شعار قسم ميدان

رسائل بروس لي التي لم تُنشر.. هكذا تحدث عن التنمية الذاتية ومفاتيح النجاح

"هذا هو جوهر الحياة بأكملها: من أنت؟ وماذا تكون؟" هكذا كتب الشاب الروائي ليو تولستوي في مذكراته عن النضج الأخلاقي، مُعربًا أن جوهر الحياة يتمثل في الإجابة على تلك الأسئلة. كان بروس لي (ولد في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1940 – وتوفي في 20 يوليو/ تموز عام 1973) في مثل عُمر تولستوي تقريبًا حين حول انتباهه الحقيقي إلى هذا السؤال المركزي عن الوجود بعد أكثر من قرن من الزمان، وسعى للإجابة عليه بنفس القدر من البصيرة وصدق الروح التي تعامل بها في كل نواحي الحياة.

نال بروس لي تقدير واحترام أجيال متتابعة باعتباره أعظم لاعب محترف في الفنون القتالية وفن الدفاع عن النفس، في الثقافة الشعبية، وفي الوقت الحالي يزداد الالتفات إليه باعتباره فيلسوفًا مغمورًا، لم يسبق له مثيل، بدءً من تعبيراته المجازية الشهيرة عن القدرة على الصمود، وصولًا إلى كتاباته غير المنشورة التي كُشف عنها مؤخرًا عن الإرادة والخيال والثقة.

عبر لي عن عقيدته الشخصية، مُتجسدةً في مجموعة المعتقدات التي دفعت أفكاره وسلوكياته، في مذكرات كتبها في السنة الأخيرة من حياته، في سن الحادية والثلاثين، كسلسلة من الرسائل لنفسه تحت عنوان "حول مسيرتي الخاصة"، والتي تُعد عمله الفلسفي الأكثر تركيزًا وإثارةً للانتباه. انطوت تلك القطعة على تسع مسودات، لم تكتمل أبدًا ولم تًنشر أبدًا، والتي يسعدني أن أشاركها لأول مرة بإذن خاصٍ من ابنة لي، شانون لي، ومؤسسة بروس لي.

استحق التوقيت الذي كُتبت فيه رسائل "حول مسيرتي الخاصة" قدرًا كبيرًا من الانتباه إليه أيضًا، إذ بدأ لي في كتابتها عندما كان يمر بمرحلة محورية في حياته. بعد سنوات من تهميشه واستبعاده من أداء أدوار الفنون القتالية في استوديوهاتهوليوود، التي استمرت في تقديم الممثلين القوقاز للقيام بالأدوار الرئيسية في الأفلام الآسيوية، حصل لي أخيرًا على فرصته الكبيرة للقيام بأداء الدور الرئيسي في فيلم "دخول التنين Enter the Dragon"، والذي ساعد في كتابة السيناريو الخاص به.

بروس لي (من فيلم "دخول التنين Enter the Dragon")

ولكن عندما أصرت شركة الإنتاج والتوزيع السينمائي الأمريكية، وارنر برذرز، على تجريد الفيلم من كل المعاني الفلسفية وتحويله إلى مجرد فيلم إثارة وحركة أخرق، رفض لي أن يظهر في موقع التصوير، احتجاجًا على ذلك. إذ أنه أعتقد اعتقادًا راسخًا بأن الكونغ فو هو مجرد وسيلة لنقل رسالة فلسفية أعمق، بدلًا من كون الفلسفة مجرد إلهاء عن الكونغ فو، كما أشارت شركة وارنر براذرز. وعلى الرغم من أنه أدرك تمامًا أن مبادئه يُمكن أن تُعيقه عن تحقيق حلمه الذي تمناه طوال حياته، فقد أصر على موقفه ولم يُغير رأيه. وبعد توقف دام أسبوعين، أذعن الاستوديو لرأيه وسمح له بالإبقاء على العناصر الفلسفية في الفيلم، وهكذا بدأ الإنتاج.

في خضم هذه الفترة الأكثر انشغالًا والأكثر اضطرابًا من حياته المهنية، اقتطع لي مُتعمدًا بعض الوقت للتأمل الذاتي في صياغة عقيدته. وكتب في هذه الرسائل التي صاغها لنفسه، مُستخدمًا لغته الثالثة على مدى عدة أشهر، على مجموعة متنوعة وزاهية من الأوراق، أنه توصل إلى مفهوم كونه "فنان الحياة".

تناول بالدراسة في تلك الرسائل ببساطة شديدة وحكمة مُتعمقة، بعضًا من الأسئلة الجوهرية عن الوجود. قبل أن يصيغ عالم النفس، دانييل غيلبرت من جامعة هارفارد، مقولته الخالدة بعقدٍ من الزمان، إن "البشر أعمال غير منتهية تعتقد خطأً أنها اكتملت". ينظر لي من منظور ينطوي على وعي ذاتي شديد في تحولات ما نعتبره "الذات". وعلى غرار قناعة الشاعرة الأمريكية لورا ريدينغ القائلة بأن "لا شيء مهم بحق سوى أن يكون المرء نفسه"، عبر لي من خلال المراجعات المختلفة أن كل المعارف تتلخص في معرفة الذات، تلك العقيدة الراسخة التي انبثقت منها مقولته التي كثيرًا ما تُذكر، وهي أن "أعظم مساعدة يُمكن أن يتلقاها المرء هي مساعدته لنفسه – الاعتماد على الذات" – وأن التمتع بشخصية أصيلة ومتفردة هو الهدف الرئيسي من الحياة والمقياس الحقيقي الوحيد للنجاح.

في المسودة الأولى، يكتب: "لا تُعد محاولة كتابة مقالة ذات مغزى إلى حدٍ ما – وإلا لماذا أكتبها على الإطلاق – حول ما أشعر به عاطفيًا، أنا بروس لي بالاسم، وما هو رد فعلي الفطري الصادق إزاء الظروف، مهمةً سهلةً على الإطلاق. لماذا ا؟ لأنني رجل مُتغير، فضلًا عن كوني مستمر في النمو. وبالتالي، فإن ما اعتقدت أنه حقيقة قبل بضعة أشهر قد لا يكون كذلك الآن".

المسودة الثانية (مواقع التواصل)

في المسودة الثانية، بعد الاعتراف بصعوبة إجراء هذا البحث عن الذات في خضم جدول عمله الشاق، يُصر على أهمية الأصالة الشخصية قبل كل شيء آخر، ويرى أن الاختلاف الحيوي بين ما دعته الفيلسوفة حنة آرندت "الكينونة مقابل الظهور" وبين الاختلاف الذي عبر عنه الشاعر اللبناني خليل جبران، على أنه " الذات الظاهرية مقابل الذات الأصيلة". يقول لي: بطبيعة الحال، يُمكن أن تكون هذه الكتابة أقل صعوبةً بمجرد أن أسمح لنفسي أن انغمس في لعبة التلاعب القياسية التي أقوم بها عند أداء الأدوار التمثيلية، ولكن مسؤوليتي تجاه نفسي لا تسمح لي بفعل ذلك … … أريد حقًا أن أكون صادقًا، وهذا هو أقل ما يُمكن للإنسان القيام به … لقد كنت دائمًا فنانًا محترفًا في الفنون القتالية وفن الدفاع عن النفس، بمحض إرادتي، واتخذت من التمثيل مهنة لي، ولكن قبل كل شيء، فأنا أُعد نفسي لأكون فنانًا في الحياة، في يوم من الأيام. نعم، هناك فرق بين تحقيق الذات وتحقيق الصورة الذاتية.

في المسودة الثالثة، ينظر إلى خوفنا المزمن من غير المألوف باعتباره شعورًا مؤلمًا يكتسب تأثيرًا خاصًا في ظل الظروف السياسية الراهنة: "من بين الناس، لا تشعر الغالبية العظمى بالراحة على الإطلاق من المجهول، الذي ينطوي على أي شيء خارجي من شأنه أن يهدد نمطهم اليومي الذين يسعون لحمايته. ولذلك في سبيل الحفاظ على أمنهم، فإنهم يبنون أنماطًا مختارة لتبرير ذلك الخوف".

في المسودة الرابعة، ينظر لي إلى التطور الدائم للشخصية المعنوية، الأمر الذي يجعل فكرة التعريف الذاتي الثابت غير ضرورية وغير مفيدة: "لقد توصلت إلى قبول الحياة باعتبارها عملية، وأنا راض تمامًا بأنني أقوم باستمرار، خلال عمليتي -حياتي-  بالاكتشاف، والتوسع، والبحث عن أسباب جهلي، في فنون الدفاع عن النفس وخاصةً في الحياة. باختصار، أنا أسعى إلى أن أكون حقيقيًا".

وفي المسودة الخامسة، يعيد النظر في التناقض المتأصل في السعي إلى تعريف نفسه وعمليته:

"أنا لا أؤمن بلعبة التأثير لخلق صورة ذاتية مُسخّرة"

المسودة الخامسة (مواقع التواصل)

في المسودة السابعة، يردد اعتقاد الشاعر والت ويتمان، الذي يحث على "إعادة النظر في كل ما قيل لك في المدرسة أو الكنيسة أو في أي كتاب"، ويكتب في فقرة ذات أهمية خاصة تتعلق بالوباء المنتشر في وقتنا الراهن حول "الحقائق البديلة" التي لا جدال فيها: "بالتأكيد نحن جميعًا نعترف بأننا كائنات ذكية، على الرغم من أننا محاصرين في الواقع بمجموعة من الحقائق الجاهزة التي تُقدم لنا مُنذ [الطفولة]. وفي حين أن بعضنا قد التحق بالجامعة ومر بمراحل التعليم المختلفة، إلا أن هناك شيئًا يحدث مُثير للقلق، لأن بعض هذه الحقائق يتم التدقيق فيها أثناء السعي في رحلة البحث عن الذات، غير أن في معظم الحالات نقبل معظم هذه الحقائق بدون فحص أو تدقيق".

"نحن نملك زوجًا من العيون لمساعدتنا على المراقبة وكذلك الاكتشاف، ومع ذلك لا يرى معظمنا ببساطة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ولكن، عندما يتعلق الأمر برصد ومراقبة أخطاء الآخرين، يميل معظمنا إلى التفاعل السريع والاستنكار. ولكن ماذا عن النظر داخليًا والبحث عن تغيير؟ أن نبحث شخصيًا عن ماهيتنا، وماذا نكون بحق، وعن مزايانا وكذلك عن أخطاءنا – باختصار، أن يرى المرء نفسه على حقيقته ولو لمرة واحدة، ويتحمل مسؤولية نفسه".

في المسودة قبل الأخيرة، ينتقل من البعد الفكري للمعرفة الذاتية إلى مكافآتها العاطفية: "أنا سعيد لأنني ازداد نموًا ونضجًا فكريًا بشكل يومي، وبصراحة لا أعرف حتى الآن إلى أي مدى سيستمر هذا النمو. ولكي أكون على يقين، يُمكن أن يكون كل يوم بمثابة إلهام أو اكتشاف جديد. ومع ذلك، فإن أفضل شعور بالارتياح والرضا ينتابك عند سماع إنسان آخر يقول "هذا شيء حقيقي".

     

ثم يتطرق إلى الأهمية العميقة لفنون الدفاع عن النفس التي تُعتبر بالنسبة له بمثابة مُمارسة روحية وليس مجرد أداءً مزخرف كما صورته هوليوود: "تُعد الفنون القتالية وفن الدفاع عن النفس مثلها مثل أنواع الفنون الأخرى، بمعنى أنها تُمثل تعبيرًا غير مقيد عن أرواحنا الفردية. تلك الروح البشرية هي ما يُثير اهتمامي. إذ أعيش للتعبير عن نفسي بحرية وإبداع".

ينطبق تفكير لي حول ما يعنيه أن يكون ممثلًا عظيمًا، بالتساوي على جميع أنواع الفنون، فضلًا عن فن الحياة نفسها: "إن الممثل، وأقصد الممثل الجيد، وليس الفنان النمطي السطحي، هو عملية دائمة من التعلم والتوسع والاكتشافات المستمرة. ولكي تكون ذو جودة في التمثيل، يتعين القيام بالكثير من العمل الشاق المؤلم والكثير من التفاني الكامل لممارسة ما يؤمن به المرء".

في المسودة التاسعة والأخيرة، التي لا تزال مسودة، لأن وفاته المُبكرة منعته من استكمال ذلك الجزء، يُعيد لي تجميع قطع الفسيفساء المُتعلقة بالأبعاد الفكرية والروحية والعاطفية للشخصية الذاتية، ويعود إلى أخلاقيته المركزية للأصالة الشخصية: "عندما يكون لبعض الناس ذات، فإن الغالبية الباقية لديهم فراغ، لأنهم مشغولون للغاية في إضاعة طاقتهم الحيوية الإبداعية لعرض أنفسهم على هذا النحو أو ذاك، مُكرسين حياتهم لتحقيق مفهوم ما ينبغي عليهم أن يكونوا، بدلًا من السعي إلى تحقيق قدراتهم كبشر، ذلك النوع من "الكيان" مقابل التملك – ما يعني أننا لا نمتلك عقلًا، بل ببساطة نحن العقل، وفي النهاية سنظل على ما نحن عليه".

_____________________________________________

هذا التقرير مترجم عن: brainpickings ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة