شعار قسم ميدان

هل يجب على التصوير الصحفي احترام حرمة الموت؟

ميدان - الصحافة والحرب صحفي جنود تصوير

اضغط للاستماع

  

"التصوير الفوتوغرافي في جوهره هو فعل اللاتدخل، بالتالي فإن المصور في الأوضاع التي كان يتحتم عليه فيها الاختيار بين الحياة أو الصورة الفوتوغرافية، اختار الصورة". (1)

   

في مساحة من الأرض الجرداء، تغطيها سنابل القمح الميتة بصفار منفر، يقبع كائن صغير ذو ذراعين وساقين في هشاشة القش، منغلق على نفسه لا يقوى على النهوض، خلفه ينتظر نسر جارح متأهب، يجهز نفسه للحظة خروج روح هذا الكائن ليوفر له وجبة ربما لا تكون مشبعة كفاية نظرا لقلة اللحم الذي يكسو عظامه.

  

تبدو تلك صورة مألوفة جدا، تم تداولها مئات المرات على شبكات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، غالبا للتعبير عن وضع أطفال أفريقيا البائس والمجاعات الوحشية التي يتعرضون لها يوميا، التقط تلك الصورة الشهيرة المصور الجنوب أفريقي كيفن كارتر عام 1993، أثناء تغطيته للمجاعة في جنوب السودان، عندما نُشرت في جريدة النيويورك تايمز قوبلت بسيل من المديح يقابله سيل أكبر من النقد والاستهجان؛ "لماذا لم تساعد الطفل؟ ما الذي يعطيك الحق في تصوير مشهد جنائزي كذلك دون احترام أي خصوصية؟ هل نجا الطفل من براثن النسر؟".

    undefined

  

في البداية صرح كارتر أنه التقط الصورة سريعا ثم أبعد النسر عن الطفل الصغير، بعدها اعترف أنه انتظر أن يقترب النسر أكثر فأكثر لكي يتسنى له التقاط الصورة المثالية، بل إنه كان يأمل أن يفرد جناحيه للقطة أكثر درامية، لكن عندما لم يحدث ذلك سارع بإبعاده، فاز كارتر بجائزة البولتيزر المرموقة عن تلك الصورة، وأصبحت من أكثر الصور الفوتوغرافية شهرة على الإطلاق، لكن هذا لم يكن ليسعده، فأزهق كارتر روحه بالسم بعد أربعة أشهر من فوزه، لم يتحمل ما اختبره ولا ما رآه، بالإضافة إلى صراعه الطويل مع الاكتئاب الحاد. (2)

   

يمكننا من خلال تلك القصة المأساوية متعددة الطبقات إلقاء نظرة على فكرة التصوير الصحفي وأخلاقياته؛ هل هو اختراق للخصوصية؟ وهل الأولوية لإنقاذ الحياة أم حفظ اللقطة للأبدية؟ هل يجب حفظ حرمة الموت، أم أن المهنية تأتي فوق ذلك؟

   

كيف بدأ التصوير الصحفي؟

في عام 1848 ثار عمال فرنسا لمدة ثلاثة أيام كرد فعل على قرار إغلاق الورش المحلية، بالطبع لم تمر تلك التظاهرات بسلام، تصدى لها الأمن القومي بقيادة الجنرال لوي يوجين كافيناك، أسفر ذلك عن أكثر من عشرة آلاف من القتلى والجرحى، انتهت تلك المجزرة المروعة بالإطاحة بذلك الجنرال وانتصار الليبراليين على الجمهوريين. وثقت هذا اليوم أول صورة فوتوغرافية منشورة في جريدة مطبوعة، لم توثق القتلى أو الجرحى، لكنها سجلت صورة لما قبل الهجوم، لموقع الحدث في سكون يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة.

     undefined

   

بعد ذلك بنحو عشر سنوات، قامت حرب القرم بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية، تولى توثيقها وتسجيل أحداثها المصور البريطاني روجر فينتون، وهو من يمكن اعتباره أول مصور حرب رسمي، شمل توثيقه صورا لأماكن وقوع الأحداث، وتأثير الحرب على الجنود، وصورا شخصية لقادة الجيوش. لم تنخرط الصورة بعد في ميادين المعارك أو تقترب من الأشلاء والدماء كما نرى الآن، لثقل المعدات وتعقيد عملية تحضير الصور، فلم تكن إشكالية حرمة الموت وطبيعة الصورة وتأثيرها النفسي بالحضور نفسه الذي يفرضه علينا الحاضر. (3)

  

هل يسجل المصور الحدث أم يمنع حدوثه؟

"الشخص الذي يتدخل لا يمكنه التسجيل، والشخص الذي يسجل لا يمكنه التدخل" (4)

  
يمكن وصف التصوير الصحفي أو تصوير الشارع بأنه التقاط صور للحقيقة المجردة دون التدخل أو التعديل، بهدف إيصالها لمجموعة أكبر من الناس، لذلك يجب على المصور أن يكون مشاهدا محايدا، يكاد يكون غير مرئي، يوثق الواقع وكأنه ليس جزءا منه، لا يسأل المصور العنصر الذي سيتم تصويره عن إذنه، لأن هذا يعني وعي العنصر بوجود الكاميرا ومن ثم تغيير الواقع.

  

يرى المصور الصحفي سباستيان جاكوبيتز أن المصور غير مسؤول عن معاناة العنصر الذي صوّره، حيث تتمثّل وظيفته في أن يوثّقها، وإذا كان بوسعه منع المأساة فيمكنه التدخل، لكنه بشكل عام لا يمكن أن ينقذ كل الحيوات التي يخلّد صورها، ولا أن يطعم كل أطفال المجاعة أو يداوي جميع جرحى الحرب، بل مهمته أن ينقل للعالم واقعَ حدوث ذلك، فيتحرك من هو مسؤول عن الواقع الذي تم تسجيله ويؤدي دوره.

     undefined

   

يدلل جاكوبيتز على ذلك ببعض الأمثلة التي حرّكت المجتمع باتجاه فهم أعمق لبعض القضايا التي يتم التعتيم عليها أو إغفالها عمدا، من ضمن تلك الأمثلة الصورة المروعة التي التُقطت للطفل السوري الذي نجا بالكاد من حطام طائرة، يجلس دون حراك كتمثال من الرخام يغطيه الرماد والدم، بعد انتشار تلك الصورة على نطاق واسع، التفت العالم للمأساة التي يتعرض لها سكان سوريا وخاصة الأطفال، أصبح العوام على دراية بما يحدث لأكثر من مئة ألف إنسان، وأصبح الوضع مفضوحا أمام من كانوا يغطون أعينهم لكي لا يروا الحقيقة. (5)

   

وبسبب حساسية أخلاقيات الفوتوغرافية، تتناقض الآراء خاصة فيما يتصل بقيمة الصورة المعلوماتية والإخبارية، إذ ترى الدكتورة باتريس كيتس، أخصائية علم النفس، أن وضع صور ذات طابع عنيف هو بمنزلة تقديم المصلحة الإخبارية ورفع نسبة قراءات الصحف وتصفح المواقع الإلكترونية على صحة أهالي الضحايا النفسية، وتدلل على ذلك بحادث وقع في أميركا عام 2000، حيث اختفت طفلة لمدة طويلة، وحين عُثر عليها كانت جثمانا طافيا على سطح بحيرة، التقطت الطائرات التابعة لفريق الإنقاذ صورا لها، ونُشرت في إحدى الصحف. ترى دكتورة كيتس هنا أن رؤية تلك الصورة سوف تنكأ جرحا موجودا بالفعل داخل ذوي الطفلة، ويضاعف صدمتهم، وتسبب ضررا أكبر من تقديمها المصلحة العامة، فالهدف الأسمى هو المعرفة الجمعية للتوعية وطمأنة العامة، بالإضافة إلى تقليص الضرر إلى حده الأدنى على العائلات المتضررة وعلى الناس بشكل عام. (6)

   

"الكاميرا لا تغتصب، ولا حتى تتملك، بالرغم من أنها قد تتجرأ، تتطفل، تنتهك، تربك، تستغل، وبتعبير مجازي للغاية: تغتال". (7)

   

undefined

   

رجل يقف على قضيب مترو الأنفاق مذعورا في انتظار الموت سحقا بعربة القطار، تغطي أجزاء من المشهد كتابة بخط عريض بكلمة "الموت المحتوم"، كانت تلك صورة غلاف أحد أعداد مجلة النيويورك بوست عام 2012، بالطبع قوبلت بهجوم شديد وتمت مقارنتها بصورة كارتر السالف ذكرها حيث ينتظر الطفل أن يؤكل بواسطة النسر، فالرجل يقف عديم الحيلة بانتظار القطار الذي يحمل خبر موته، لكن ملتقط الصورة يرى أنه لم يكن في مقدوره فعل شيء، وأن الموت هو المصير الوحيد للرجل، وأنه كان يسارع ممسكا بكاميراته مطلقا الفلاش السريع آملا أن يلفت نظر السائق فيتسبب في إبطائه.

  

لكن مع تعليلات المصور ومحاولاته ومحاولات الركاب والسائق ومصير الرجل المحتوم لم تتوقف الاعتراضات، فرأى الكثيرون أنه حتى وإذا فعل المصور كل ما بوسعه، فما فعلته الجريدة ليس أخلاقيا، وخاصة وضع الصورة دون خجل على صفحتها الرئيسية. (8)

  

وفي زمن تنتشر فيه مواقع التواصل، وتتنافس فيه المؤسسات الإعلامية للسبق الصحفي، تُطل علينا عدد من القضايا الأخلاقية التي تُركز على الإنسان، بما يحميه ويحفظ حقوقه، والتي يراها الكثيرون مسحوقة وسط هذا الاحتدام في عرض الصورة دون مراعاة لخصوصية الإنسان، بينما يراها آخرون، توثيقا للحظة التي يمكن أن يُدان بها الجاني. والتي تتطلب من العاملين بالمجال الصحفي أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة باستمرار، والتي تحدد الضوابط المهنية التي تحكم عمل الصحفي.

المصدر : الجزيرة