برهان غليون.. سنوات من البحث في مأزق الواقع العربي
في العديد من إسهاماته الفكرية وجّه غليون انتقادات لاذعة للنخبة العربية لتعاليها عن الواقع العربي وقطيعتها مع مجتمعاتها المحلية، مشدداً على أن هذه القطيعة تعد واحدة من أهم جذور الاستبداد العربي الراهن، وقد كانت إسهامات غليون الفكرية -كما مواقفه المبدئية- دائماً مساندة للشعوب العربية ومطالبها العادلة في الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
يحاول هذا التقرير الاقتراب من بعض القضايا والمسائل التي قام بمعالجتها أحد أبرز علماء الاجتماع العرب الدكتور برهان غليون، ولا يطمح هذا التقرير إلّا أن يثير الاهتمام بمشروع غليون الفكري لما له من أهمية قصوى في واقعنا المعاصر الذي ما زالت أزماته الرئيسة تتفاعل وتتوالد منذ عقود، ما يحتّم علينا الاطلاع على أهم المعالجات الفكرية والاجتماعية للواقع العربي المعاصر.
وقد أفاد غليون في هذا الكتاب من خلفيته في علم الاجتماع لينقل السجال من المجال الفكري والأيديولوجي الذي كان يسم أغلب المداولات الفكرية آنذاك إلى المجال الاجتماعي والواقعي، مستخدماً أدوات تحليل اجتماعية تبدو فيها السمة الماركسية بوضوح، بيد أنّه لم يختزل التحليل في الأفق الاقتصادي المادي؛ بل تعدّاه إلى دراسة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة وتبيان عوامل التأثر والتأثير المتبادل بينها، وصولاً إلى نقد النظام الاجتماعي برمّته، وإلى نقد النخب التي شكّلت أزماته، مع التشديد على استخدام التحليل الطبقي الذي يرى أن المجتمع ينقسم إلى نخبة ومجتمع مدني، أو إلى حاكم ومحكوم، كأساس نظري للتحليل، ولو كنا نستطيع وضع عنوان عام لمشروع غليون النقدي فسيكون "نقد النخب العربية".
يرى غليون أنّ ثمّة أزمة تشكّلت في العصر الحديث بين المجتمع المدني والسلطة السياسية التي وصلت إلى الحكم؛ حيث فشلت الدولة ونخبها المتعلّقة بها من الانتقال إلى الإطار السياسي الحديث، وقامت بمراكمة جميع أدوات القهر والاستغلال والاستعباد من أجل المحافظة على مصالحها الخاصة، وحوّلت هذه النخبُ الدولةَ إلى ملكية فردية وعسف لا ينتهي.
وقد عبّر غليون عن هذه الأزمة بحق في كتابه الذي يشير عنوانه إلى هذه المفارقة أيّما إشارة "المحنة العربية الدولة ضد الأمة"(3).
ويعارض غليون من هذا المنطلق النظريات التي تصنّف الدولة العربية باعتبارها دولة تقليدية أو حديثة، ويقيم العديد من التمايزات بينهما ونموذج الدولة العربية الذي يسميه "الدولة التحديثية"؛ وهي الدولة التي فشلت في الانتقال من الاجتماع السياسي السلطاني التقليدي إلى الاجتماع السياسي الحديث الذي تمثّله الدولة الحديثة في أوروبا أي دولة الحداثة ذاتها، نتيجة إخفاق المجتمعات ونخبها في استيعاب قيم الحداثة وتعديل بناها التقليدية لتتواءم مع النظام الجديد.
وقد أطلق غليون على هذا الإخفاق العام "ما تحت الحداثة" أو "حثالة الحداثة"، هذه الدولة التحديثية تميّزت بخصائص من أبرزها أنّها دولة السلطة المطلقة والمركزية الشديدة، وأنها دولة غير ديمقراطية ولا تمثيلية، وبالتالي دولة استبدادية بالضرورة.
لدى تتبعنا للأزمة سنكتشف أنّ جذورها لم تكن إلّا في التاريخ الحديث الذي شهد صعود الهيمنة الغربية في قلب المدنية العربية، وما أثاره هذا الصعود من مشكلات قادت إلى التفكك والتحلل الذاتي. |
يلحظ الدكتور برهان غليون في كتابه "اغتيال العقل" (5)، التعارض بين الفريقين؛ بين من يرى أن التراث هو سبب تأخرنا، ومن يرى أن التّراث بالضبط هو مصدر هويتنا التي ستشكّل ذاتنا في النهاية.
ويؤكد غليون أن هذا التناقض إنّما هو تناقض شكلي؛ إذ إنّ كلا الفريقين يتشاركان في المنهجية الفكرية السجالية؛ تلك المنهجية الأيديولوجية التي تُستخدم من أجل تبرير الموقع الحالي ومناكفة الخصوم المتخيّلين أو الواقعيين، والقفز عن الواقع الموضوعي وتضييعه، وكلاهما أيضاً "يجسّدان النهضة بقيم أو نماذج وأنماط وعي ثابتة متقابلة حديثة أو قديمة، دينية أو علمانية".
وبحسب غليون فإن هذا النقاش يسائل الثقافة العربية وينطلق من محل رفضها المبدئي؛ ليؤسس سرديته ونظرته بخصوص الأزمة وحلّها، لذا فإن غليون يعارض هذه المنهجية وهذا الرفض المبدئي ويشدد على اعتماد منهجية تاريخية تدرس النهضة وشروطها من أفق تاريخي يتجنّب إسقاط تجربة زمنية تاريخية على زمنية أخرى، ويدرس بالتالي الشروط الخاصة والظروف المحددة التي حكمت التجارب وميّزت الأمم والجماعات.
وفي هذا الصدد يأتي هذا الكتاب ليفسح المجال أمام الخروج من حالة الاستقطاب الشديد التي صبغت الوعي العربي، ويفتح الباب أمام محاولة تخطّي هذه الإشكالية من خلال تحليلها وتناولها بصورة تاريخية.
وتطبيقاً لمنهجيته التاريخية فإن غليون يلفت النظر إلى أهمية البحث عن مصدر هذه الثنائية وهذا الاستقطاب الذي حصل في الوعي العربي ذاته وعن أسبابها؛ إذ يرى غليون أن مصدر هذه الأزمة التي تضرب الوعي؛ أي أزمة الثقافة العربية ذاتها، تنبع من خارج هذه الثنائية، ومن خارج السجال القائم بين الأصالة والمعاصرة أو بين التراث والحداثة، أو من خارج الثقافة أيضاً.
ولدى تتبعنا للأزمة سنكتشف أنّ جذورها لم تكن إلّا في التاريخ الحديث الذي شهد صعود الهيمنة الغربية في قلب المدنية العربية، وما أثاره هذا الصعود من مشكلات قادت إلى التفكك والتحلل الذاتي؛ أي أن المشكلة ليست مشكلة ثقافية سجالية بقدر ما هي مشكلة واقعية وحضارية سبّبها هذا الاصطدام بين العالم الحديث الذي شيّدته أوروبا والعالم القديم الذي كانت المجتمعات العربية جزءاً منه.
ومنذ ذلك الوقت سيولّد هذا الصعود جميع الأسئلة والمشكلات التي نعرفها في الوقت الحالي، ومنه ومن خلاله يتوجّب دراسة ردود أفعالنا المختلفة التي قدّمناها للإجابة عن هذا السؤال، ورسم استراتيجية جديدة تتيح لنا الرد على هذا التهميش الحضاري الإكراهي المستمر منذ قرنين من الزّمان.
يميّز غليون بين نوعين من الثقافة السائدة عربياً؛ الثقافة الشعبية والثقافة العليا، على غرار كارل مانهايم(6)، ويؤكد غليون أنّ ثمّة حالة من التباعد بين ثقافة النخبة المحلية المغرّبة التي تحتكر الثقافة العليا الحديثة /أوروبية الطابع، وثقافة المجتمع المعاشة والتقليدية التي تتعرّض لعمليات التهميش المستمرة والمتزايدة من قبل النخب المسيطرة، وما سينجم عن ذلك من قطيعة دائمة بين النخب والشعب؛ الأمر الذي سيخنق الثقافة الشعبية ويدفعها إلى المزيد من التفكك والانحلال والانحطاط بسبب ابتعادها عن مصادر التجدد التي تحتكرها النخب لنفسها.
وستلعب الديمقراطية -وهي وسيلة للحفاظ على إرادة الشعب وحريّته- الدور الأبرز في هذا التحرر؛ أي أنّ الديمقراطية لن تكون سوى (أداة للحكم وتداول السلطة)، تخدم من خلالها تحرر الشعوب العربية ولا تصادرها، وتخلّصها من الأنظمة القمعية الوراثية والعسكرية التي كانت تدير المشهد بالكامل وتصادر إرادة المجتمعات الحقيقية نحو عالم عادل وحر كريم مفقود.