شعار قسم ميدان

ليس البلاستيك هو ما يلوث البحر وكيس القماش لن ينقذ الكوكب.. المشكلة فيك أنت

ميدان - البلاستيك والبحر القمامة

هل تؤمن بإمكانية حدوث المعجزات في هذا الزمن؟ إذا كان الجواب نعم، يبدو أنك لست لوحدك. لكن دعني أشرح ما أعنيه: يتخيل الكثير من الناس أننا قادرون على الاستمرار في العيش والاستهلاك دون حدود، طالما أننا نقوم باستبدال مادة أقل ضررا بالبيئة في الظاهر بأخرى مضرة. في الشهر الماضي، مثلا، تمت إعادة تغريد عريضة تطالب مقاهي ستاربكس وكوستا بإبدال فناجين القهوة المصنوعة من البلاستيك (اللدائن) بأخرى مصنوعة من نشا الذرة ٦٠ ألف مرة، قبل أن يتم حذفها.

  

المشكلة هي أن أولئك الذين أيّدوا هذه المطالب لم يكلفوا نفسهم عناء الإجابة عن سؤال من أين سيأتي نشا الذرة هذا، وكم مساحة الأرض التي ستكون لازمة لزراعة الذرة المطلوبة، وكم المساحة لإنتاج هذا المحصول التي سوف يتم استبدالها بالمساحات المخصصة لإنتاج الطعام الأساسي نتيجة لذلك. كما أنهم تجاهلوا الضرر الذي ستلحقه زراعة هذا المحصول بالبيئة، فزراعة الذرة تشتهر بتسببها في تآكل واسع في التربة، وغالبا ما تتطلب جرعات كبيرة من المبيدات الحشرية والأسمدة المهلكة.

  

إن المشكلة إذن ليست في البلاستيك فحسب. بل في الثقافة الجماعية السائدة التي تستسهل استعمال الأوعية التي تستخدم لمرة واحد ثم يتم رميها. أو بعبارة أخرى، فإن المشكلة تكمن في عيش نمط حياة يتطلّب مساحة أربعة كواكب كاملة لاستدامته ولكن على مساحة كوكب واحد. وبغض النظر عما نستهلكه، فإن الحجم الهائل للاستهلاك السائد اليوم يفوق بكثير قدرة الأنظمة الحية في الأرض على احتمال آثاره.

     undefined

    

هذا لا يعني بأن نهمنا للبلاستيك لا يُمثّل آفة بيئية كبرى، وأن الحملات التي تسعى للحد من استخدامه ليست لديها دوافع نبيلة وأنها ليست فعالة أحيانا. لكن المهم هنا هو أننا لا نستطيع أن نعالج أزمتنا البيئية من خلال إبدال مادة مفرطة الاستخدام مكان أخرى تماثلها ضررا. عندما قمت بالتشكيك في ذلك المطلب، سألني بعضهم: "ما الذي يجب علينا استخدامه بدلا من ذلك إذن؟"، لكن السؤال الصحيح هو: "ما نمط الحياة الذي يجب أن نعيشه لتفادي المشكلة؟"، لكنّ هذا النوع من التفكير المنهجي للأسف نادر ما لم يكن غير موجود في الأساس.

  

يعود جزء من المشكلة إلى مصدر تلك الحملات ضد البلاستيك التي بدأت مع سلسلة "الكوكب الأزرق" الوثائقية الثانية حول عالم المحيطات التي تعود لعام ٢٠٠١، من تقديم وإعداد الشخصية البريطانية الشهيرة ديفيد أتينبارا. احتوت الحلقات الست الأولى على حجج قوية ومتماسكة، لكن الحلقة السابعة، التي سعت إلى شرح التهديدات التي تواجه المخلوقات البحرية الرائعة التي كشفت عنها السلسلة، كانت مربكة وغير متسقة. قيل لنا إنه يمكننا "فعل شيء ما" لإيقاف التدمير الحاصل في المحيطات، ولكن لم يتم إخبارنا ما هذا الشيء تحديدا. لم يكن هناك أي تفسير للأسباب التي أدّت إلى الإضرار بالحياة في المحيطات في المقام الأول، وما الجهات المسؤولة عن ذلك التلوث والدمار وكيف يمكن الضغط عليها.

  

في خضم ذلك الارتباك قال أحد المشاركين في البرنامج: "إنه بالنسبة إلينا يتحمل كل منا جزءا من المسؤولية بسبب الخيارات الشخصية التي نقوم بها في حياتنا اليومية. هذا كل ما يمكن أن يتوقع منا القيام به". تُمثّل هذه الكلمات بشكل كبير الاعتقاد الخاطئ بأن الانتقال إلى شكل أفضل من الاستهلاك سوف ينقذ الكوكب. لكن المشاكل الحقيقية التي نواجهها هي مشاكل بنيوية تتمثّل في نظام سياسي تم اختطافه من قِبل المصالح التجارية ونموذج اقتصادي يسعى إلى تحقيق نمو لا نهاية له. في حين أن من المؤكد أنه يتعين علينا كأفراد أن نحاول التقليل من تأثيراتنا على البيئة، لكن لا يمكننا مواجهة هذه القوى بمجرد "تحمل المسؤولية" عما نستهلكه على صعيد شخصي.

     

فيما يتعلق بالأكياس والعبوات البلاستيكية التي تفاقم من هذه الكارثة، فإن الغالبية العظمى منها تأتي من الدول الأكثر فقرا
فيما يتعلق بالأكياس والعبوات البلاستيكية التي تفاقم من هذه الكارثة، فإن الغالبية العظمى منها تأتي من الدول الأكثر فقرا
  

للأسف، فإن وسائل إعلامية مثل البي.بي.سي والشخصيات من أمثال ديفيد أتينبارا على وجه الخصوص يتجنبون هذه القضايا. أنا معجب بـ أتينبارا لأسباب عديدة، لكنني لست معجبا بمقاربته لقضايا البيئة. لسنوات عديدة، ظل أتينبارا شبه ساكت عن هذه القضايا. ثم عندما قام بالتحدث عنها في النهاية كان يتجنب باستمرار تحدي السلطة والقوى النافذة، فقام بالتحدث بعبارات غامضة أو قام بالتركيز على المشاكل الهامشية التي لم تكن تلك المصالح مسؤولة عنها. أعتقد أن هذا الاتجاه لديه قد يفسر تجنّب برنامج "الكوكب الأزرق" التصدّي للقضايا الواضحة الضرر ولكن التي تتناول قوى نافذة.

  

إن أولى هذه القضايا قد تكون صناعة صيد الأسماك، التي تقوم بتحويل المخلوقات المدهشة التي صوّرتها السلسلة الوثائقية تلك إلى طعام. تتسبّب هذه الصناعة اليوم وفي جميع المحيطات، مدفوعة بشهيتنا ومحمية من قِبل الحكومات، في انهيار بيئي شامل. ومع ذلك، فإن المصيد الوحيد الذي قرر البرنامج إبرازه كان واحدا من بين ١% فقط من المصايد في العالم التي هي في حالة تعافٍ (المترجم: أي حيث تعود أعداد الأسماك فيها إلى التوازن الطبيعي). كان من الرائع أن نرى كيف تسعى قوارب الصيد النرويجية إلى تجنب قتل سمكات الأوركا، لكن هذه المقاربة لم ترنا حقيقة أن هذا استثناء نادر للقاعدة.

  

حتى البلاستيك الذي يلوث البحار اليوم فهو في جزء كبير منه يأتي من صناعة صيد الأسماك. فقد تبيّن مثلا أن ٤٦٪ من دوامة نفايات شمال المحيط الهادئ، التي أصبحت ترمز إلى هوس مجتمعنا باستهلاك ورمي البلاستيك، تتكون من شبكات صيد تم التخلص منها بعد استعمالها، فيما يتكوّن معظم الباقي من أنواع أخرى من مخلّفات الصيد. إن مخلّفات صناعة صيد الأسماك هي أكثر خطورة على الحياة البحرية من كافة الأشكال الأخرى من النفايات. أما فيما يتعلق بالأكياس والعبوات البلاستيكية التي تفاقم من هذه الكارثة، فإن الغالبية العظمى منها تأتي من الدول الأكثر فقرا، حيث لا توجد أنظمة مناسبة للتعامل معها وإعادة تدويرها. في المحصّلة، فإنه نظرا لعدم شرح هذه النقاط، فإننا اليوم نتطلع إلى الأماكن الخاطئة للعثور على حلول.

   

undefined

   

تؤدي هذه المقاربة المضللة إلى ظهور المئات من الأفكار الخاطئة والمضرة. مثلما حدث عندما قامت إحدى الناشطات البيئيات البارزات مؤخرا بنشر صورة لجمبري اشترته من أحد المحلات، متفاخرة بأنها كانت قد أقنعت المحل بوضعه في علبة صديقة للبيئة جلبتها معها، بدلا من كيس بلاستيكي، وبإنجازها في حماية البحار! لكن شراء القريدس والجمبري والروبيان بحد ذاته يسبب ضررا أكبر للحياة البحرية أكثر من أي كيس بلاستيك يتم لفه فيه. فصيد هذه المخلوقات يتسبب بأعلى معدلات ما يسمى بالصيد العرضي مقارنة بالأسماك والمخلوقات البحرية الأخرى، حيث غالبا ما يتم استخراج أعداد كبيرة من السلاحف وغيرها من الأنواع المهددة عرضيا وإهلاكها في هذه العملية. أما استزراع الجمبري فهو بالقدر نفسه من السوء، إذ إنه يقضي على مساحات شاسعة من غابات المنغروف (نباتات تعيش في المياه المالحة) التي تعدّ مواطن مهمة لآلاف الأنواع من المخلوقات البحرية.

  

ليس هذا خطأنا نحن، فقد يتم تجهيلنا بشكل كبير فيما يخص هذه القضايا. كمستهلكين، نحن في حيرة من أمرنا، ويتم خداعنا وتعجيزنا عن فعل أي شيء تقريبا. لهذا السبب، تفعل الشركات التي تتربح من الإضرار بالبيئة المستحيل لإقناعنا بأن المسؤولية تقع علينا. هكذا فإن مقاربة بي بي سي للقضايا البيئية متحيزة إلى حد كبير، حيث تنحاز إلى نظام يسعى إلى نقل المسؤولية عن حماية البيئة من القوى البنيوية التي تضرّ بها إلى المتسوقين الأفراد. لكن لن يمكننا تغيير أي شيء إلا إذا قمنا بدورنا كمواطنين، لا كمستهلكين، في الانخراط في العمل السياسي لإحداث التغيير المنشود.

  

إن الجواب عن سؤال "كيف يجب أن نعيش؟" هو "أن نعيش حياة أبسط". لكن اليوم فإن دعاة الحياة البسيطة يتم تهميشهم وإهانتهم والتقليل من شأن ما يفعلون. إن أيديولوجية الاستهلاك منتشرة إلى درجة أنها أصبحت غير مرئية. لكن العيش بطريقة يمكن لكوكبنا أن يديمها لا يتمثّل فقط في السعي إلى الحد من استهلاكنا الشخصي، ولكن أيضا في التعبئة العامة ضد من يروج للاستهلاك غير المحدود الذي يخلّف كمية غير محدودة من الهدر والنفايات. وهذا يعني محاربة قوة الشركات وتغيير اللغة السياسية وتحدي النظام القائم على النمو الوحشي على حساب العالم، والذي نعرفه باسم الرأسمالية.

  

    

وكما أوضحت ورقة "Hothouse Earth" الشهيرة التي نُشرت العام الماضي، والتي حذّرت من خطر دخول الكوكب إلى حالة مناخية جديدة لا رجعة فيها، فإن "التغييرات المتدرّجة التي تمضي خطوة خطوة… ليست كافية لتحقيق استقرار في ميزان كوكب الأرض، بل من المرجح أن تكون هناك حاجة إلى تحولات واسعة النطاق وسريعة وجوهرية للحد من خطر عبور هذه العتبة". إذن، فأكواب القهوة التي يمكن التخلص منها والمصنوعة من مواد جديدة غير البلاستيك ليست مجرد "لا-حل"، بل إنها تقوم بإدامة المشكلة. وباختصار، فإن الدفاع عن الكوكب يتطلّب تغيير العالم بأسره.

————————————————————–

ترجمة (كريم طرابلسي)

هذا التقرير مترجم عن: GEORGE MONBIOT ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة