شعار قسم ميدان

"الغباء الجغرافي".. لماذا نتوه في الطرقات بينما يجد آخرون طريقهم بسهولة؟

ميدان طريق

في يوم خريفي في مدينة نيويورك، رأيت فراشة ملكية بلونيها البرتقالي والأسود تنطلق في رحلة 4000 كيلومتر إلى شجرة الشوح الصنوبري رابضة على سفح الجبل في المكسيك، حيث ستقضي الشتاء. في خريف مدينة نيويورك، تخرج من المقهى، تنطلق نحو فندقك الواقع على بُعد بضعة بنايات، تأخذ منعطفا خاطئا وتضيع في هذه المدينة الكبيرة.

 

ربما لا يكون من العدل مقارنة مهارات الملاحة البشرية (تحديد الموقع والإحساس بالاتجاه) بتلك التي تمتلكها فراشة الملك الأسطورية. وبغض النظر عن أي زاوية تنظر لنظام الملاحة البشري، فإن إحساسنا بالاتجاه لا يجاري أنظمة الملاحة في المخلوقات المتميزة الأخرى. على الرغم من قدراتنا الإدراكية المذهلة، فإننا يمكن أن نكون أغبياء عندما يتعلق الأمر بإيجاد طريقنا، وبعضنا بارع في التيه. ولطالما كان التساؤل حول سبب كوننا سيئين للغاية في الملاحة لغزا، ولكننا نمتلك بعض الإجابات الآن.

 

بداية، توجد آليات نظام تحديد المواقع في الدماغ بشكل طبيعي، وإن كنا لا نزال نواصل اكتشاف السبب في امتلاك بعض الأشخاص إحساسا أفضل بالاتجاه من الآخرين. تتناول آخر النتائج التي توصلت إليها الدراسات الصورة النمطية بأن الرجال أفضل في تحديد المواقع من النساء. وتُظهر الدراسات أيضا كيف يمكننا جميعا أن نصبح أفضل في الملاحة. على الرغم من أن قدراتنا الملاحية لن تصل أبدا إلى مستوى الفراشة الملكية، فإن هناك طرقا يمكننا من خلالها مساعدة أنفسنا على العودة إلى الفندق.

أولا.. إحساسك بالاتجاه ليس إحساسا فعليا؛ أي قدرتك على الوصول إلى وجهتك بسرعة وكفاءة قدر الإمكان دون أن تضيع. للقيام بذلك، فأنت تحتاج إلى معرفة مكان وجودك بالنسبة إلى المعالم التي من حولك، كما ينبغي أن تكون قادرا على تحديث موقعك إذا قمت بالانعطاف عند أي زاوية أو قررت أخذ طريق مختصرة على سبيل المثال.

 

بحكم التجربة بعض الناس أفضل في فعل هذه الأمور من غيرهم، وقد أثبت العلم هذا الأمر، ولعل الأبحاث الأكثر كشفا في هذا الصدد هي تلك التي أُجريت بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، ففي دراسة كلاسيكية نُشرت عام 2005، قاد كل من تورو إيشيكاوا ودان مونتيلو من جامعة كاليفورنيا الطلاب الجامعيين فُرادى على مدار عدد من مسارات أحد الأحياء التي لم يألفوها من قبل والذي يُعرف بتلاله ومنعرجاته. ثم عاينوا الفهم المكاني للمنطقة لدى هؤلاء الطلاب. على سبيل المثال، عند الوقوف قرب أحد المعالم، كان يتعين على الطلاب توصيف موقع مَعلم آخر لا يقع ضمن مجالهم المرئي، أو رسم خريطة للحي.

 

كانت هناك اختلافات ملحوظة في أداء الأربعة والعشرين شخصا الذين شاركوا في التجربة. تحسن بعضهم تدريجيا خلال عشر جلسات أسبوعية، ولكن معظمهم إما أنه أدى جيدا من الجلسة الأولى، وإما أنه ببساطة لم يتمكن من ذلك أبدا. وكشفت دراسات أخرى عن أن لدينا مجالا معقولا لقدرتنا على الوصول إلى المنزل. وقد أظهر ذلك "مقياس سانتا باربرا للإحساس بالاتجاه"، الذي طُوِّر في مختبر التفكير المرئي [1] في جامعة كاليفورنيا على يد ماري هيغارتي وزملائها.  يطلب هذا المقياس من الناس الإشارة إلى مدى موافقتهم أو عدم موافقتهم على عبارات مثل "أنا جيد جدا في إعطاء التوجيهات"، "لدي ذاكرة سيئة حول الأماكن التي أترك فيها أشيائي"، و"أضل طريقي في مدينة جديدة بسهولة".

يمكن للملاحين المتفوقين بين المخلوقات، مثل الطيور المهاجرة، أن يستشعروا المجال المغناطيسي للأرض
يمكن للملاحين المتفوقين بين المخلوقات، مثل الطيور المهاجرة، أن يستشعروا المجال المغناطيسي للأرض (مواقع التواصل)

تتطابق درجات الأفراد على هذا المقياس بشكل كبير مع أدائهم الفعلي في اختبارات الملاحة. ومع ذلك، فإن أداءهم في هذه المهام لا يتطابق مع درجاتهم في اختبارات الذكاء، تؤكد هيغارتي إلى أن درجاتهم في بعض الأحيان لا تتطابق على هذا المقياس حتى مع أنواع أخرى من قدرات التفكير المرئي، مثل مهام التدوير العقلي [2].

 

يمكن للملاحين المتفوقين بين المخلوقات، مثل الطيور المهاجرة، أن يستشعروا المجال المغناطيسي للأرض. إذا كان إحساسنا بالاتجاه غير مرتبط بالذكاء العام، فما الذي يفسر الهوة بين الأفراد؟ تكمن إحدى الطرق للإجابة عن ذلك في النظر في نهجي الملاحة الرئيسييْن لدينا، أيّ النهجين اللذين نستخدمهما في التنقل.

 

النهج الأول: التنقل القائم على المسار

يستلزم التنقل القائم على المسار تذَكّر المعالم في رحلة معينة: استدر يسارا عند الكنيسة، ثم يمينا عند الحديقة، وهكذا، ويعمل هذا النهج بشكل جيد في مدن مألوفة أو في رحلات منتظمة، لكنه غير مرن؛ ماذا تفعل إذا أُرغمت على السير في طريق آخر بسبب أعمال الطرق؟

 

النهج الثاني: رسم الخرائط الذهنية

ينطوي نهج رسم الخرائط الذهنية على خلق خريطة ذهنية للبيئة الخاصة بك إما بوعي منك أو بغير وعي، والتي تشبه خريطة التطبيقات على هاتفك المحمول. يعتبر هذا النهج في بعض الأحيان متفوقا لأنه أكثر مرونة ويسمح لك بسَلك طرق مختصرة عند الضرورة. ومع ذلك، فإنه أيضا أكثر تطلّبا وإرهاقا للإدراك.

وجد الباحثون أن النساء أكثر احتمالية لمتابعة الطرق المتعلَّمة والتجول فيها. بينما أظهر الرجال تفضيلا أكبر لمحاولة سلك طرق مختصرة
وجد الباحثون أن النساء أكثر احتمالية لمتابعة الطرق المتعلَّمة والتجول فيها. بينما أظهر الرجال تفضيلا أكبر لمحاولة سلك طرق مختصرة (مواقع التواصل)

معظمنا يستخدم كلا الأسلوبين، لكن السر يكمن في تحقيق التوازن الصحيح بينهما، ترى هيغارتي أن الملاحين الجيدين يختارون غالبا أفضل إستراتيجية للمهمة تلقائيا، وهنا يمكننا مناقشة السؤال المبطَّن حول ما إذا كان الرجال أفضل من النساء في الاتجاهات؟

 

كانت هناك العديد من الدراسات المستندة إلى استخدام مجموعة متنوعة من اختبارات الملاحة لإثبات ذلك. في بعض الأحيان يؤدي الرجال والنساء جيدا على حد سواء. ومع ذلك، في الاختبارات التي يتفوق فيها الرجال على النساء هناك تلميحات إلى امتلاك الرجال أفضلية في استخدام رسم الخرائط الذهنية، مقارنة بتفضيل النساء لاستخدام التنقل القائم على المسار.

 

في بحث جديد تم عن طريق لعبة افتراضية، وضعت هيغارتي وآخرون 140 طالبا من جامعة كاليفورنيا في متاهة ذات جدران خرسانية عالية في الواقع الافتراضي. حوت المتاهة اثني عشر غرضا وُضِعوا عند مفترقات طرق مختلفة، بما في ذلك كرسي وبطة. بعد أن عُلِّموا طريق عبور المتاهة، بدأ المتطوعون في التجربة عند أحد الأغراض وطُلِب منهم الانتقال إلى غرض آخر. في بعض الأحيان، كان المسار الذي تعلموه هو الأقصر، وفي أوقات أخرى كان من الأسرع سلوك مسار جديد.

 

وجد الباحثون أن النساء أكثر احتمالية لمتابعة الطرق المتعلَّمة والتجول فيها. بينما أظهر الرجال تفضيلا أكبر لمحاولة سلك طرق مختصرة، والتي تستلزم رسم الخرائط الذهنية. في المتوسط، كان الذكور أسرع وسلكوا مساحات أقل في الوصول إلى هدفهم. وقد وجدت الدراسات السابقة أيضا أن النساء أقل احتمالا من الرجال لاستكشاف الطرق المختصرة. ولكن ما السبب في ذلك؟ تمتلك سارة كريم ريغر في جامعة يوتا الإجابة عن ذلك، حيث تُظهِر أبحاثها أنه عند التنقل في بيئة غير مألوفة، فإن النساء يتبنّين نهجا أكثر حذرا ويملن إلى العودة إلى أماكن زرنها سابقا أكثر من الرجال.

وتقترح أنه في زمن أسلافنا، كانت المرأة التي ضاعت أكثر ضعفا من الرجال، ومن المحتمل أن تكون المنفعة المحتملة عن أخذ طريق مختصر أقل من الرجل، بالنظر إلى الخطر الأكبر نسبيا على حياتها إذا واجهت تهديدا غير متوقع مثل عرين حيوان مفترس، تقول ريغر "ليس من الأسرع العودة إلى الأماكن التي زرتها بالفعل، ولكنه أكثر أمانا".

 

يميل الملاحون الماهرون إلى أن يكون لديهم حاسة شم أقوى ووضعية أفضل.. يبدو ذلك معقولا؛ ومع ذلك، حتى وقت قريب، ركز الباحثون المهتمون بالملاحة على الأشخاص من الثقافات الغربية. وبالتالي، فقد لا تنطبق النتائج على النساء بشكل عام، أو حتى على أسلافنا. قد نحصل على رؤية مختلفة للاختلافات الجنسية في الملاحة من خلال النظر إلى الناس في المجتمعات التقليدية. هذا ما تحاول إليزابيث كاشدان -عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة يوتا- اكتشافه.

 

تبحث كاشدان وزملاؤها في مجتمعات صغيرة، لا سيما "شعب التسيماني" في بوليفيا و"شعب توي" في ناميبيا. وقد وجد الباحثون أن الفتيان والفتيات من توي وتسيماني يتمتعون بالقدر نفسه من الدقة في الإشارة إلى المواقع البعيدة، وفي تخيّل وجودهم في مكان واحد والإشارة إلى اتجاه آخر (اختباران كلاسيكيان للقدرة على التنقل). ثم في فترة المراهقة تقريبا، تشعر الفتيات من كلا المجموعتين بالقلق المتزايد من المخاطر الجسدية، بما في ذلك خطر الضياع.

تعمل الملاحة عبر الأقمار الصناعية وتطبيقات خرائط الهاتف على تقويض قدراتنا في الملاحة الطبيعية
تعمل الملاحة عبر الأقمار الصناعية وتطبيقات خرائط الهاتف على تقويض قدراتنا في الملاحة الطبيعية (مواقع التواصل)

في مقعد القيادة

يبدو أن هذا يدعم أفكار ريغر، ولكن هناك أمر مختلف. على الرغم من أن الاختلاف المرتبط بالجنس في الملاحة يظهر لدى البالغين من "شعب توي"، فإنه لا ينطبق على "شعب تسيماني". تعتقد كاشدان أنها تعرف السبب. يقوم شعب تسيماني بمعظم مهامه في غابات كثيفة خطيرة، بما في ذلك صيد الحيوانات والأسماك ورعي الماشية، لذا يميلون إلى عدم التجوال بعيدا. أما شعب توي، فيعيشون في السافانا المفتوحة (السهل العشبي). على عكس التسيماني، يمتلك رجال توي نطاقات أكبر بكثير من النساء، يسافرون مسافات طويلة لزيارة زوجاتهن الأخريات، فمجتمعهم متعدد الزوجات. ونتيجة لذلك يواجهون تحديات أكبر في التنقل، ويكتسبون المزيد من الخبرة، مما قد يفسر الاختلافات في البالغين في شعب توي حسبما تقول كاشدان.

 

يبدو أن البيئة المادية التي نعيش فيها تلعب دورا أيضا، كما هو الحال بالنسبة لشعوب توي وتسيماني. في بحث لم يُنشر بعد، وجدت إيريكا بارهورست كاتس -تلميذة ريغر- أن الأشخاص الذين يعيشون في مدينة بادوا في إيطاليا المتسمة بشبكة كثيفة من الشوارع الصغيرة غير المنتظمة، كانوا أفضل في اختبارات الإشارة إلى معالم من سكان مدينة سولت ليك الأميركية والتي بُنيت على نظام شبكي دقيق.

 

هناك عوامل أخرى ترتكز على الفروق الفردية، وتنبثق عن دراسة ضخمة يقودها هوغو سبيرز من كلية لندن الجامعية، حيث يقوم بمسح قدرات الناس على التنقل باستخدام لعبة تعتمد على الهاتف المحمول تسمى "Sea Hero Quest". في تحليل لأكثر من خمسمئة ألف شخص من 57 دولة، كان أفضل الأفراد أداء يعيشون في دول تتمتع بمساواة أكبر بين الجنسين وثروة اقتصادية أكبر، والتي يصاحبها مستويات أعلى في التعليم، مما يحسن حل المشكلات المجردة. أدى وجود أربع دول من بلدان الشمال الأوروبي في المراكز العشرة الأولى إلى دفع سبيرز إلى التكهّن بأنه ربما كان هناك اختيار لامتلاك قدرات ملاحية جيدة في ماضيها البحري وفي عصر الفايكنغ. ربما من المفيد أيضا أن يكون لديك ثقافة المشاركة في الألعاب الرياضية التي تتطلب الملاحة، مثل رياضة الاسترشاد بالخرائط والبوصلة.

قد تعمل الملاحة عبر الأقمار الصناعية وتطبيقات خرائط الهاتف على تقويض قدراتنا في الملاحة الطبيعية، من الناحية النظرية يكمن سبب آخر للاختلافات الفردية في الطريقة التي تعالج بها أدمغتنا المعلومات الحسية التي نستخدمها في الملاحة.

 

على سبيل المثال، كشفت دراسة حديثة أن الملاحين الجيدين يميلون إلى أن يكون لديهم حاسة شم أقوى. تشير دراسة اخرى إلى أن عدم تماثل وضع الجسم قد يفسر سبب انعطاف بعض الأشخاص الذين يحاولون السير في طريق مستقيمة في الضوء الخافت أو الظلام. يكمن السبب في هذه الحالة إلى اختلافات طفيفة في عمل النظام الدهليزي في الأذن الداخلية [3]، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للاتجاه.

 

من الجيد معرفة السبب في ضعف إحساسك بالاتجاه، ولكن هل هناك أي شيء يمكنك القيام به لتحسين ذلك؟ تقول هيغارتي: "لا أحد يبحث بشكل منهجي حقا في كيفية تدريب الناس على أن يكونوا ملاحين أفضل". ومع ذلك، فإن معرفتنا المتنامية بما ينطوي عليه الأمر توفر بعض الأدلة.

 

وتدافع كل من هيغارتي وجيفري ببساطة عن إيلاء المزيد من الاهتمام بالبيئة؛ مثل ملاحظة المعالم والمنعطفات التي تقوم بها، والنظر وراءك بانتظام، وهي تقنية تستخدمها بعض الحيوانات. بالإضافة إلى ذلك، تقوم جيفري بالتحقق من اتجاه الظلال لتوجيه نفسها عند خروجها من محطة قطار الأنفاق. وتقول: "أنظر أيضا إلى البوصلة على هاتفي، إني لا أتجنب التكنولوجيا الحديثة".

من المرجح أن يستكشف الأشخاص الذين لديهم إحساس أفضل بالاتجاه بيئة بدلا من الاعتماد على طرق معروفة، مما يساعد على بناء خرائطهم الإدراكية
من المرجح أن يستكشف الأشخاص الذين لديهم إحساس أفضل بالاتجاه بيئة بدلا من الاعتماد على طرق معروفة، مما يساعد على بناء خرائطهم الإدراكية (مواقع التواصل)

لكن ربما نكون أفضل عندما نتوقف عن اعتمادنا على التكنولوجيا. يقول مونتيلو: "أثق إلى حد كبير بأن استخدام برامج الخرائط بانتظام يعيق قدرة الشخص على التريث بمفرده. من المؤكد أنه يضعف تشكيل الخريطة الإدراكية". كما يعتقد أن تطبيقات الملاحة عبر الأقمار الصناعية وتطبيقات خرائط الهاتف تقوّض قدراتنا في الملاحة الطبيعية، ويصف ذلك بـ "الطفالة التكنولوجية" [4].

 

نعلم أن هناك دورة إيجابية عندما يتعلق الأمر بالملاحة؛ من المرجح أن يستكشف الأشخاص الذين لديهم إحساس أفضل بالاتجاه بيئة بدلا من الاعتماد على طرق معروفة، مما يساعد على بناء خرائطهم الإدراكية ويحسن بالتالي إحساسهم بالاتجاه. ويقول: "إذا كنت تريد أن يتمكّن أطفالك من إيجاد طريقهم دون استخدام تقنيات الملاحة التكنولوجية، فيجب عليك السماح لهم بالتدرب".

 

المخلوق الضائع

لماذا يبدو أن البشر أضعف بكثير من الحيوانات في الملاحة؟ إجابة واحدة هي أننا لا نقوم عادة بالهجرات الطويلة. لم يعتمد بقاؤنا على القدرة على القيام بذلك، ولذلك لم نطوّر القدرات الموجودة في الحيوانات التي يعتمد بقاؤها على هذه القدرة. فالملاحون الفائقون مثل الفراشات الملكية وسلاحف المحيط جلدية الظهر ونحل العسل وسمك السلمون الأطلسي والطيور المهاجرة قادرون على استشعار المجال المغناطيسي للأرض لمساعدتهم على تغطية مسافات شاسعة بدقة لا تخطئ.

لكن هل إحساسنا بالاتجاه في الحقيقة أسوأ من الحيوانات التي تشبهنا أكثر؟ من الصعب أن نعرف على وجه اليقين، لأنه من الصعب العثور على اختبارات تسمح بالمقارنات المباشرة. تقول كيت جيفري من كلية لندن الجامعية: "ربما تكون لدى الحيوانات حواس غير متوفرة لنا مثل حاسة شم فائقة، مما يوفر لها معلومات بوصلة واسعة النطاق نفتقر إليها. من ناحية أخرى، إننا جيدون جدا في التفكير وفي بناء الخرائط الذهنية المعقدة. ولدينا أيضا لغة تعطينا اختصاصا كاملا آخر". تعتقد جيفري أنه في بيئة طبيعية -عندما نرى الجبال والأنهار والشمس مثلا- قد لا نكون أسوأ بكثير من الثدييات الأخرى.

 

ومع ذلك، فإن التنقل في مدينة حيث المباني المرتفعة في كثير من الأحيان تمنع الإشارات الاتجاهية ليس بالأمر السهل. كما نجعل الأمر أكثر صعوبة وفقا لجيفري؛ فمثلا تتطلب الإشارات الموجودة داخل مترو أنفاق لندن أن تقرر ما إذا كنت تريد الذهاب إلى الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب. يفترض ذلك أنك تعرف بالفعل مخطَّط مدينة لندن. الأسوأ من ذلك، لن يساعدك ذلك على بناء خريطة ذهنية جيدة.

 

تظن إليزابيث كاشدان في جامعة يوتا أننا قاسون على أنفسنا. وقد درست القدرات الملاحية لمجتمعات الصيد وجمع الثمار الحديثين، وتقترح أنه إذا كان لدى البشر إحساس بالاتجاه أسوأ من المخلوقات الأخرى، فقد يكون ذلك بسبب تعاملنا مع هذه المجموعة الواسعة من البيئات. وتضيف بأننا نتأقلم جيدا بشكل عام: "لم نتطور ونحن بحاجة إلى السفر من أميركا الشمالية إلى أميركا الجنوبية، لكننا نحتاج إلى معرفة كيف نتغذى محليا، ونصل إلى متجر الأدوية، وعادة ما نستطيع ذلك".

 

نظام تحديد المواقع في دماغك

سواء كنت بطلا في رياضة الاسترشاد بالخرائط والبوصلة أو تكافح لإيجاد طريقك، فإن عقلك مجهز بجهاز متطور يساعدك على التنقل في عالمك. وجاء أول تلميح عن هذا الجهاز المتطور في عام 1971 عندما اكتشف جون أوكيف من كلية لندن الجامعية خلايا مكانية في قرن آمون في الفئران [5]. كل من هذه الخلايا تنشّطت في مكان معين بينما تنقّل الحيوان في قفصه. لذلك، من خلال تذكر أنماط نشاط الخلية المكانية، يمكن للفئران بناء خريطة للبيئة المحيطة بها بفعالية، وفقا لما ذكره أوكيف. في عام 2014، فاز بجائزة نوبل عن هذا الاكتشاف.

تشارك أوكيف جائزة نوبل مع ماي-بريت موسير وإدفارد موسر من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا لاكتشافهما في عام 2005 خلايا الشبكة (Grid cell)، تقع هذه الخلايا بالقرب من الحصين، وتنشط في مجموعات، تحدد كل مجموعة منطقة سداسية منفصلة من الأرض بينما يتحرك الحيوان عبرها. من المعتقد أنه من خلال افتعال رسم خريطة الشبكة على مساحة ثنائية الأبعاد أثناء سيره، يحصل الفأر على معلومات دقيقة عن المسافة بين الأشياء داخل هذه الخريطة، بما في ذلك نفسه.

 

الخلايا العصبية الملاحية

عُثِر على الخلايا المكانية وخلايا الشبكة في العقل البشري، كما يمتلك عقلنا مجموعة متنوعة من الخلايا العصبية الأخرى المتخصصة في الملاحة. تشفّر خلايا اتجاه الرأس (Head direction cells) اتجاه رأسك، مما يوفر نقطة مرجعية لخلايا الشبكة والخلايا المكانية. تنشط خلايا الحدود عندما تقترب من الحدود، مثل الجدار. وتصبح خلايا العرض المكاني (Spatial view cells) نشطة عندما تنظر إلى مكان ما، حتى لو لم تذهب إليه.

لدى بعضنا إحساس في الاتجاه أضعف من الآخرين، وربما يعود ذلك جزئيا إلى عدم إعداد نظام رسم الخرائط الذهني لدينا كما يجب
لدى بعضنا إحساس في الاتجاه أضعف من الآخرين، وربما يعود ذلك جزئيا إلى عدم إعداد نظام رسم الخرائط الذهني لدينا كما يجب (مواقع التواصل)

مثل جميع الرئيسيات، يعتمد البشر بشكل كبير على الرؤية. ومع ذلك، يتطلّب التنقل مدخلات من حواس متعددة، فالأصوات والروائح واللمس لها دور، وكذلك الإشارات من العضلات في ساقينا عندما نتحرك. كما نستخدم المعلومات من النظام الدهليزي الموجود في الأذن الداخلية. لا يسجل ذلك فقط حركات رأسنا (وبالتالي وجهتنا)، بل يخبرنا أيضا عن السرعة التي نتحرك بها وفي أي اتجاه.

 

نظرا لتعقيد نظام تحديد المواقع الذهني، فليس من المستغرب اختلاط الأمور علينا. عندما تُطفَأ الأنوار وتعوزنا المدخلات البصرية، يبدأ نشاط الخلايا الموضعية في الاضمحلال، مما يتركنا تائهين. وبالطبع، لدى بعضنا إحساس في الاتجاه أضعف من الآخرين، وربما يعود ذلك جزئيا إلى عدم إعداد نظام رسم الخرائط الذهني لدينا كما يجب.

———————————————————————-

هوامش:

[1] التفكير المرئي أو التفكير الحيزي (Spatial thinking): هي ظاهرة التفكير بمعالجة الصور مستخدما جزء الدماغ المسؤول عن التفكير الخلاق والعاطفة لتنظيم المعلومات في طريقة بديهية ومتزامنة.

[2] التدوير العقلي (Mental rotation): يعني قدرة الفرد على تدوير أشكال بأبعاد مختلفة تدويرا عقليا، وتقتضي عملية التدوير العقلي أن يقارن أشكالا ثنائية الأبعاد أو ثلاثية الأبعاد؛ حتى يقرر ما إذا كان كل زوج من هذه الأشكال متطابقين، أو أنهما صورة مرآوية.

[3] الجهاز الدهليزي (Vestibular system): هو جهاز إحساس يساهم في الحركة والإحساس بالتوازن، وهو الجزء المسؤول عن التوازن في أغلب الثدييات والإحساس بالاتجاه المكاني.
[4] الطفالة (Infantilism): حالة استمرار الخصائص الفيزيائية و/أو النفسية الطفولية إلى سن النضج.

[5] قرن آمون أو الحُصيْن (Hippocampus): هو مكون رئيسي لأدمغة البشر والفقاريات الأخرى. لدى البشر والثدييات الأخرى زوج من الحصين، واحد في كل جانب من الدماغ. ينتمي الحصين إلى الجهاز الحوفي ويلعب أدوارا مهمة في دمج المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد مع الذاكرة طويلة الأمد، وفي الذاكرة المكانية التي تمكّن الشخص من التجوال.

——————————————————————

ترجمة: آلاء أبو رميلة

هذا التقرير مترجم عن (نيو ساينتست) ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية