والمستوى التعليمي. يختبر أولئك الذين يعتقدون بأنهم مرَّوا بـ "مصادفة ذات مغزى" تشابكا مميزا ومستبعدا للأحداث بحيث يختارون نسبة هذا الحدث إلى شيء من "معنى أكبر"، كالقدر أو القوة الإلهية أو القيمة الوجوديّة. واحدة من أكثر المصادفات انتشارا هي أن يجول أحد أصدقائك بخاطرك لأول مرة منذ مدة طويلة لتجده يهاتفك في تلك اللحظة بالذات، سيقول أي إحصائي لديه ذرة من احترام الذات إنك إن تتبّعت عدد المرات التي فكّرت فيها بأي صديق، وعدد المرَّات التي هاتفك فيها هذا الصديق على الفور، فستجد أنَّ الرابط من ناحية إحصائية ضئيل جدا. لكن ليس بالضرورة أن يكون من غير العقلاني نسبة أهمية من نوع خاص لهذه الواقعة. فبالنسبة إلى أولئك الذين يؤمنون بمصادفات ذات مغزى، فإنَّ الضآلة لا تحدّ من أهمية الحدث أو الغائيّة القابعة وراءه. بالنسبة إليهم، فقط لأنَّ شيئا يمكن أن يحدث فهذا لا يعني أن وقوعه لم يكن مقدَّرا أيضا.

تنطبق هذه العقلية بالدرجة نفسها على عادتنا في نسج روابط بين أحداث تصادفية بهدف تشييد أساطير ملحميّة، ومواعظ دينية، ونظريات المؤامرة. إذ يمكن لحكايا تشارلز ديكنز المطوّلة التي تتناول مصادفات متداخلة ببعضها تُفضي في النهاية إلى استنتاجات مريحة أن ترفدنا بإحساس بالمعنى، وحياةٍ تحمل في طياتها ألغازا غامضة غير مُدرَكة تجعل من معاناتنا أمرا يستحق العناء، كما لو أن حياتنا كانت بالفعل سلسلة من الأحاجي المتداخلة المعقَّدة. وذلك يفسّر إلى حدٍّ كبير جاذبية معظم الأديان الكبرى أيضا، إذ إن فكرة وجود يد إلهية ترتب حياتنا فكرةٌ مريحة بشكل خاص، حتى وإن كانت هذه الأفكار غير مثبتة علميا.

    undefined

لكن فقط لأننا قد "نعلم" بأنَّ المصادفات ذات المغزى لا يمكن أن توجد، فذلك لا يعني بالضرورة أنَّها لا تحرّكنا. في عام 1817 اتهم الشاعر جون كيتس العالمَ إسحاق نيوتن بمحاولة "تفكيك قوس قزح"، أي إن نيوتن كان يحاول نزع السحر عن الحياة عبر إحالتها إلى أساس علميّ. لربّما كان الشاعر الشاب حالما في تفكيره، لكنّ قولا من هذا النوع يثير تساؤلات تتعلق بكيف نتعامل مع الألغاز مع أو بدون الاعتقاد بوجود معنى أكبر للحياة؟ حتى إن كان من السهل تفسير كل مصادفة ممكنة بأسلوب علمي، فذلك لا يعني بالضرورة استبعاد أهميّتها. بإمكانك أن تشاهد فيلما أو تقرأ رواية وتكون في الوقت نفسه واعيا بخياليّتِها على أن تتركها تقودك في الوقت نفسه. فهل هذه الأفكار متنافرة حقا؟ وهل يمكن للاعتقاد المستمر بمصادفات ذات مغزى أن يكون عقلانيا بل وحتى ضروريا لخبرتنا بالوجود في العالم الذي نعيش فيه؟ وهل الاعتقاد بمصادفات ذات مغزى أمر ضروري لنجاتنا ككائنات إنسانية؟

بعدما سمّي بحروب فرويد التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، بقيادة الباحث الأميركي فريدريك كروز، بات أي التزام صارم بأفكار يونغ وفرويد محطّ تهكّم المجتمع العلميّ العريض. وبدا أنَّ الجدالات الإحصائية والتطورية التي قامت ضد مفاهيم التزامنية والتسلسلية والمصادفات ذات المغزى قد باتت أقوى من ذي قبل، وأن العناصر الوجودية في المصادفات قد استبعدت كليا. لكن أولئك الذين يؤمنون بمصادفات ذات مغزى لا يساعدون أنفسهم أيضا، إذ تشير دراسات من جامعتي بريستول وغولدسميثز لندن إلى أن أولئك الذين يؤمنون بشدّة بخوارقِ الطبيعة ونظريات المؤامرة، على سبيل المثال، يتسمون عادة بضعف أكبر في عمليات التفكير الإحصائي والاحتماليّ من أولئك الذين لا يؤمنون بها، وتقول الحقيقة إنّ أغلبنا ضعفاء بشدة في قياس احتمالات الأحداث، لذا فعندما نتلقّى مكالمة هاتفية من صديق مر ببالنا للتوّ، يغرينا أن ننسب لهذا الأمر أهميّة لا تتناسب مع انتشاره النسبي.

مثال جيد على افتقارنا للمنطق الإحصائي عندما يقوم المقامر بتفسير دورة الأرقام الحمراء والسوداء في لعبة الروليت على أنَّها ذات دلالة، برغم حقيقة أنه في كل مرة يتوقف فيها الدوران على أحد اللونين، ستكون هناك نسبة 50% بالضبط لأن تتوقف الدورة التالية عند أحد اللونين الأحمر أو الأسود. أو فلنأخذ "معضلة يوم الميلاد" التي تسأل ببساطة: كم عدد الأشخاص الذين تحتاج إليهم في غرفة واحدة لكي تضمن من الناحية الإحصائية أن يتشارك اثنان منهم على الأقل يوم وشهر الميلاد ذاته؟ بالنظر إلى أن السنة غير الكبيسة تتألف من 365 يوما وأن من غير الوارد لمعظم الناس الذين تعرفهم أن يحملوا تاريخ الميلاد ذاته، قد تفترض منطقيا أنك ستحتاج إلى رقم كبير جدا لكي تحقق المطلوب، المئات ربما، وحتى في تلك الحالة ستكون محظوظا إن وجدت شخصين يحملان يوم وشهر الميلاد ذاته. لكن علم الإحصاء يقول إنك ستحتاج إلى 23 شخصا فقط داخل الغرفة لكي تحظى باحتمال يتخطى 50%. بالتالي ستكون لديك فرصة واردة إحصائيا بإيجاد شخصين لهما يوم وشهر الميلاد ذاته. أما إن أردت نسبة 99.9% فسيكون عليك أن تدخل 70 شخصا فحسب.

إننا ننسب معنى خاصّا لما نعتقد بأنها أحداث فرص وقوعها متدنية، لكنَّ احتمالية وقوعها في العادة ليست متدنية كما نعتقد. وحتى إن كانت مستبعدة، فإن معظم الأحداث المستبعدة -مع وجود 7 مليارات إنسان على سطح كوكب الأرض- هي في الحقيقة شائعة نسبيا بفضل ما يسمّى بقانون "الأعداد الكبيرة حقا"، المثال الإحصائي الذي ابتكره فريدريك موستيلر وبيرسي دياكونيس الذي يقول إنَّ حجم العيّنة الضخم سيؤدي في نهاية المطاف لأي نتيجة ممكنة. إذ نجا كثير من الناس من صاعقة البرق، أكثر من مرة حتى، وفاز كثير من الناس باليانصيب، أكثر من مرة حتى. إلى جانب ذلك، فنحن مدرّبون بحكم الثقافة على رؤية المعنى في أحداث هي عديمة المعنى جوهريا: توفي كلٌّ من توماس جيفرسون وجون آدامز بفارق ساعات في الذكرى الخمسين لإعلان استقلال الولايات المتحدة. مارك توين وُلد ومات في أيام كان فيها مذنب هالي يُرى من كوكب الأرض. من الناحية الإحصائية، ليست هناك أشياء إضافية تُستقى من هذه الأحداث، لكننا نتكلَّم عنها برغم ذلك كدليل على دلالة أكبر، روحيّة في العادة. لكن كل مصادفة قابلة للتفسير إحصائيا، حتى الفيلسوف اليوناني بلوتارخ كان على دراية بهذا الأمر، وكتب في "حياة سارتوريوس"، وهو مؤلَّف ضمن سلسلته "حيوات موازية" في القرن الأوّل للميلاد: "لا أعجب كثيرا إن كان الحظّ على المدى الطويل للزمن سيسلك أكثر من طريق، إذ لا بد لمصادفات لا تُحصى أن تحدث بشكل عفوي".

بمعزل عن رياضيات المصادفات، لا يزال هناك اختصاصيّون في علم النفس يرفضون التخلي عن الاتفاق مع نظريات التزامنية والتسلسلية. ويعتقد برنارد بيتمان، وهو طبيب نفسي من فيرجينيا ومؤلف كتاب من بين الأفضل مبيعا "الارتباط بالصدفة: العلم الجديد لاستخدام التزامنية والتصادفيّة في حياتك" عام 2016، أن المصادفات ذات المغزى يمكن أن توجد وتُثبت كذلك. إحدى القصص التي يروقه أن يحكيها عن المصادفة شخصية جدا. كان يبلغ من العمر 31 عاما ويعيش في سان فرانسيسكو. في إحدى الليالي، عند نحو الساعة 11 ليلا، بدأ يختنق بشدّة أثناء وقوفه قبالة المغسلة. لم يكن قد تناول أو شرب شيئا، وبدا له ألا سبب وراء الاختناق، ثم ارتشف بعض الماء، وتحسَّن حاله، ومضى إلى السرير متسائلا عمّا يمكن أن يكون قد أثار نوبة الاختناق تلك. وفي صبيحة اليوم التالي، تلقى مكالمة من أخيه يخبره فيها بأن والدهما توفي في الثانية صباحا في كونيتيكت، الأمر الذي جعل ثلاث ساعات هي فارق التوقيت تعني أنّ والده توفّي في الوقت الذي بدأ فيه اختناق بيتمان. لقد توفي والده مختنقا بدمائه حتى الموت. ووجد بيتمان دلالة مهمّة لكلا الحدثين، لكنّه لم يجد لهما أي تفسير علمي يتجاوز المصادفة العشوائية المحض. لذا قام بتطوير تفسيره الشخصي بالاتكاء، جزئيا، على فكرة التزامنية لدى يونغ.

كتاب
كتاب "الارتباط بالصدفة: العلم الجديد لاستخدام التزامنية والتصادفيّة في حياتك" للطبيب النفسي برنارد بيتمان (مواقع التواصل)

سمّى بيتمان هذه التجربة بـ "التعاطف المتزامن" أو تجربة خوض معاناة شخص آخر، وإن كان بعيدا، وقد حاول منذ ذلك الحين أن يوفّر تأسيسا علميا لأفكار أخرى عند كارل يونغ مثل التصادفية والتسلسلية، ونظرته الشاملة يونغيّة في أصلها، عبر الاستعانة باللا وعي الجماعي، وإضافة عنصر مميز من حركة "العصر الجديد"(1)، يقول بيتمان: "إنني أستخدم مصطلح ’مجال الروح‘ والذي أعني به فحسب الغلاف الذهني الذي يحيط كوكب الأرض، والذي ننغمس به جميعا". وباعتراف الجميع، ليست محاولة إيجاد أساس علمي للاعتقاد بمصادفة ذات مغزى أمرا منتشرا، وتعتبر إيريس بيل، وهي طبيبة نفسية بجامعة أريزونا وكاتبة مساهمة في أحد كتب بيتمان، استثناء نادرا آخر، في حين لا يزال علماء الإحصاء يقاومون الفكرة.

يقول ديفيد هاند، وهو إحصائي بارز وأستاذ شرفي للرياضيات في كلية لندن الإمبراطوريّة: "إنني لَأجد الأمر مدهشا جدا، بالنظر إلى الجدالات الرياضية التي لا تقبل الشك. إن نظرت إلى الأعداد النسبية، لا سيما أعداد علماء الإحصاء والاحتمالات، وهم خبراء في هذا الشأن، فستجد نسبة قليلة آخذة بالتضاؤل ممن يتفقون مع مفاهيم من قبيل التزامنية"، لكن هاند يتساءل إن كانت أفكار بيتمان غير مدهشة إلى ذاك الحد بالنظر إلى الطبيعة الإنسانية، ويضيف: "إنها مغرية جدا، لأن الألغاز دائما ما تكون كذلك". والحقيقة أن بيتمان يأخذ منعطفا ذكيا إذ يقول إنه فقط لأن شيئا ما عشوائيّ الحدوث فإن ذلك لا يعني أيضا أنه يخلو من دلالة. وهو جدال مماثل سيواجهه شخص ملحد في النهاية عندما يحاجج شخصا متدينا يؤمن بأنَّ الله هو مَن يحرّك خيوط الحياة. ففقط لأن بمقدور الملحد استخدام قانون "الأرقام الكبيرة حقا" لكي يُثبت إحصائيا أن كل حدث يقع ضمن نطاق العالم المادي الملموس ممكن الوقوع دون إله، فإنَّ هذا الدليل لا يعني أيضا أن تلك الأحداث العشوائية لا تُخفي دلالة أكبر وراءها.

لا يمكننا قياس المعنى بشكل كمي أو حتى التعرف إليه بشكل واضح ومألوف. وهنا مكمن الصعوبة التي يواجهها بيتمان في محاولته تحويل مصادفة ذات مغزى إلى مفهوم علمي. كشخص متدين، فإن أعظم ورقة رابحة للاعتقاد بمصادفة ذات مغزى هي أنك لا تستطيع أن تبرهن على أن شيئا خالٍ من المعنى بما أن "المعنى" غير قابل للقياس العلمي. لكن أكثر ما ينجح فيه بيتمان -ويبرّره عقلانيا- هو عندما يرينا كيف أن خوض تجربة مصادفة ما يمكن أن يؤدي إلى تحولات نفسية. ويحكي بيتمان قصة مريضة أخبرته بأنها كانت ستسمح لزوجها المسيء بالعودة للعيش معها، لكنها قبل التوجه إلى المطار تلقّت مكالمة هاتفية، كانت المرأة على الطرف الآخر قد هاتفت الرقم الخطأ، لكنَّهما لأسباب غير مفهومة واصلتا الحديث، واتضح أن المرأة الأخرى كان لديها شريك عاطفي مسيء أيضا، بدت هذه المرأة خائفة ومهزوزة، وبعد إقفال المكالمة، قررت المرأة المتزوجة الانفصال عن زوجها في نهاية المطاف. يقول بيتمان إن هذه مصادفة ذات مغزى أدت إلى تغيير نفسيّتها ونظرتها إلى الحياة. ولهذا السبب أيضا فالمصادفاتُ ذات المغزى مهمة وضرورية، وباستثناء أكثر العقلانيين برودا، عادة ما يحمل هذا النوع من الأحداث آثارا عميقة، ما لم يحمل في بعض الأحيان تغييرات جذرية. undefined

لكن للمفارقة، فبإمكاننا الاعتقاد بأنَّ إضفاء طابع علمي على الاعتقاد بمصادفة ذات مغزى مدفوع بالجشع، إذ سيكون هناك دائما أموال تُجنى من تأليف الكتب عنه أو إلقاء خطابات تستغل رغبة الناس برؤية المصادفات العشوائية على أنها ذات دلالة. إننا نريد دليلا على معنى مستتر في الحياة، ونحن مستعدون لدفع المال مقابله. قد يكون بيتمان واحدا من بين قلة تحاول توفير إطار أكاديمي للمصادفات ذات المغزى، لكن هناك حرفيا آلاف الكتب والأفلام عن جمال ودلالة وأهمية المصادفات. المصادفات، كما يكتب ييتا هالبرستام وجوديث ليفينثال في واحد من أفضل الكتب مبيعا "معجزات صغيرة: مصادفات مذهلة من الحياة اليومية" عام 1997، "إن المصادفات شاهدٌ على وجود كونٍ غادق عظيم يحيط بأرواحنا. المصادفات في كل مكان ويمكن أن تحدث في أي وقت كان، وعندما تكون روحك مستعدة سَيحين وقتها". من الواضح أن هذا الكلام مجرد قطعة من الهراء الصالح للمواساة، لكنه ليس ضارا بشكل مباشر أيضا، بخلاف أنه يستغل عزم الناس دفع المال لقاء سماع ما يودون سماعه.

لكن الإيمان بمصادفات ذات مغزى يمكن أن يصبح خطيرا عندما يبدأ بتعمية الحكم الشخصي، ذلك أنه قد يدفعك للتفكير بشكل غير منطقي. ولأضربَ مثلا، يحدث "الإفراط في التوفيق بين الأشياء" عندما تغفل عن السبب الفعليّ الوحيد وتلجأ إلى أسباب غير ذات صلة فعلية، كأن "ترى" فجأة أطباقا طائرة بعد كلام أحد أصدقائك عنها. "المعاني الخفية" إنما تأتي من الأفكار اليونغيّة والفرويديّة حول اللا وعي الجماعي الواحد، الذي يمكن فيه أن يُنظر لـ "زلات" الكلام لا كمغالطات لغوية ولكن على أنها إشارة إلى وجود لا وعيّ أكبر، أو معنى سيكولوجيّ هو في الحقيقة غير موجود. أو كما يحدث في "مغالطة المقامر" المذكورة آنفا، التي تحدث عندما تبدأ بالاعتقاد بوجود أنماط خفية في نتائج لا يحكمها في الحقيقة أكثر من الحظ.

في حين تبدو هذه المسائل -الأطباق الطائرة وزلات فرويد- بسيطة، فأحيانا تكون هناك مسائل على قدر أكبر من الأهميّة. وعلى سبيل المثال، عندما انتشرت حركة "مناهضة التطعيمات" في الولايات المتحدة، توفي الأطفال وتعرضت صحتهم للخطر من قِبل أهالٍ عزوا المعدلات المرتفعة من التوحد في الأطفال إلى ارتفاع أعداد التطعيمات الممنوحة لهم. صحيح أن التوحد يُشخّص عادة في الفترة العمرية التي يبدأ فيها تلقي التطعيمات، لكنّ أتباع هذه الحركة كانوا يخلطون التوافقية بالسببية، إيمانا منهم بمصادفات ذات مغزى. وكانوا يعتقدون أن "شيئا ما" يجعل أطفالا معينين في الفترة العمرية لتلقي التطعيمات يصابون بالمرض. لكن دراسة بعد أخرى أظهرت ألا أساس من الصحة للادّعاء القائل إن التطعيمات تصيب الأطفال بالمرض، دع عنك أن تصيبهم بالتوحّد. بالتالي، على العلماء مساعدة الناس "على اتخاذ قرارات تقوم على الدليل الملموس، لا العلم الزائف نصف المدعوم"، كما يقول هاند، عالم الإحصاء مضيفا: "ثمة واجب عامّ يقع على عاتق العلماء في المساعدة بإماطة النقاب عن الغموض".

الإيمان بمصادفات ذات مغزى يمكن أن يكون من ناحية وجودية سلوكا عقلانيا
الإيمان بمصادفات ذات مغزى يمكن أن يكون من ناحية وجودية سلوكا عقلانيا

وتقول ماجدة عثمان التي تعلّم علم النفس التجريبي بجامعة كوين ماري في لندن: "عندما نختبر المصادفات، فإننا نختبر نمطا من الأحداث، قد نرى بأن احتمالية وقوعه في بعض الأحيان نادرة جدا، بحيث نشعرُ بأن شيئا ما قد تسبب بوقوعه". لكن فقط لأننا لا نستطيع القول لماذا، بالضبط، تقع أحداث معيّنة في أوقات معيّنة فإن ذلك لا يمنحها المعنى، وتقول: "المصادفات هي جزء محتوم من نظامنا الإدراكي، هذا كل ما في الأمر". كثير مما تقوم عليه مسألة المصادفات ذات المغزى إنما يأتي من الطريقة التي نختار فيها أن نملأ فراغ الأحاجي في الحياة. هل حقل المجهول هو مجال للروحانيّة ويكتسب أهمية وجودية بالنسبة إليك، أم أن ذلك العالم مقصور على جانبه المادي؟

لكن بعيدا عن الإغفال الإحصائي، بعيدا عن أي ذرائع اقتصادية، بعيدا عن أي أخطاء اقتصادية يمكن أن يؤدي إليها، فالإيمان بمصادفات ذات مغزى يمكن أن يكون من ناحية وجودية سلوكا عقلانيا. فإن كان والدك يختنق على الضفة الأخرى من البلاد في الوقت ذاته الذي شعرت به أنك تختنق، فإنك قد تعرف من ناحية عقلية عدم وجود أي رابط غامض لا مرئي هنا. لكنك إن تركت عقلك يفكر في هذه الإمكانية، فإنه قد يسمح لك بأن تجد طريقة جديدة ترثي فيها لموت والدك، مما يمنحك إحساسا بالحميمية أو فهما قدريا للأحداث. في زعم بيتمان أن العلم "مرن إلى حدٍّ لا بأس به"، وهو ما يبدو أشبه براية تحذير للباحثين الجادّين في الأمر. لكن خلف تصريح من هذا النوع، وتحفيز ملايين من الأشخاص الذين يقتنون الكتب، أو يشاهدون الأفلام، أو تراودهم الأفكار، عما تعنيه الكثير من الروابط بين الأحداث في حياة المرء، ثمة حاجة ملحّة أحيانا إلى فبركة المعنى.

وقد نفعل ذلك بالعديد من الطرق، وليس أقلّها الأديان، لكن إحدى طرق إيجاد المعنى تكون بالارتباط بالعالمين الماديّ والمعنوي في آنٍ واحد، والقبول بما أسماه يونغ "اللا وعي الجماعيّ"، أي ذلك الحيز غير المرئي الذي يربط حياتنا بعضها ببعض. وذلك معتقد مفنّد علميا بالطبع، ومعيبٌ من بدايته، لكن، كما هو حال العديد من المعتقدات غير العلمية الأخرى، من منظور نفسي، فإنه منطقي نوعا ما. إن ثمة فارقا، في نهاية المطاف، بين الأهمية الإحصائية والأهمية الإنسانية، فالواحدُ منهما لا يلزم الآخر. وفي نهاية المطاف فالخنفساءُ مجرد خنفساء حتى تقرر أنها ليست كذلك.

______________________________________________

هامش:

  • حركة العصر الجديد أو جماعة العهد الجديد هي حركة روحانية شبه دينية غربية نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين. تتناول تعاليم الحركة الرئيسية العادات الميتافيزيقية والروحانية الشرقية والغربية وجمعها مع مؤثرات من المساعدة الذاتية وعناصر من علم النفس، الطب البديل، باراسيكولوجيا، بحوث الوعي الداخلي، الفيزياء الكمية، في سبيل خلق "روحانية بدون حدود أو عقائد" شاملة وتعددية. سمة أخرى من سمات الحركة الأساسية هي تكوين "نظرة عالمية شاملة"، مما يؤكد ترابط العقل والجسد والروح وأن هناك واحدية ووحدة بين أجزاء الكون. فتحاول الحركة بشكل عام وشامل خلق "نظرة عالمية تضم العلم والروحانية"، وفي سبيل ذلك يدعو العصريون الجدد إلى تقبل بعض من العلوم والعلوم الزائفة.

___________________________________

ترجمة: فرح عصام

هذا التقرير مترجم عن AEON ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة