شعار قسم ميدان

"الجمهور مش عايز كده".. قصة تحول الصحافة من المهنة إلى السلعة

ميدان - "الجمهور مش عايز كده".. قصة تحول الصحافة من المهنة إلى السلعة

أدت الطفرة في منصات التواصل الاجتماعي على الإنترنت إلى حدوث تقاطع بين منهجيات الصحافة الرقمية وأدوات التسويق الإلكتروني. إذ أن الصحافة كانت عملية اتصال في اتجاه واحد فاتجاهين ثم بلغت مرحلة الاتجاهات المتشعبة. أما اليوم، فكبر الاهتمام بأن يكون المحتوى أو المنتج الصحفي قابلا للمشاركة وجاذبا للتفاعل. كما صار التركيز على أن يكون هذا المحتوى مصمما للاستهداف الفردي لا الجماهيري، أي أن يستهدف الجمهور بأفراده حسب اهتماماتهم وأهوائهم ونشاطاتهم، بدلا من الاستهداف الجماعي العام الذي ينظر إلى الجمهور باعتباره كتلة واحدة ولا يميز بين الاختلافات الاجتماعية والثقافية والعرقية والدينية وغير ذلك. نناقش في هذه المقالة البحثية، التي أشرف عليها الدكتور نواف التميمي، إشكالية جمهور وسائل التواصل الرقمي بين منهجية وقيم الصحافة وأدوات التسويق الإلكتروني.

قصة صحفية أم سلعة إلكترونية؟

تكمن أهمية هذا النقاش كون هذا التداخل بين الصحافة الرقمية والتسويق الإلكتروني أصبح في بعض الأحيان على حساب القيم الصحفية وأخلاقيات المهنية من أجل الحصول على أكبر عدد من المشاهدات والتفاعلات والمشاركات. إذ صار المقياس الوحيد لنجاح القصة الصحفية هذه الأرقام بمعزل عن محتواها، مثلها مثل أي سلعة يجري تسويقها.

   undefined

ولما كانت هذه الأدوات الرقمية الحديثة لا يمكن الاستغناء عنها نظرا لما وفرته من قدرة على الوصول لأكبر عدد من الجمهور حول العالم بأبسط التقنيات وأقل التكلفة، أصبحنا في مسار يهدف إلى التوفيق بين هذه التكنولوجيا والحفاظ على قيم الصحافة وأهدافها، فكيف يتحقق هذا التوافق؟ وكيف يمكن صناعة قصة صحفية رقمية بأدوات تكنولوجية وتنشر على منصات تفاعلية وتحظى بقيم مثل الحقيقة والدقة والموضوعية والنزاهة والمسؤولية الاجتماعية، وتتضمن أهداف الصحافة مثل الإخبار والتثقيف والترفيه والتعليم والتوعية؟

“الجمهور مش عايز كده”

نفترض في هذه المقالة البحثية أن الجمهور ليس متجانسا بل هو مختلف ومتباين إذ تميز بينه عدة عوائل ثقافية واجتماعية وعرقية ودينية واقتصادية وغير ذلك. ونفترض أيضا أن الجمهور ليس سلبيا بل هو إيجابي قادر على التفاعل مع الرسالة الإعلامية قبولا أو رفضا وكذلك تفسيرها وتأويلها بأشكال تتفق مع مقصد ناشر الرسالة أو تختلف. وبناء على ذلك، فالإطار النظري هنا يختلف مع نظرية الرصاصة السحرية لهارولد لاسويل ونظرية الغرس الثقافي لجورج جربنر اللتين سلمتا بسلبية الجمهور وتجانسه والقدرة على استهدافه برسالة إعلامية واحدة.

وبذلك فإننا ننطلق من دراسات الاستقبال بأن الجمهور نشط، وإسهامات سيتورات هول في هذا المجال صاحب نموذج التشفير وفك التشفير، الذي يرى أن أي محتوى إعلامي يمكن اعتباره نصاً يتكون من رموز ضمن تركيب بنيوي ومتعلقة ببعضها البعض بطريقة محددة. وبالتالي، يتطلب فهم النص تفسير الرموز وبنيتها، خصوصا أن هناك نصوص يجري تفسيرها بطرق مختلفة لأنها متعددة المعاني (1).

المحتوى الإعلامي القوي لا يمكن أن يؤثر عادة بالفرد، إذا كان لا يستخدم هذا المحتوى في السياق الاجتماعي والنفسي الذي يعيشه
المحتوى الإعلامي القوي لا يمكن أن يؤثر عادة بالفرد، إذا كان لا يستخدم هذا المحتوى في السياق الاجتماعي والنفسي الذي يعيشه

ويعتقد ستيورات هول أنه على الرغم من أن معظم النصوص هي متعددة المعاني Polysemic، فإن المنتج يسعى إلى قراءة مفضلة أو مهيمنة عندما ينتج الرسالة. إضافة إلى ذلك، يمكن لأعضاء الجمهور أن يقدموا تفسيرات بديلة، إذ أنهم قد لا يتفقون أو يفسرون بطريقة خاطئة بعض أبعاد الرسالة ويأتون بمعاني بديلة أو تفاوضية تختلف عن القراء المفضلة أو المهيمنة للمنتج.  وأحياناً، قد يطور الجمهور تفسيرات في الاتجاه المعاكس حيث يفكون تشفير الرسالة بطريقة معاكسة (1).

وقد ادعى باحثون، مثل ديفيد غاونتلت إضافة إلى ووبر، أن دراسات عديدة تظهر جمهوراً نشطاً بشكل أكبر، وهو جمهور متنوع من حيث اختيارات المشاهدة وكذلك من حيث الاستجابة لما يشاهد. وقد انتقدا مقاربة جورج جربنر النخبوية للجماهير التي اعتبرتهم سلبيين وغير قادرين على مقاومة الرسالة الإعلامية وهو ما يتماثل مع نظرية الرصاصة السحرية (3).

بالإضافة إلى ذلك، كما ينقل ماك كويل عن كاتز، فإن المحتوى الإعلامي القوي لا يمكن أن يؤثر عادة بالفرد، إذا كان لا يستخدم هذا المحتوى في السياق الاجتماعي والنفسي الذي يعيشه. وبالتالي، فإن قيم المشاهدين واهتماماتهم وعلاقاتهم وأدوارهم الاجتماعية لها قوة مسبقة والناس يختارون بطريقة انتقائية ما يشاهدون ويسمعون حسب اهتماماتهم (3). إذن، فإننا نستند إلى أبحاث ودراسات سابقة رصدت عوامل مختلفة تظهر إقدام الجمهور على التأويل المتشعب بما في ذلك للشخصيات والأحداث في المسلسلات التلفزيونية. وأولها العوامل النفسية حيث يعجب الجمهور بشخصيات ويرفض أخرى بناء على حالة التشابه معها. ولذلك، فإن التماثل والاهتمام والتقييم قد ينتج تشعب في التفسيرات لقصة متعددة الشخصيات (2).

من جانب آخر، هناك العوامل الاجتماعية أو الديموغرافية حيث يفسر الجمهور بشكل مختلف المنتج الإعلامي بحسب الجندر والعمر. ونظراً لتنوع العلاقات التي يختبرها الجمهور مع المحتوى، فإن التأثير يكون بواسطة التماثل، والقدوة أو النموذج، والتفاعل الاجتماعي الموازي، إن ذلك سيعتمد على تفسير المحتوى نفسه (2).

تسليع الصحافة يجردها من قيمتها

undefined

تستند أدوات التسويق الرقمي Digital Marketing إلى ما يعرف باستراتيجيات استهداف الجمهور أوTarget Audience. إذ يجري وضع استراتيجية لتسويق سلعة معينة بعد دراسة احتياجات الجمهور بعناية لجهة خصائصها وميزاتها وما يميزها عن غيرها مما هو متوفر في السوق. ثم يجري تحديد الزبائن المستهدفين عبر عدة عوامل منها: الموقع الجغرافي، الجنس، العمر، الاهتمامات وغير ذلك. كما تحدد الاستراتيجية المنصات التي سيجري بناء عليها استهداف هذا الجمهور والتوقيت المناسب لنشر المحتوى التسويقي، فمثلا انتشار منصتي تويتر وانستغرام في الخليج يجعلهما المكان الأفضل لاستهداف هذه المنطقة، أما موقع فيسبوك فهو الأمثل في منطقة المغرب الكبير من ليبيا إلى موريتانيا.

وبناء عليه، توضع ميزانية محددة للتسويق على هذه المنصات تشمل المنشورات المروجة أو Sponsored Posts وهذا يشمل منشورات فيسبوك وتغريدات تويتر وقصص انستغرام وفيديوات يوتيوب وغير ذلك، خصوصا تكلفة الاستعانة بمشاهير مواقع التواصل أو ما يعرف بالـ”مؤثرين” الذين تقدر تكلفة الاستعانة بهم في الإعلان بآلاف الدولارات.

بعد ذلك، يتم تحضير الرسالة المناسبة لكل منصة بما يتوافق مع خصائص السلعة واحتياجات الجمهور المستهدف بطريقة إبداعية خلاقة. كما تحدد الاستراتيجية أشكال الإنتاج أو Format للمحتوى التسويقي، مثل الصور أو الصور المتحركة أو البطاقات التفاعلية أو الفيديو القصير بأنواعه المختلفة، أو الاستفتاءات التفاعلية وغير ذلك. تحدد ساعة الصفر وتنطلق الحملة بشكل متزامن على المنصات المختلفة حيث تتم مراقبة وتقييم ومتابعة النتائج في ما يعرف باسم Monitoring Evaluation للتأكد من تحقيق الحملة أهدافها ووصول المحتوى التسويقي للجمهور المستهدف. وفي مرحلة لاحقة بعد تحليل البيانات لجهة مدى وصول الرسالة Reach ومرات ظهورها Impression، تجري المقارنة مع حركة المبيعات.

لا بد للصحفيين الرقميين استلهام بعض مهارات صناع المحتوى مثل “اليوتيوبرز” ومدوني الفيديو Vloggers  في التفاعل مع جمهورهم لإيصال محتوى رسائلهم الصحفية إلى الناس
لا بد للصحفيين الرقميين استلهام بعض مهارات صناع المحتوى مثل “اليوتيوبرز” ومدوني الفيديو Vloggers  في التفاعل مع جمهورهم لإيصال محتوى رسائلهم الصحفية إلى الناس

إذن لنستبدل كلمة “سلعة” فيما سبق بـ”قصة صحفية” رقمية أيا كان شكلها ومحتواها، مقالة أو تحقيق أو خبر أو مقابلة، مكتوبة أم مسموعة، أم مرئية ومسموعة. ولننتقل بعد ذلك إلى النقطة الأخيرة في استراتيجية التسويق الرقمي وهي تقييم النتائج حيث سيتم التدقيق في بيانات التفاعل مع القصة الصحفية لجهة المشاركات Shares والتعليقات Comments والتفاعلات Reactions مثل الإعجابات والتفضيلات. وهذا ينعكس على مدى وصول الرسالة ومرات ظهورها وبالتالي انتشارها لتحقيق مشاهدات مرتفعة.

وهنا، هل يمكن اعتماد هذه المعايير التقييمية للحكم على نجاح قصة صحفية تتضمن محتوى يتعلق بحقوق الإنسان مثلا، أم تكشف عن انتهاكات أو تجاوزات أو فساد أو غير ذلك. هل يمكن المقارنة بين قصة على منصات التواصل عن مباراة الكلاسيكو بين ريال مدريد وبرشلونة في مقارنة مع قصة عن انتهاكات السلطات الصينية للأويغور في إقليم شينغيانغ أو تركستان الشرقية في شمال غرب الصين. هل يمكن تسليع المحتوى الصحفي ليكون الهدف تحقيق أرقام عن تفاعل وانتشار ومشاركات وتعليقات بغض النظر عن قيمة المحتوى والرسالة الصحفية؟

جمهور المنصات حقيقي وليس افتراضي

تقوم استراتيجيات التسويق الرقمي على خلق شخصيات وهمية افتراضية تسمى Persona لتكون شخصية تعبر عن جمهور مستهدف من عمر معين في منطقة جغرافية ما وفق نمط عيش محدد. أي مثلا، يجري خلق شخصية “عادل” وهو شاب تونسي في الثلاثينيات من عمره يستيقظ صباحا ليستقل المترو في مدينة دبي ليلتحق في عمله في أحد المصارف في “دبي مول”. ولا يستطيع عادل تحضير الإفطار في منزله أو القهوة فيتناولهما أثناء المواصلات، وله أخت مطلقة، ويهوى لعب كرة القدم، ومدخوله متوسط، وتوجهاته السياسية ليبرالية وغير ذلك.

هنا تستطيع شركات التسويق تعميم شخصية عادل على العمالة العربية في دول الخليج. فهل كل من يعمل في الخليج من الجنسيات العربية يتشارك مع عادل هذه الخصائص. هل يمكن اختصار كل منطقة الشام في شخصية واحدة، هل يمكن تعميم خصائص شابة روسية في موسكو على أخرى في فولغوغراد؟

  undefined

إذا كان هذا يصح في عالم التسويق الرقمي، فهو لا يصح في دراسات الجمهور والاستقبال في الإعلام كما أسلفنا في الإطار النظري. ومن هنا يبرز الاختلاف والتباين بين ترويج محتوى الصحافة الرقمية والتسويق الرقمي للسلع. وكذلك يبرز التحدي الكبير في صناعة محتوى صحفي رقمي قابل للمشاركة والتفاعل والانتشار ويحمل القيم الصحفية والأخلاقية بعيدا عن الصحافة الفضائحية الصفراء أو الأخبار المضللة والبروباغندا.

التفكير خارج كل الصناديق

يواجه الصحفيون اليوم تحديا كبيرا في صناعة قصصهم الصحفية والمحتوى الإعلامي الرقمي. فالفضاء الإلكتروني يغص بأشكال ومحتويات مختلفة من الرسائل وبمنافسة شديدة بين المنصات المتعددة. ومن جهة ثانية، يبرز تحدي آخر يتعلق بسرعة التحديثات البرمجية لخصائص التطبيقات وظهور تطبيقات جديدة مما يجعل الصحفيين الرقميين في عمل مستمر لمواكبة هذه التغييرات بما يتواءم مع المحتوى شكلا ومضمونا.

يحتاج الإعلاميون الرقميون اليوم إلى صناعة محتوى تفاعلي أكثر مما سبق. فلم يعد الرد على التعليقات مثلا يكفي، فالجمهور الرقمي بحاجة أكثر ليقترب شخصيا من صانع المحتوى Content Creator بدلا من التفاعل مع منصة إعلامية. وهنا أرى أنه لا بد للصحفيين الرقميين استلهام بعض مهارات صناع المحتوى مثل “اليوتيوبرز” ومدوني الفيديو Vloggers  في التفاعل مع جمهورهم لإيصال محتوى رسائلهم الصحفية إلى الناس. وعليه، لم تعد الرسالة الإعلامية بشكلها التقليدي تنفع مثل الخبر والمقابلة والتحقيق، إذ يجب تحويلها إلى قصة تروى بشكل تفاعلي وكأنها تحكى لكل شخص من الجمهور بمفرده.

   undefined

لذلك نجد مدونين وصناع محتوى على الإنترنت من غير الصحفيين أكثر انتشارا وقدرة على الوصول إلى الجمهور من مؤسسات إعلامية. وهنا لا أقصد “الفاشنيستا” أو ما يعرفون “بالانفلوسرز” خصوصا السطحيين منهم، بل أقصد مدونين متخصصين في مجالات معينة مثل التكنولوجيا والسفر والتصوير والطعام والرياضة واللياقة وغير ذلك. وهناك مدونون ينشطون في مجال التغطيات الإخبارية المحلية ضمن مجتمعات معينة مثل مناطق الخليج، وهم منتشرون على المستوى المحلي أكثر من الصحف والمواقع الإخبارية.

التجربة والخطأ والتعلم

وأخيرا، إن تحقيق هذا التحدي ومواجهته ليس بالأمر اليسير وليس بالمستحيل أيضا، بل يحتاج إلى التفكير خارج كل الصناديق وعدم الخشية من التجارب والوقوع في الخطأ ثم تصحيح ذلك. إذ نحن اليوم في مرحلة تكثر فيها التقنيات وأدوات ومنصات النشر وبالتالي ليس هناك من دليل جاهز للاستخدام.

المصدر : الجزيرة