شعار قسم ميدان

المحافظون ليسوا منغلقين والليبراليون ليسوا منحلين.. كيف نفهم التوجهات السياسية؟

هل تورَّطت يوما في نقاش سياسي مع أحدهم، إلى درجة جعلتك تعتقد أنك مهما شرحت له فإنه لن يفهم ما تقول؟ وهل تشعر أحيانا أن الجدل حول بعض القضايا الأخلاقية والسياسية يبدو كما لو أنه نقاش بين شخصين من عالمين مختلفين؟ ولماذا تتلاشى المساحات الوسطية، ويبدو الافتراق كما لو كان جذريا وحتميا؟ وفي المقابل، لماذا أصبحت المساحات المشتركة بعيدة المنال؟

نتبادل يوميا نقاشات مختلفة مع الناس من حولنا، وغالبا ما تكون الخلافات الذوقية بيننا مقبولة، إذ من اليسير أن نتقبل أن صديقنا يُفضِّل هذا القميص بلون معين، رغم أننا لا نتفق معه، ونرى أن لونا آخر أكثر جاذبية. وقد نخرج في نزهة ونطلب وجبات طعام مختلفة بما يتناسب مع ذوق كلٍّ منا، دون أن يُزعجنا هذا الاختلاف ودون أن نتعارك أو ننفعل انفعالات حادة. أما النقاش السياسي أو العقدي أو الأخلاقي فكثيرا ما يجري ضمن جو مشحون إلى درجة أنه قد ينتهي بالعراك والعنف الجسدي أو اللفظي بين أطراف النقاش. والأغرب هو ما ينتابنا من شعور عميق بالتوتر والاستفزاز والكراهية والنفور من الآخر الذي يعارضنا في هذه القضايا.

لماذا يَصِم الناس بعضهم بعضا بمقولات من نوع أنت "محافظ ومنغلق"؟ أو أنت "ليبرالي ومنحل أخلاقيا"؟ وكيف نعرف إذا ما كنا محافظين أو ليبراليين؟ ولماذا ينقسم الناس بين هؤلاء أو هؤلاء، ويصعب عليهم تغيير قناعاتهم رغم النقاشات المحتدمة المتواصلة؟

مَن هم المحافظون ومَن هم الليبراليون؟

(مواقع التواصل)

لعل المفاهيم قد اختلطت عليك بعض الشيء عند الحديث عن اليمين واليسار أو المحافظين والليبراليين، فعادة ما تُستخدم هذه المصطلحات بطريقة عشوائية وغير منضبطة، مما يجعل التمييز بينها أمرا معقدا بعض الشيء. ولكي نميز بين هذه المفاهيم، علينا أن ندرك أولا مفهوم الأيديولوجيا السياسية وخصائصها، ومن ثم تناول طيفها السياسي الذي ينقسم إلى اليمين واليسار.

تعود التسمية الثنائية المشهورة اليوم باليمين واليسار إلى صيف عام 1789 إبان اندلاع الثورة الفرنسية، عندما اجتمع أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية لبدء صياغة الدستور وإجراء تعديلات تشريعية حيال مدى السلطة التي يجب أن يتمتع بها الملك "لويس السادس عشر"، وعلى إثر هذا الجدل المحتدم؛ انقسم المتجمعون في المجلس إلى مجموعتين رئيسيتين، حيث جلس الثوار المناهضون للملكية على يسار مسؤول المجلس، فيما تجمع أنصار الملكية الأرستقراطية الأكثر محافظة على اليمين. وبذلك أصبح هذان المصطلحان يُعبِّران عن اتجاهين سياسيين مختلفين، لكنهما لم ينحصرا في فرنسا ولا في الغرب الأوروبي، بل امتد كلٌّ منهما ليصبح مفهوما عالميا يحكم مساحات النقاش في المجال العام، حتى في العالم العربي.

تُزوِّد الأيدولوجيا الأفراد والجماعات بخارطة أفكار ومفاهيم عن كيفية عمل مجتمعهم، وكيف ينبغي أن يكون، وماذا يجب أن نفعل حتى يصير المجتمع على صورة مثالية منشودة تصبو إليها كل أيديولوجيا على طريقتها. ومن ثم تضُخ الأيدولوجيا في أتباعها خطابا فكريا ومُحمَّلا بالمشاعر في الوقت نفسه، على سبيل المثال، تقول الشيوعية إن الطبقات الثرية هي السبب الرئيسي في تشكيل الواقع الذي نعرفه وفي اضطهاد الطبقات الأفقر، ولذا فإن التغيير يحدث بتقويض هذه الطبقة الثرية وإعادة توزيع الثروة والوصول إلى حالة مثالية تنعدم فيها الطبقات الرأسية.

تقع الشيوعية بالطبع على أقصى يسار الطيف السياسي. واليسار في العموم موقف أيدولوجي واسع، يتبنى بعض المبادئ الأساسية مثل لا مركزية السلطة، وأهمية الحرية والتقدم، وضرورة المساواة وتلاشي الطبقات الاجتماعية. وعلى الجهة الأخرى، يقع اليمين، وهو موقف أيدولوجي واسع أيضا، مبادؤه الأساسية مركزية السلطة، وأهمية النظام، وضرورة التراتبية الهرمية للمجتمع والعناية بمفاهيم الواجب الأخلاقي. ولذا يضم اليمين واليسار طيفا واسعا من الأيدولوجيات الفرعية، التي تندرج تحت كلٍّ منهما أو ربما تتوسط بينهما.

بيد أن الملاحظ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي، أن العديد من الأيديولوجيات السياسية فَقَدت حضورها في المنافسة السياسية اليوم، وهذا لا يعني انعدام وجودها أو أهميتها بالضرورة، فهي موجودة لكنها غير فاعلة. وغالب النقاش في المجال السياسي يُستَقطَب لصالح تيارَيْن رئيسيَّيْن هما المحافظة والليبرالية. ومن الجدير بالذكر أن الموقف المحافظ لا يلزم منه التديُّن بالضرورة، وإن كان ثمة علاقة بينهما. فقد يحدث أن يكون الإنسان غير متدين ويتبنى مواقف سياسية محافظة لاعتقاده بأنها تُعبِّر عنه وعن مصالحه بشكل أفضل من التوجهات الليبرالية. والعكس بالعكس، فقد يتبنى المؤمنون والمتدينون توجهات تتقاطع مع الليبرالية، وقد يرتبط هذا بأنماط تدين مغايرة مثل التدين الفردي والصوفي ونحوه، مع تبني مواقف ليبرالية لاعتقادهم بأن هذه التوجهات تُمثِّل مصالحهم الخاصة ورؤاهم الأخلاقية.

على المستوى الأوسع، ينحاز معظم الناس لمواقف سياسية وأخلاقية دون أن يُدركوا تماما الأُطر النظرية للأيدولوجيا التي يؤمنون بها، لذلك سنستخدم طريقة عملية سهلة للتمييز بين المحافظة والليبرالية تكمُن في تعريف كلٍّ منهما من خلال مواقفهما إزاء قضايا معينة سياسية واقتصادية واجتماعية، بدلا من الانهماك في التعريف النظري، الذي هو ضروري لفهم السياقات التاريخية لتلك الأفكار وتطور مفاهيمها، لكنه لن يعنينا هنا في هذا السياق.

عموما، يمكن فهم الرؤية السياسية التي يتبناها الناس من خلال انحيازهم بالتأييد أو الرفض لهذه القضايا. لماذا؟ لأن هذه القضايا التي تُشكِّل اختلافا في الرأي العام تُعبِّر في حقيقتها عن ميول عميقة داخل الفرد تتعلق بالانفتاح والخوف والاشمئزاز والتعاطف وغيره. مثلا يختلف المحافظون عن الليبراليين إزاء موقفهم من الإجهاض، لأن المحافظين يتبنون رؤية تتعلق بقداسة الروح البشرية، فيما يتبنى الليبراليون رؤية تتعلق بحرية التحكم بالجسد وما في داخله. لماذا يحدث اختلاف المنظور الأخلاقي الذي يتبناه البشر إذن؟

الأسس الأخلاقية الخمسة

مفهوم الصفحة البيضاء أو اللوح الفارغ صكَّ المفكر الإنجليزي "جون لوك"، وعنى به أن الإنسان يولد وعقله فارغ تماما من أي خبرة أو معرفة مُسبقة. (مواقع التواصل)

يُعَدُّ مفهوم الصفحة البيضاء أحد الاعتقادات الأساسية التي سادت أثناء عصر التنوير حول العقل البشري، ومفهوم الصفحة البيضاء أو اللوح الفارغ صكَّه المفكر الإنجليزي "جون لوك"، وعنى به أن الإنسان يولد وعقله فارغ تماما من أي خبرة أو معرفة مُسبقة، وأن التجربة والحياة المَعيشة هي ما تُشكِّل معارف الناس وقيَمَهم وسلوكياتهم.

غير أن علوم الأعصاب الحديثة وعلم النفس المعرفي وعلم النفس النمائي للأطفال توصَّلت إلى خلاصات بحثية تتناقض مع مفهوم "الصفحة البيضاء" وتنفي صحته. فقد أشارت هذه الدراسات إلى أن الإنسان يولد بعقل مُجهَّز مسبقا بمجموعة آليات وميول تُمكِّنه من تشكيل خبراته ومعارفه وقِيَمه. وأبسط اعتراض على فكرة "اللوح الفارغ" هو أن التوأم المتطابق يُظهِران نوعا من السلوكيات وردود الأفعال والرغبات المتماثلة حتى حين ينشآن تنشئة مختلفة.

على المستوى الأخلاقي، أجرى فريق بحثي من جامعة "ييل" الأميركية برئاسة عالمَيْ النفس "بول بلوم" و"كيلي هاملين" سلسلة من الدراسات وجدت أن الأطفال يُظهِرون منذ الأشهر الأولى لولادتهم تفضيلات أخلاقية معينة، وهو ما يناقض نظرية التنشئة الأخلاقية للأطفال، التي تفترض أنهم يكتسبون تفضيلاتهم الأخلاقية وفقا لعمليات التربية التي يمارسها الآباء على الأطفال من مكافأة وعقاب وتوبيخ وتحفيز مقابل ما يعتقد الآباء أنه الصواب والخطأ.

وجد "بول بلوم" وفريقه البحثي أن الأطفال منذ عمر ثلاثة أشهر يظهَر لديهم ميل طبيعي نحو ثلاث قيم أخلاقية على الأقل هي التعاطف والتعاون والعدالة. أُجريت التجربة على عرض مشهد مسرحي بسيط فيه مجسم (1) يحاول صعود الجبل، ومجسم (2) يساعد المجسم الأول على صعود الجبل، ومجسم (3) يأتي لاحقا لإعاقة وإيذاء المجسم الأول ويمنعه من صعود الجبل، وفي مشهد أخير يأتي مجسم (4) لمعاقبة المجسم الثالث الذي أعاق المجسم الأول عن صعود الجبل.

أتت الخلاصات البحثية مدهشة، فبعد عرض المسرحية على الأطفال الرُّضَّع، أُتي بالمجسمات وعُرِضَت أمامهم، واختار الأطفال دائما المجسمات الطيبة وتجاهلوا المجسم المؤذي، وكذلك فضَّلوا المجسم الذي تعاون مع غيره، وشعروا بالتعاطف مع المجسم الذي تعرض للأذى. واللافت أنهم حرموا المجسم المؤذي من الطعام في نوع من أنواع السلوك العقابي يعكس حِسَّ العدالة.

وتزامنا مع هذه الخلاصات، أجرى عالم النفس الاجتماعي "جوناثان هايدت" دراسة عابرة للثقافات على الميول الأخلاقية التي يتجادل الناس حولها في مجتمعات متنوعة حول العالم. وعن طريق التحليل البياني لنقاشات الناس، وجد أن الاختلافات بينهم يمكن رَدُّها إلى خمسة أسس أخلاقية هي العدل والرأفة والقداسة والاحترام والولاء.

  • أولا: العدل (ويقابله الظلم)

يُمثِّل هذا الأساس قيمة العدل، والمعاملة بالمثل، وأن المعتدي يجب أن يُحاسَب، والجاني يجب أن يُعاقَب، وأن الظلم يشيع بدون ذلك. وتُخرَق قيمة العدل عند الاعتداء والخداع والسلب. وعموما يُجمِع معظم البشر على هذه القيمة ولا يختلفون حولها، لكنهم يختلفون في كيفية تطبيق العدل أو إجراء العقوبات.

  • ثانيا: الرأفة (ويقابلها الإيذاء)

قيمة الرأفة قيمة أساسية مشتركة، تتمثَّل أساسا في التعاطف، وهي قيمة فطرية، وتُستثار بشدة مع رؤية الضعفاء والجماعات التي لا تستطيع حماية نفسها، مثل الأطفال والمضطهدين وصغار الحيوانات. ويقابل هذه القيمة الإيذاء، وهنا تأتي الرأفة دائما بوصفها ضرورة فورية لرفع الأذى، وهي فكرة جوهرية لدى الليبراليين ضمن مبدأ "لا ضرار" (No-Harm Principle). ومع هذا يتفق معظم الناس بصرف النظر عن تعريفهم بالضبط لقيمة الرأفة على حتمية إيقاف الأذى أنَّى وُجِد.

  • ثالثا: القداسة والنقاء (ويقابلها التدنيس والتلوُّث)

تشمل قيمة القداسة والنقاء، ما يدخل إلى الجسد وما يمسُّه، وتُستثار هذه القيمة عند انتهاك الجسد أو تلويثه بتناول ما هو غريب وملوِّث. وهذه القيمة مركزية جدا لدى المحافظين وشبه مُهمَلة لدى الليبراليين. ومفاهيم طهارة النفس وقداسة الجسد والابتعاد عما هو نجس ومُدنَّس جميعها مفاهيم ذات أولوية لدى المحافظين.

  • رابعا: احترام السلطة (ويقابله تجاهل العلاقات الرأسية)

تُعبِّر قيمة الاحترام أساسا عن الإقرار بوجود هرمية تراتُبية داخل المجتمع، تتمثَّل في العلاقات الرأسية مثل: الزعيم/الأتباع، والشيخ/التلميذ، والآباء/الأبناء، وغير ذلك. وتفرض هذه التراتبية ضِمْنا قانونا أخلاقيا يجب اتباعه، إذ يعتني الكبير بالصغير بينما يحترم الصغير الكبير. ومرة أخرى، تحظى هذه القيمة بالأهمية عند المحافظين، فيما تغيب بدرجة كبيرة عند الليبراليين.

  • خامسا: الولاء والانتماء إلى الجماعة (ويقابله التعاون مع جماعة خارجية)
(غيتي إيميجز)

ترجع هذه القيمة إلى أساس بقائي عميق بحسب علم النفس التطوري، الذي يرى أن نوازعنا للتحيز لأبناء جلدتنا وعِرقنا وعشيرتنا فطرية وأساسية، إذ إن قدرتنا على البقاء لطالما أتت في جزء منها من تجنُّب الغرباء والبقاء في جماعاتنا الأصيلة، مما منحنا زيادة في الثروة، وحماية من اعتداء الحيوانات المفترسة أو القبائل الأخرى. وقد وجدت دراسات علم النفس الاجتماعي أنه عند الإتيان بأي جماعة بشرية وتركها تتفاعل بعضها مع بعض؛ تنقسم تلقائيا إلى جماعة داخلية من الأصدقاء في مواجهة جماعة خارجية من الأعداء.

تؤثر هذه الأسس الأخلاقية في مواقفنا السياسية بحسب الحساسية التي نوليها لكل أساس منها، فهي تعمل كما لو أنها خمسة عدَّادات في جهاز لهندسة الصوت. وهكذا فإن الأشخاص الذين لديهم حساسية مرتفعة لقيمة الاحترام، يصبحون أكثر إذعانا ومطاوعة مع القرارات القادمة من سلطة ما، بغض النظر عن صحتها من عدمها. أما الأشخاص الذين لديهم حساسية مرتفعة لقيمة العدل، فيصيرون أكثر عناية بمسائل العقاب والجزاء والثواب حتى ولو حدث ذلك على حساب حرية الأفراد. لقد وُجِد أن الناس عموما تتفق في قضاياها على قيمتَيْ الرأفة والعدل، ولذا عند تعرُّض شخص لجريمة على الملأ تتناقلها وسائل الإعلام ومنصات التواصل، ويسير أغلب الرأي العام في اتجاه واحد دون خلاف حول إنزال العقوبة بالجاني ورفع الأذى عن المجني عليه.

بيد أن الاختلاف يحدث دائما في القيم الثلاث الأخرى: الولاء والاحترام والقداسة. فلا يهتم الليبراليون كثيرا بهذه القيم، فيما يرى المحافظون فيها أولوية أخلاقية. وبحسب هذا التفسير، يُحاجج المحافظون بمنع تشريع زواج المثليين لأنهم يتمركزون حول قيمة "النقاء والقداسة" للجسد، ويعتبرون المثلية تلويثا لحُرمة الجسد والفطرة البشرية، بالإضافة إلى استنادهم الأساسي إلى النصوص الدينية. أما ما يتعلَّق بقضية منح الجنسية للمهاجرين، فيرى المحافظون أن الأولوية لأبناء جلدتهم في الانتفاع من ثروات البلاد والامتيازات التي تمنحها دولتهم، بدلا من إعطائها لغرباء ليسوا من العرق أو الجماعة ذاتها، وهذا لأنهم يتمركزون حول قيمة الولاء. ولذا نجد أحزاب اليمين عادة أقل ترحيبا بالمهاجرين واللاجئين في دول غربية عديدة.

ليس هناك إذن نموذج أخلاقي ونموذج غير أخلاقي، ولكن هناك اختلاف في سُلَّم الأولويات الأخلاقية التي يضعها كل توجه سياسي لنفسه. ولذا يصعُب على الليبراليين أحيانا أن يفهموا الكيفية التي تجعل المحافظين متمسكين بقضايا معينة وقد يرونها تعنُّتا أو حماقة، لكنها في حقيقتها مُبرَّرة عقلانيا. ويتضح من المنحنيات أدناه كيف يتفق المحافظون والليبراليون على قيم الرأفة والعدل، ويختلفون حول القيم الثلاث الأخرى.

 

هل هناك أُسس بيولوجية للتوجهات السياسية؟

حسنا، ينقلنا هذا إلى السؤال التالي حول إذا ما كانت البيولوجيا تتدخل بشكل عام في توجهاتنا السياسية. في سلسلة دراسات أجراها فريق بحثي من جامعة "نِبراسكا" الأميركية، عُرِض خليط من مجموعتَيْ صور مختلفتين على عدد من المشاركين. ومثَّلت المجموعة الأولى صورا مبهجة ولطيفة، مثل أطفال يلعبون معا، وأصدقاء يتسكَّعون على الشاطئ، وطعام لذيذ. أما المجموعة الثانية فمثَّلت صورا مزعجة، مثل حادث اصطدام سيارة، وشخص يتناول الديدان طعاما له، وطعام متعفِّن، وشخص مسكين يتعرَّض للضرب والإهانة.

سُئل المشاركون قبل التجربة عن آرائهم وتوجهاتهم السياسية وقام الباحثون بتدوينها، وأثناء التجربة تم إيصال المشاركين بأجهزة دقيقة لقياس ردود الأفعال الجسدية (الفسيولوجية) عند رؤيتهم لمجموعتَيْ الصور، وقيست ردود الأفعال بواسطة قياس تغيُّر مُوَصِّلية الجلد الكهربية، فعند حدوث إثارة في الجهاز العصبي الوُدِّي (Sympathetic nervous system)، يبدأ الجسد بالتعرُّق مما يغير مُوَصِّلية الجلد الكهربية. وقد وجدت الدراسة أن عددا من الأشخاص قضوا وقتا أطول في تمعُّن الصور المزعجة، وأظهرت ردود أفعالهم الجسدية إثارة أكبر من الآخرين، وأن هؤلاء أنفسهم مَن يتبنون وجهات نظر محافظة، أما أصحاب وجهات النظر الليبرالية فقضوا وقتا أطول في تأمل الصور المبهجة.

إن أحد المقاييس المهمة في تحديد الكثير من سلوكيات الإنسان اليومية هو مقياس التقزز (Disgust Test). ويُقاس معامل التقزز عبر عدد من الأسئلة مثل: ما رأيك لو تناولت وجبة طعام وهناك شخص أمامك يتناول وجبة من الديدان؟ إلى أي درجة تشمئز لو سِرت في نفق مشاة تحت الأرض وشمَمْت رائحة بول؟ هل تأكل من صحن حساء تحِبُّه إذا حرَّكه صديقك بمعلقة استخدمها سابقا؟ لقد وُجِد أن المحافظين أكثر تقززا ويسهل إثارة اشمئزازهم في الحياة اليومية، بينما لا يتقزز الليبراليون بالطريقة نفسها أو بالقدر نفسه من الحساسية التي تثير المحافظين.

بحسب علم النفس التطوُّري، يعمل "التقزز" بوصفه ردَّ فعل يُعينُنا على البقاء، فيحمينا من الجراثيم والأجسام الغريبة التي قد تُشكِّل خطرا علينا وتُسبِّب المرض أو التهديد. ومن ثمَّ فإن الأشخاص الذين يسجلون أرقاما مرتفعة على مقياس التقزز لديهم ولاء أكبر لجماعتهم الأصلية وتحسُّس من العناصر الغريبة التي قد تُشكِّل خطرا. ومن الجدير بالذكر أن العامل الوراثي يحضر في توريث الميول السياسية، ليس باعتباره سببا مباشرا لها، لكنه مرتبط بها بنسبة قد تصل إلى 43% وفقما أشار إليه عدد من الدراسات.

(شترستوك)

يلعب التكوين النفسي دورا في هذا السياق أيضا. هل قابلت يوما أحد أصدقائك المتخصصين في علم النفس وسألته السؤال الشائع: هل تستطيع تحليل شخصيتي؟ يُعَدُّ هذا السؤال تحديا أساسيا في علم النفس، وقد يفترض الناس أن تحليل الشخصية يحدث بواسطة مهارة سحرية في لحظة واحدة عن طريق قراءة العينَيْن أو قدرة على الاسبتصار من نوع خاص، ومن ثمَّ يُنبئك عبرها الطبيب النفسي بأسرارك وخفايا شخصيتك، لكن هذا في الحقيقة غير صحيح، فلا يمكن لأحد أن يُحلِّل شخصيتك دون أن تمنحه قدرا كافيا من المعلومات عن نفسك. ولذا يستخدم المختصون في علم النفس أدوات ومقاييس واختبارات علمية ليحصلوا على المعلومات التي تُمكِّنهم من تحليل شخصيتك، وهو مجال يُسمَّى "عِلم نفس الشخصية"، وقد تطور كثيرا في السنوات الأخيرة نتيجة الأبحاث الضخمة فيه.

هل يمكنك تخمين النموذج العلمي الأكثر استخداما في الأوساط العلمية اليوم لتحليل الشخصية؟ يشيع على المستوى الشعبي اختبار "مايرز بريغز" لأنماط الشخصية الستة عشرة، لكنه ليس النموذج العلمي الأكثر استخداما، إذ يواجه هذا النموذج تحديات علمية حول دِقته وموثوقيته وأسسه النظرية، ولذا يتجنَّب الباحثون الاعتماد عليه. يُعَدُّ نموذج السمات الخمس للشخصية أحد أهم النماذج العلمية المستخدمة في تحليل الشخصية، وهو نموذج يتمتع بقدر عالٍ من الموثوقية والدقة والقدرة التفسيرية. ويُقاس باستخدام مقياس علمي مُطوَّر اسمه "NEO-PI-R". ويعطي هذا النموذج مقياسا مئويا لكل سمة من السمات الخمس لشخصيتك دون أن يضعك في تصنيف أو قالب أحادي لنمط محدد.

أولى هذه السمات الخمس هي الانفتاحية، وتتمثَّل في الانفتاح على التجارب الجديدة، والأفكار الغريبة، والعادات غير التقليدية، والإقبال على اللا مألوف. وعكسها الانغلاقية والالتزام بما هو معروف ومكرر ومألوف وثابت وآمن.

السمة الثانية هي الانضباطية، وتعني الاجتهاد لإنجاز المهام، وتفضيل النظام على الفوضى والترتيب على العشوائية، والمثابرة لتحقيق المطلوب. وعكسها الفوضوية وعدم القدرة على إنجاز مهمة واحدة لفترة طويلة. أما السمة الثالثة فهي الانبساطية، وتعني ببساطة الإقبال على العلاقات الاجتماعية والتعرف على الناس والاختلاط بالآخرين والوجود معهم وممارسة الأنشطة الاجتماعية. وعكسها الانعزالية، وتفضيل البقاء وحيدا والشعور بالإنهاك والاستنزاف عند حضور الفعاليات الاجتماعية.

لننتقل إلى السمة الرابعة وهي التوافقية، وتُمثِّل اللطف والمطاوعة وعدم الرفض والتعاطف وقدرة الفرد على أن يضع نفسه مكان الآخرين واستشعار وتوقع ما يزعجهم وما يؤذيهم. وعكسها العدائية وعدم التعاطف مع الآخرين، وعدم أخذ رغباتهم بعين الاعتبار، وخرق القوانين أو اللائق مجتمعيا. وأخيرا هناك سمة الثبات الانفعالي التي تعني الاستقرار الشعوري وعدم الانفعال الفجائي أو التقلب المزاجي، أو القلق الزائد عن الحاجة. وعكسها القلق الانفعالي، وهي كثرة التوتر والقلق من الأشياء العادية والمهام اليومية، والخوف من حدوث كرب ما والقلق مما يجري وما لا يجري.

 

 

عموما، يُسجِّل المحافظون نسبة منخفضة على مقياس سمة الانفتاحية، مما يجعلهم أكثر انحيازا للمألوف والمعروف والتقليدي والمكرر والمُجرَّب والثابت. فيما يسجل الليبراليون نسبة مرتفعة على مقياس سمة الانفتاحية، مما يجعلهم أكثر إقبالا على المغامرة والمخاطرة والجديد. هذا التباين في سمة الانفتاحية بين المحافظين والليبراليين يساعدك على فهم الاختلافات السلوكية بينهما، مثل اختلاف نوعية الكتب التي يقرؤها المحافظون عن نوعية الكتب التي يقرؤها الليبراليون مثلا.

علاوة على ذلك، يُعَدُّ المحافظون أكثر تسجيلا للنقاط على سمة الانضباطية، فهم يحبون النظام، ويكرهون الفوضى والثورة أو انفلات الأوضاع. لكن هذه السمة ذاتها تساعدهم في تنظيم أنفسهم وإدارة أعمالهم. ولذا قيل ذات مرة: إذا أردت إنشاء مشروع جديد فدع شخصا ليبراليا يقوم بذلك (لأنه يسجل قيمة مرتفعة على مقياس الانفتاحية) وإذا أردت أن تحافظ على مشروعك وتُبقيه ناجحا فدع شخصا محافظا يقوم بذلك (لأنه يسجل قيمة مرتفعة على مقياس الانضباطية). أما من جهة اللطف، فمن الصحيح أن كلا الاتجاهين يُسجِّلان نِسَبا متقاربة على سمة التوافقية، ولكن يختلف المحافظون عن الليبراليين في طبيعة الدوافع العميقة للطف مع الآخرين، إذ يتعاطف المحافظون مع غيرهم لأنهم معنيون أكثر بسمة "التأدُّب" مع الآخرين، فيما يتعاطف الليبراليون مع غيرهم لأنهم يشعرون بالشفقة والرأفة أكثر.

منظور مختلف للأشياء.. وليس انحلالا أخلاقيا ولا انغلاقا فكريا

(شترستوك)

إن الإنسان كائن منحاز دوما لأفكار ما، وقد وجدت إحدى الدراسات اللافتة أن معرفتنا لتوجهات الآخرين السياسية تؤثر في موقفنا وتقييمنا لأدائهم في المجالات غير السياسية. على سبيل المثال، إذا عرفت أن زميلك في العمل يتبنى موقفا أخلاقيا سياسيا مخالفا لما تؤمن به، فإن هذا من شأنه أن يجعلك ترى أداءه للمهام الوظيفية سلبيا وناقصا أكثر مما لو اتفق معك في رؤاك الأخلاقية أو السياسية.

تتسم اللعبة السياسية دائما بالاستقطاب، أي تقسيم الناس وجذبهم باتجاه أقطاب متنافرة، ومن ثم تبلور جماعات متحاربة ولو بصيغة مدنية. ومن المخيف مقدار شيطنة الآخر الذي يمارسه البشر تجاه مَن يخالفهم فكريا وذهنيا، حيث يخبرنا علم النفس الاجتماعي والتطوري أننا نملك نزعات بدائية أصيلة ورثناها عن أسلافنا. وهنا يستخدم "جوناثان هايدت" استعارة لطيفة يقول فيها إن الرياضة بالنسبة إلى الحرب تماما مثل الأفلام الإباحية بالنسبة إلى الجنس، أي إن الحرب والجنس سلوكَين بدائيَّين أصيلَيْن كامنَيْن فينا، لكننا تحضَّرنا على مر العصور، فاستبدلنا الكيفية التي تتمظهر بها نزعاتنا.

ما زلنا إذن نمارس النزوع البدائي نحو الاستقطاب وفصل أنفسنا إلى أحزاب تُعادي بعضها بعضا. ومن ثم تستمر الجذور القبلية لمجتمعاتنا في التعبير عن نفسها في صورة تناحر أخلاقي وفكري حاد، وهو ما يُطلق عليه أستاذ الفلسفة الأخلاقية "جوشوا جرين" مصطلح "القبائل الأخلاقية". ولذا، من الضروري التنبه دائما لمساوئ النزعات البدائية في داخلنا، ولخطورة التفكير الثنائي والجذري من قبيل "إن لم تكن في صفي فأنت عدوي"، أو كما يُسمَّى بالإنجليزية (All or Nothing)، الذي يصنف الناس دائما إلى أخيار وأشرار فقط. إذ إن الطيبين قد يُخطئون والأشرار قد يصيبون، والناس في العموم يصيبون ويخطئون دون أن يجعلهم فعل واحد من أفعالهم طيبين أو أشرارا في المُطلق. ولكل إنسان دوافعه ومنطلقاته العميقة، ولهذا فنحن بحاجة إلى الاختلاف السياسي، وبحاجة إلى أن نحكم على القضايا بأخذ جميع وجهات النظر في الاعتبار لأنها مهمة وتُشكِّل جزءا من الإرث البشري الذي دفع بحضارتنا إلى التمدن والتقدم.

في النهاية هل تريد أن تعرف وتُحلِّل توجهاتك السياسية؟ لِمَ لا تُجري هذا الاختبار العلمي الذي طوره باحثون في علم النفس الأخلاقي، على الرابط هنا.

___________________________

المصادر:

  1.  Where Did the Terms ‘Left Wing’ and ‘Right Wing’ Come From?
  2.  Haidt, J. (2012). The righteous mind: Why good people are divided by politics and religion?. Pantheon Books.
  3.  Pinker, S. (2002). The Blank Slate: The Modern Denial of Human Nature. New York [etc.]: Penguin Books.
  4.  Empirical Science for the Spotless Mind. (2020). Retrieved 21 November 2020 
  5.  2004-2005 William James Fellow Award. (2020). Retrieved 21 November 2020, from
  6.  Kiley Hamlin, J., Wynn, K., & Bloom, P. (2010). Three-month-olds show a negativity bias in their social evaluations. Developmental Science, 13(6), 923-929. doi: 10.1111/j.1467-7687.2010.00951.x
  7.  Bloom, P. (2014). Just Babies: The Origins of Good and Evil. Broadway Books.
  8.  Graham, J., Haidt, J., Koleva, S., Motyl, M., Iyer, R., Wojcik, S., & Ditto, P. (2013). Moral Foundations Theory. Advances In Experimental Social Psychology, 55-130. doi: 10.1016/b978-0-12-407236-7.00002-4
  9. المصدر السابق
  10.  Haidt, J., & Graham, J. (2007). When Morality Opposes Justice: Conservatives Have Moral Intuitions that Liberals may not Recognize. Social Justice Research, 20(1), 98-116. doi: 10.1007/s11211-007-0034-z
  11.  Dodd, M., Balzer, A. (2012) The political left rolls with the good and the political right confronts the bad: connecting physiology and cognition to preferences. doi: 10.1098/rstb.2011.0268
  12.  Yoel Inbar, David A. Pizarro & Paul Bloom (2009) Conservatives are more easily disgusted than liberals, Cognition and Emotion, 23:4, 714-725, DOI: 10.1080/02699930802110007
  13.  Schwabe, I., Jonker, W., & van den Berg, S. M. (2016). Genes, Culture and Conservatism-A Psychometric-Genetic Approach. Behavior genetics, 46(4), 516–528. https://doi.org/10.1007/s10519-015-9768-9
  14.  Verhulst, B., Eaves, L. J., & Hatemi, P. K. (2012). Correlation not causation: the relationship between personality traits and political ideologies. American journal of political science, 56(1), 34–51. https://doi.org/10.1111/j.1540-5907.2011.00568.x
  15.  Boyle, G., Matthews, G., & Saklofske, D. (2008). The SAGE handbook of personality theory and assessment. Los Angeles [Calif.]: SAGE.
  16. The Secret Lives of Liberals and Conservatives: Personality Profiles, Interaction Styles, and the Things They Leave Behind
  17.  GERBER, A., HUBER, G., DOHERTY, D., DOWLING, C., & HA, S. (2010). Personality and Political Attitudes: Relationships across Issue Domains and Political Contexts. The American Political Science Review, 104(1), 111-133. doi:10.2307/27798542
  18.  Hirsh JB, DeYoung CG, Xiaowen Xu, Peterson JB. Compassionate liberals and polite conservatives: associations of agreeableness with political ideology and moral values. Pers Soc Psychol Bull. 2010 May;36(5):655-64. doi: 10.1177/0146167210366854. Epub 2010 Apr 6. PMID: 20371797.
  19.  Joseph Marks, Eloise Copland, Eleanor Loh, Cass R. Sunstein, Tali Sharot. Epistemic spillovers: Learning others’ political views reduces the ability to assess and use their expertise in nonpolitical domains,Cognition, Volume 188, 2019, Pages 74-84. doi: 10.1016/j.cognition.2018.10.003
  20.  Greene, J. (2013). Moral Tribes: Emotion, Reason, and the Gap Between Us and Them. New York: Brilliance Audio.
المصدر : الجزيرة