شعار قسم ميدان

المكياج للرجال.. هل بدأ عصر مساحيق التجميل للذكور؟

ميدان - المكياج للرجال.. هل بدأ عصر مساحيق التجميل للذكور؟
اضغط للاستماع

   

يرحب العارض كيم سونج هوان ذو الـ 16 عاما من كوريا الجنوبية بجمهوره عبر الكاميرا، ثم يستعرض متحمسا مجموعة مساحيق التجميل التي سيعلّم جمهوره كيفية استخدامها في حلقته. يبدأ سونج بفرك المرطب بين يديه، ويعطي للجمهور ابتسامة خفيفة عبر الكاميرا حالما يتوزع المرطب على كفي يديه، ثم يوزع المرطب على وجهه. تتنوع مساحيق التجميل أمام منضدة سونج: خافي العيوب (الكونسيلر) الذي يضعه تحت عينيه، البودرة لإكمال الإطلالة الشيقة، قلم الحواجب لرسم حواجبه بدقة، الكحل، مصحح لون البشرة، طلاء للشفاه، مسحوق الوجه، اختلاف شديد في الأنواع لكنها جميعا تشترك في أمر واحد: أنها كلها مخصصة للذكور فقط وليس للإناث.

 

ما رسالة سونج في مدونته الشخصية هذه؟ يقول سونج: "عندما كنت في مرحلة المراهقة بدأت البثور تظهر على وجهي، عندها بدأت بالتعرف على مستحضرات التجميل فاقتنيت كريم أساس ومصححا للعيوب. أنا أشعر بثقة أكبر عندما أضع المكياج، وأريد تعليم الشباب هذا الأمر كذلك"[1].

 

في السنوات الأخيرة، تصاعدت موجة المكياج الرجالي بشكل يدعو للتأمل، حيث لم يعد تجميل الرجال مقتصرا على تصفيف الشعر أو وضع كريم مرطب، بل انتقلت كل المنتجات النسائية التجميلية إلى الذكور كذلك، وأصبحت ثمة ظاهرة تثير الانتباه، ألا وهي ظاهرة مدونات المكياج الذكورية (Male Beauty Vlogs). فكيف حدث هذا التحول إذن؟ وكيف تقبلت المجتمعات هذا اللون الجديد من التجميل؟! وما مستقبل هذه الظاهرة؟!

   

  

صعود السوق العالمي

في 2017م صرح فيسماي شارما، مدير شركة "L’Oreal" العملاقة ببريطانيا، في مقابلة مع صحيفة التلغراف (The Telegraph) بأنه "هناك اليوم فئة قليلة من الذكور الذين يرغبون في استخدام منتجات المكياج، لكن هذه الفئة تنمو بصورة مطّردة. أعتقد أن هذا مجرد وعي، الذكور حاليا يعلمون أنهم بإمكانهم أن يستخدموا المكياج، فالتابوهات الاجتماعية تندثر بالفعل".

 

استكمل شارما قائلا: "منذ خمس سنوات مضت، كان التفكير في الرجال وهم يضعون المكياج لا يتعدى الكحل أو الخضاب، لكن في يومنا هذا لا يحتاج إلى أن يكون كذلك، ويمكن للذَّكَر أن يستخدم كافة المنتجات التجميلية". ثم ختم كلامه متنبئا بأن المتاجر الكبرى ومتاجر الأدوية أمامها من 5 إلى 7 سنوات كي يتم تعميم المنتجات التجميلية للذكور فيها، مبشرا: "جيل السِّلفي لا يعرف التابوهات"[2].

  

جاري تومبسون: من أشهر مدوني الجمال الذكور (male beauty vloggers) في بريطانيا (مواقع التواصل)
جاري تومبسون: من أشهر مدوني الجمال الذكور (male beauty vloggers) في بريطانيا (مواقع التواصل)

   

تحققت نبوءة شارما بالفعل، لكن في وقت أقصر مما توقع بكثير، ففي سبتمبر/أيلول 2018م، أطلقت شركة "شانيل" (Chanel) بدورها خطا إنتاجيا خاصا بالذكور لمساحيق التجميل، وأصدرت بيانا حينئذ ذكرت فيه أنها "تسعى إلى كتابة مفردات جديدة لعالم الجمال الخاص بالرجال. الخطوط والألوان والاتجاهات والحركات، لا يوجد شرط أنثوي أو ذكوري مطلقا، فـ "الستايل" (Style) وحده هو ما يحدد رغبة المرء في أن يعرّف نفسه من خلاله"[3]. وقبل تدشين "شانيل" (Chanel) لخط إنتاج خاص للذكور، سبقتها "أنستازيا بيفرلي هيلز" (Anastasia Beverly Hills) بعرض صور لعارضين ذكور يضعون المكياج على صفحة الشركة الخاصة على موقع إنستغرام في 2016م، كما قامت شركتا "توم فورد" (Tom Ford) و"مارك جايكوبس" (Marc Jacobs) بإطلاق خطوط إنتاج خاصة لمكياج الذكور كذلك في عام 2017م[4].

  

كيف بدأ المكياج للرجال؟!

بدأت الحكاية الحديثة في نوفمبر/تشرين الثاني 1994م عندما صاغ الكاتب البريطاني مارك سيمبسون مصطلح "ميتروسيكشوال" (Metrosexual) الذي دمج فيه بين مصطلحي "Metropolitan" أي مواطن قاطن بمدينة كبرى و"Heterosexual" أي غيريّ التوجه الجنسي. وعرّف سيمبسون مصطلح "ميتروسيكشوال" (Metrosexual) بأنه: "الشاب الأعزب الذي لديه دخل كبير، يقيم أو يعمل في المدينة (حيث أفضل المجمعات التجارية) وهو ربما أفضل مستهلك بالسوق في هذا العقد. في الثمانينيات كان الشاب المتروسيكشيوال في مجلات الأزياء مثل "GQ" أو في إعلانات التلفزيون لشركة "Levi" للجينز أو في حانات الشواذ جنسيا. أما في التسعينيات فهو في كل مكان وهو يتسوق"[5].

 

كان استخدام النجوم السينمائيين والمشاهير للمكياج في القرن المنصرم شيئا استثنائيا غير مألوف، وربما لم يتعدّ في الغالب موضة نجوم الروك (Rock) الذين أكثروا من استخدام كحل العينين في حفلاتهم وظهورهم الجماهيري. لكن اتخذ اتجاه الميتروسيكشوال (Metrosexuality) في التصاعد بين الشباب، حتى بلغ منحى متطرفا في أيامنا هذه، فقد تعدى الأمر مجرد حُبّ بعض الشباب للتسوق والموضة، ووصل إلى محو مفهوم الذكورة تماما عندما يأتي الأمر للمكياج.

 

فحتى وقت قريب كان معروفا أن الذكور لا يصححون العيوب أو المشاكل في وجوههم ولا يضعون المكياج البتة إلا في حالات استثنائية، وهو أمر تاريخي مستقر بطبيعة الحال، حتى إنه في عام 2016م ظهر اتجاه (تريند) على موقع إنستغرام لدى الفتيات عبر مدونات المكياج يُسمى "Boy Beat"، عملت فيه الفتيات على تصوير أنفسهن بأقل قدر ممكن من المكياج، بل تعمدن فيه ظهور بعض الهالات السوداء أو حب الشباب أو الاختلاف الواضح في ألوان الوجه، قائلين بأن هذا هو شكل الأولاد الطبيعي الذي يناقض صور الجمال الكاملة في مواقع التواصل[6].

  

المدونة
المدونة "laueren elyse" وهي تضع "عيوب" مصطنعة بأدوات المكياج في إحدى صورها تماشيا مع تريند [7]"boy beat" (مواقع التواصل )

    

بوادر الأرباح تلوح في الأفق

"صناعة مستحضرات التجميل، الصناعة كلها، تحتاج إلى مزيد من الرجال في المكياج"

(أمير أكروتي، متحدث المكياج الذكر الرسمي لمتاجر "Åhléns" السويدية)

 

تصاعدت ظاهرة الميتروسيشكوال (Metrosexuals) بشكل سريع، وبدلا من الاكتفاء بالظهور بشكل جيد، تمددت الظاهرة لتشمل إقبال الشباب الذكور على مسايرة الموضة ومعايير الجمال الحديثة بشكل حرفي. فقد كشفت دراسة أُجريت عام 2010م على 1800 رجل بريطاني أشرف عليها مركز "Opinium" لدراسات السوق أن 25% من الذكور البريطانيين يستخدمون المكياج قبل الذهاب إلى عملهم، وأن أكثر المنتجات رواجا بين الذكور هي صبغات الشعر وكريم العين ومرطبات إزالة التجاعيد والـ "Eye liners"[8].

 

لاحت بوادر تنشيط سوق التجميل للرجال في الأفق، ولم يفوّت عالم التجارة والشركات الكبرى الفرصة، فقد استغلوها بهدف صناعة الاحتياج وتغطيته لدى المستهلكين من أجل زيادة أرباحهم وتوسيع قاعدة مستخدميهم، وانطلقت سيول الإعلانات والمدونات والحملات التسويقية التي تبشر بعهد جديد للذكور، وهو الأمر الذي أحدث مردودا بالفعل. فقد أوردت صحيفة الإندبندنت (The Independent) البريطانية تقريرا ذكرت فيه أن العام 2015م قد شهد صعودا في صناعة التجميل للذكور بنسبة 300%، كما ذكر التقرير أن الصناعة بدأت تزدهر في البلدان التالية: البرازيل، بريطانيا، ألمانيا، الولايات المتحدة، كوريا الجنوبية، الهند، الصين[9].

 

لكن، دائما ما واجهت شركات التجميل تحديا ضخما في إيجاد سوق لمنتجاتها عند الرجال، وسبب ذلك عائد لما يصفونه بـ "التابو" الرافض لاستخدام الذكور للمكياج، ليلجأ عدد من الشركات لتغيير اسم منتجاتها تماشيا مع التوجه الرافض لأنثنة المكياج، فمثلا أصبح الـ "Eyeliner" يُسمى بـ "Guyliner"، وصار الـ "Mascara" يُعرف بـ "Manscara". كما انتهجت بعض الشركات نهجا آخر، مركِّزة على إصلاح ما أسمته "مشاكل الجلد" لدى الرجال، مثل العيون المرهقة والذقون غير المكتملة[10]. إلا أن إحدى أكبر وسائل التأثير على الإطلاق والتي استطاعت الشركات أن تخترق بواسطتها سوق الرجال بسهولة شديدة تمثّلت في رعاية وتسويق مدونات المكياج الذكورية (Male Makeup Vlogs).

  

نجم الكرة الشهير، ديفيد بيكهام، يظهر على غلاف مجلة
نجم الكرة الشهير، ديفيد بيكهام، يظهر على غلاف مجلة "love" في يناير/كانون الثاني 2019م، وهو يضع مكياجا للعين (مواقع التواصل)

   

مدونات المكياج الذكورية

"شجاعة الذكور في استخدام مساحيق التجميل سوف تقوم بانقلاب في سوق مستحضرات التجميل!"

(جيك جيمي وورد، مدون لمكياج الذكور[11])

 

يطل المدون ذو الـ25 عاما جيمس تشارلز في أحد فيديوهاته على جمهوره وهو يغمز بعينيه الملونتين إلى الكاميرا، يضع تشارلز مكياجا ورديا على عينه، ويعلّم جمهوره كيف يضع المكياج وهو يحرك يديه بنعومة انسيابية، مقلّما أظافره الطويلة كما تقلمها الفتيات المزينة بالبريق "Glitter"، ومؤدّيا حركات ومطلقا ضحكات أنثوية صرفة. يشير تشارلز إلى جمهوره بمصطلح "Sisters" ويدعوهم بشغف إلى الانضمام لجماعته النسائية (كما يسميها Sisterhood)، بصوته الرقيق الذي يتنقل بين طبقاته بخفة وطلاقة ممتلئة بمفردات أنثوية.

    

   

أهلا بكم في عالم الشاب الأميركي جيمس تشارليز، أشهر مدون مكياج ذكر على الإطلاق، فرغم أن تشارلز بدأ نشاطه في 2015م، فإنه حقق صعودا صاروخيا مثيرا للانتباه: فقد وصل عدد متابعيه على موقع يوتيوب إلى 15 مليون متابع، وكذلك يتابعه 15 مليون شخص على موقع إنستغرام. بلغ تشارلز نجاحا غير مسبوق، إلى الحد الذي دفع شركة مستحضرات التجميل "كوفرجيرل" (CoverGirl) إلى التعاقد معه في عام 2016م ليصبح تشارلز أول متحدث ذكر للشركة[12]. ومن المفارقات أن تشارلز يعرّف نفسه بأنه شاذ جنسيا بشكل صريح، وهو أمر خارج سياق المكياج وتعليمه، لكن رغم ذلك فقد حصل الفيديو الذي صرح فيه بتوجهه الجنسي وحده على 5 ملايين مشاهدة[13].

 

يأتي ماني جوتيريز المعروف بـ "Manny Mua" في مرتبة تالية لمرتبة تشارلز من حيث الانتشار، فهو يمتلك قاعدة واسعة من المتابعين، بدأ في مخاطبتها والتدوين لها منذ العام 2014م، وفي غضون سنوات قليلة حقق جوتيريز انتشارا لافتا: 5 ملايين متابع على إنستغرام، 5 ملايين متابع على يوتيوب، و5 ملايين متابع على فيسبوك. وكمثيله جيمس تشارلز، يعرّف جوتيريز نفسه أنه شاذ جنسيا، وقد رعته شركة "مايبيلين" (Maybelline) التابعة لشركة "لوريال" (L’Oreal) في يناير/كانون الثاني 2019م كأول متحدث ذكر للشركة كسابقتها "كوفرجيرل" (CoverGirl)[14].

  

تشمل قائمة مدوني المكياج الذكور أسماء أخرى: جيفري ستار، باتريك ستار، بريتمان روك، جيك ووردن، واين جوس، وغيرهم ممن يملكون ملايين المتابعين على يوتيوب، ويقدمون طرقا للمشاهدين ووسائل تعينهم على الاهتمام ببشرتهم وجمالهم وشكلهم.

    

    

تأثير اليوتيوب.. تجاري أم ثقافي؟!

ثمة ضخامة يمكن ملاحظتها في عدد المتابعين على مدونات مكياج الذكور، كما أن شركات المكياج تتسابق على رعاية هؤلاء المدونين (Vloggers) من أجل ترويج منتجاتها، الأمر الذي يعطي انطباعا أوليا بالتأثير الكاسح لهؤلاء المدونين، لكن يبدو أن الحقيقة تخالف الظاهر، حيث أجرى موقع "Global Web Index" دراسة ركزت على أسباب مشاهدة المستهلكين لمدونات المكياج، وشككت في مستويات تأثير هذه المدونات في التسويق لمنتجات المكياج للرجال في الحقيقة.

  

استنتجت الدراسة عبر مسح شمل 170,000 مشاهد لمدونات المكياج أن السبب الأول لمشاهدة الفيديوهات والصور هو غرض ترفيهي للتسلية وتمضية بعض الوقت اللطيف فحسب لا لشراء المنتجات والتعرف على العلامات التجارية (البراندات) الجديدة. وكانت النسبة الأصغر، نحو 12% فقط، من المشاهدين هم ممن يتابعون هذه المدونات كي يكتشفوا المنتجات والموضات الجديدة[15]. وذكرت الدراسة أن هذه المدونات "من الواضح أنها ما زالت مرتبطة بالترفيه والكوميديا والنصائح الاجتماعية، لكنها أبعد ما تكون عن التسويق والأنشطة التجارية"، مما يشير إلى عدم تناسب فاعلية هذه المدونات تجاريا بالمقارنة مع عدد المتابعين.

  

ربما إذن تفشل هذه المدونات في تحقيق الهدف التسويقي التجاري لها بالفعل، لكنها نجحت في تغيير الذوق العام، كما لعبت دورا في إعادة رسم المشهد الثقافي في المجتمعات الغربية. حيث أشارت الدراسة إلى أن "التأثير الثقافي لهذه المدونات يتفوق على تأثيرها التجاري". وبالفعل أصبحت مسألة المكياج عند كثير من رواد مواقع التواصل مسألة لا علاقة لها بالنوع أو بالجنس، وصار المكياج مقبولا للرجال كما هو للنساء.

    

صورة تجمع ثلاثة من مدوني المكياج الذكور، من اليمين إلى اليسار: ماني جويتيرز، بريتمان روك، باتريك ستار. (مواقع التواصل الاجتماعي)
صورة تجمع ثلاثة من مدوني المكياج الذكور، من اليمين إلى اليسار: ماني جويتيرز، بريتمان روك، باتريك ستار. (مواقع التواصل الاجتماعي)

   

في هذا الإطار تأتي دراسة جامعة لوند السويدية لتؤكد ذات الأمر: مدونو اليوتيوب هم من أكثر الناس تأثيرا على الإطلاق في عصرنا الحديث، لا سيما لدى الأجيال الصغيرة ومواليد الألفينيات. وبحسب الدراسة، فقد ساهمت هذه المدونات "في إحداث تحول ثقافي كبير في الموضة ومعايير الجمال، وبناء تصورات جديدة للجنس والنوع الاجتماعي (Gender)"[16].

   

المكياج وتغيير معاني الذكورية 

تستكمل الدراسة تحليلها لأنماط سلوك هؤلاء المدونين، وتذكر أن أحد أبرز آثار مكياج الذكور هو أنا مفاهيم الذكورة والأنوثة يتم تهجينها معا مما يزيل الفوارق بين الجنسين ويؤدي إلى سيولة في مفهوم النوع الاجتماعي (Gender). وطبقا للدراسة، فإن مدوني مكياج الذكور يخلطون -عن عمد- بين مفهومي الذكورة والأنوثة دائما خلال خطابهم لجمهورهم، ويستخدمون ضمائر "هو" و"هي" عندما يسمّون المكياج، وضمائر "أنتم" و"أنتن" حين يوجهون كلامهم إلى الجمهور، ويعزون إلى أنفسهم مستخدمين ضمائر ذكورية حينا وضمائر أنثوية حينا آخر. واستخلصت الدراسة أن هذا النمط الهجين لا يجعل الأنوثة أكثر ذكورية وإنما يجعل الذكورة "أكثر أنثوية"[17].

  

وفي دراسة مشابهة، نشرت جامعة كروس الجنوبية بأستراليا دراسة بعنوان "صورة الذكر، والذكورة، وسلوك المستهلكين المرتبطة بمستحضرات التجميل" عام 2017م، طرحت فيها إشكالية الاتجاه المتصاعد لدى الذكور في استخدام مستحضرات التجميل. وأشارت الدراسة إلى أن الذكور أصبح لديهم اهتمام متزايد للاهتمام بشكلهم وجمالهم الشخصي تماما كما هو الحال عند النساء، وصار الذكور مستهلكين أساسيين لمستحضرات التجميل والعناية الشخصية.

  

وذكرت الدراسة أن أحد المجتمعات موضوع الدراسة، وهو المجتمع التايلاندي، لم يصبح أكثر تسامحا وقبولا تجاه استهلاك الذكور للمكياج فحسب، بل أصبح ثمة اتجاه متصاعد داخل المناطق الحضرية للاهتمام باستهلاك المكياج، لدرجة أن بعض الشباب قالوا: "استخدامنا للمكياج لا يقل أهمية عن استخدامنا للأمور الضرورية في الحياة"[18].

  

    

الاهتمام يتصاعد إذن، عالميا. لقد خاض الصحفي سام وولفسان تجربة مساحيق الذكور في مغامرة صحفية لسبر أغوار التغيرات التي يحدثها المكياج لدى الذكور، وبالفعل تغير شكله بعض الشيء، لكنه لم يشعر بشيء مميز، وما لفت نظره في الحقيقة هو أن مكياجه تضمن استخدام 11 منتجا مختلفا للعديد من الشركات[19]. لماذا تفوّت شركات التجميل إذن هذه الفرصة الذهبية لتدشين خطوط إنتاج جديدة دون أن يشغلوا آلة التسويق لهذه المنتجات استثمارا لهذه الفرص؟

  

نظرة على المستقبل

لا تزال مساحيق التجميل الذكورية تُشكّل أقل من 1% من سوق التجميل العالمي الذي تبلغ قيمته 465 مليار دولار، رغم أن 15% من الذكور في بريطانيا تحت سن 45 عاما قد استهلكوا منتجات المكياج في 2016 على الأقل مرة واحدة خلال العام[20]. لكن بعض التقديرات تقول إن سوق مستحضرات التجميل للذكور سيزداد بقيمة 46 مليار دولار خلال أربع السنوات القادمة[21].

  

ربما نستشرف مستقبل المكياج عبر تجربة المدون البريطاني آلكس دالي. فقد كان دالي يعتقد أن شركته "MMUK" التي أسسها في عام 2011م لمكياج الذكور ستكون شركة صغيرة تحتمل فشلا كبيرا، لكن المفاجأة هي أنه في غضون سنوات قليلة، تفوقت شركة دالي الناشئة على كافة التحليلات، واجتذبت قطاعات كبيرة من الرجال لشراء منتجاتها، حتى بلغت الشركة (المكياج للرجال ببريطانيا "MMUK") شهرة شركة "شانيل" (Chanel)، ثم تخصصت منذ 2016م في إنتاج المكياج للرجال بشكل حصري، ووصلت سريعا إلى قمة الهرم في مجال أعمالها، فبلغت أرباحها السنوية مليون يورو سنويا عبر أنحاء أوروبا[22].

   

شركة المكياج للرجال ببريطانيا
شركة المكياج للرجال ببريطانيا "mmuk" (مواقع التواصل)

  

يحكي دالي: "عندما بدأت شركتي الصغيرة كنت أظن أنها ستجتذب قطاع الشواذ جنسيا فقط، وبدأت بالفعل في التسويق لمنتجاتي في هذا القطاع من المستهلكين فقط. ولكني سرعان ما اكتشفت أن الشواذ جنسيا لا يمثلون إلا 25% فقط من إجمالي المستهلكين لمنتجات الشركة"[23].

 

لكن السؤال المطروح، هل سيتجه الذكور بالفعل إلى تطبيع استخدام المكياج في العالم؟ يقول جلين جانكوفسكي، المحاضر بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة بيكيت في ليدز: "لقد تعلم الرجال ذلك. ورغم الحديث كثيرا عن إنفاق الرجال للكثير من الأموال والوقت في التسوق من أجل تحسين مظهرهم، فإن الرجل بصفة عامة لا يزال يعتقد أن مستحضرات التجميل تتعلق بالنساء فقط. وبتحليل الدمى والألعاب التي يجري تسويقها للأطفال الذكور نجد أنها تركز على القوة والشجاعة وعدم الاهتمام كثيرا بالمظهر. أما بالنسبة للفتيات فيكون التركيز على الجمال"[24].

 

أما أستاذة علم الاجتماع بكلية أوكسيدنتال بولاية كاليفورنيا الأميركية، فتقول إن سؤال المكياج للذكور "ليس سؤالا عن النوع وإنما هو سؤال عن الرأسمالية.. فالرأسمالية في يومنا هذا تتغذى على شعورنا بالنقص وعدم الكمال، وإحساسنا بعدم الرضا عن أنفسنا، وهذا يعطي فرصة للشركات الكبرى لتوسيع قاعدة مستهلكيها، فالشركات التي تبيع المكياج يمكنها أن تجني ضعف الأرباح إذا أقنعت الرجال بإمكانية استهلاك منتجاتهم.. وعليه فكلما شعر الذكور بعدم ارتياح تجاه شكلهم، اتجهوا إلى شراء مستحضرات التجميل والمكياج، وازدادت الشركات ربحا وثراء"[25].

 

يبدو إذن مستقبل المكياج قلقا، تختفي فيه الفروق بين الرجال والنساء، وتتهدم خلاله البنى الاجتماعية التاريخية التي عرفها الإنسان طيلة عمره، في مقابل تدشين مفاهيم أكثر سيولة للجنس والنوع الاجتماعي. فمن ظاهرة الميتروسيكشوال إلى مدونات مكياج الذكور إلى النسوية الإقصائية، يتعرض الفرد لصور ذهنية هجينة تؤنث الذكور وتذكر الإناث. العالم إذن يتجه لتحقيق المساواة بالفعل، لكنها ليست المساواة التي كنا نتخيلها، أو بتعبير الناشطة النسوية الأميركية جين كيلبورن: "لم تكن هذه المساواة بين الجنسين التي كنا نطالب بها"[26].

المصدر : الجزيرة