شعار قسم ميدان

زيف الحتمية الجينية.. ما الذي يحوّل البشر إلى مجرمين؟

كثيرا ما يُستدعى العنصر الجيني في مسائل جدلية معاصرة، وليس أقلها الاستعدادية الجينية للمثلية الجنسية. حيث يدّعي أنصار هذه الحتمية أن الإنسان محكوم بجيناته منذ لحظة الولادة، وبالتبعية فإن إمكانيات تغيير السلوكيات الإشكالية مسألة غير مضمونة. لكنّ آخر الأبحاث ومنها بحث عالمة السلوكيات تيري موفيت، يثبت أننا حتى وإن ولدنا بجينات تفضي لهذه السلوكيات فإنَّ مقدار التدخل المبكّر من البيئة يلعب دورا هائلا في عكس المسار.

 

نص الترجمة

مواقفنا من الجريمة والعقاب سياسية إلى حدٍّ كبير، وكثيرا ما تتعلّق بمدى إيماننا إن كان للظروف التي أحاطت حياة فلان أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تقرير ما إذا كانت عقوبته تتناسب مع الجريمة التي ارتكبها. لكن العدالة الجنائية ليست نطاقا خاليا من الأدلة، وقد أمضت تيري موفيت، العالمة السلوكية من جامعة كينغز كوليدج لندن، سيرتها المهنية وهي تحاول تعرية الجذور البيولوجية والبيئية للسلوك الإجرامي، وقد باتت الآن تمتلك دليلا من مسوح الدماغ وعلوم الجينات يدعم فكرتها القائلة إن ثمة فئتين من الأشخاص، عموما، ترتكب الجرائم، ولكل واحدة منهما مسببات مختلفة لسلوكها وإمكانيات متفاوتة للإصلاح.

 

  • نيوساينتست: كيف أثّر جدال التنشئة والطبيعة على الآراء المتعلقة بالسلوك الإجرامي؟ 

تيري موفيت: كان تفكيرنا في جذور السلوك المعادي للمجتمع يتتبع بوصلة تتذبذب بين الطبيعة وبين التنشئة كحجر زاوية. ففي كتاباته في القرن السابع عشر، شدّد الفيلسوف جون لوك على دور التربية، مجادلا بأننا نولد صحفا بيضاء ونكتسب سلوكياتنا كلها حتى السيئة منها. بينما في القرن التاسع عشر، أشار سيزار لومبروزو، مؤسس علم الجريمة، إلى أن الأشخاص المفسدين إنما يولدون على تلك الشاكلة، وأنَّ من الممكن تمييزهم من شكل العينين والأذنين والأسنان والحاجبين. وبحلول ستينيات القرن الماضي، بعد أن طوّر كلٌّ من جون واطسون وبي. إف. سكينر علم السلوكيات، عادت البوصلة مجددا لناحية التنشئة. ثم تغيّر كل شيء في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، واحتدمت النقاشات فعلا، إذ بدأ العلماء بالكتابة عن دراسات في الجريمة استندت إلى سجلات آلاف من التوائم والمتبنّين من إسكندنافيا، التي أشارت في الظاهر إلى توريث جيني للسلوك الإجراميّ من الوالدين للأبناء، وكان ذلك أشبه بسكب الزيت على النار الذي حوّل جدال التنشئة والطبيعة إلى جدال موحل. لكن تلك الدراسات أوضحت أيضا أن نصف المؤشرات على السلوك المعادي للمجتمع والسلوك الإجرامي لا يُمكن تفسيرها فقط بالجينات، وقدّمت دليلا متماسكا فعلا على انتقال السلوك الإجرامي اجتماعيا داخل العائلات. منذ ذلك الحين، توصّل الجميع تقريبا إلى توافق أن الجريمة تشتمل على الطبيعة والتنشئة معا.

الجريمة الطبيعة و التنشئة

  • نيوساينتست: لكنك تعتقدين أنك كنت تفوّتين أمرا. هلّا فسّرت ما هو؟ 

في بداية تسعينيات القرن الماضي، عرف علماء الجريمة أن سلوك الذكور المعادي للمجتمع يتركّز في سن المراهقة، فعندما تُصمّم دراسة الجريمة اعتمادا على الفئة العمرية فإنك ستحصل على منحنى يصل ذروته ما بين سن 16-20، ثم ينخفض في العقدين الثالث والرابع، وكانوا يعرفون أيضا أنَّ فئة هي أقل من 10% من الذكور يرتكبون أكثر من 50% من الجرائم.

 

في عام 1993، نشرت فرضية تقول إن منحنى ذروة الجريمة يُخفي اثنتين من الفئات المختلفة التي لديها أسباب مختلفة للسلوك الإجرامي، وسُمّيت إحداهما بمجموعة "معتدون باستمرار طوال حياتهم"، ويُظهِر هؤلاء الأشخاص في العادة سلوكا متطرفا يغلب أن يكون معاديا للمجتمع يبدأ منذ سنوات الطفولة المبكرة ويستمر حتى سن الرشد. كنت أعتقد أنهم سيُشكِّلون أقلية، عند أقل من 10%، وأن العوامل البيولوجية إذا ما أُضيفت إلى طفولة سيئة ستلعب دورا كبيرا في حالتهم. أما المجموعة الأخرى، التي سمّيتها "منحرفون في سنوات المراهقة فقط"، فتُظهِرُ مستوى مماثلا من السلوك المعادي للمجتمع عند سن 18 عاما لكنهم يتركونه. وأشرت إلى أن البيولوجيا لا تُشكِّل عنصرا في حكاية هذه المجموعة، وتوقعت أنهم منتشرون بشدة بما أنَّ المراهقين الذين يتجنبون الإساءة نادرون.

 

  • نيوساينتست: كيف تفحصين فكرة من هذا النوع؟

عليك أن تتبّع الناس لسنوات لكي تميّز المجرمين باستمرار ومجرمي فترة المراهقة فقط، وبدقّة من أيام المهد حتّى الخمسينيات من العمر، وأن تقيس السلوكيات المعادية للمجتمع طيلة تلك المدة كلها. وقد تمكّنّا من القيام بالأمر في "دراسة جماعة دنيدن"، التي تتبّعت 1000 نيوزلندي من لحظة الولادة في عامي 1972 و1973 والذين بلغوا حاليا أواخر الأربعينيات من أعمارهم. وفي السنوات الأخيرة، استخدمنا مسح الدماغ والتقنيات الجديدة لـ "تحليل الجينوم الكامل" بهدف تعميق النظر في بيولوجيا الجريمة.

الجريمة و التنشئة و الطبيعة

  • نيوساينتست: وماذا اكتشفت من دراسات الدماغ؟ 

عندما مسحنا أدمغة أعضاء المشاركين بدراسة دنيدن العام الماضي، اتضح أنَّ معظم أولئك المعتدين لا يملكون أدمغة خارجة عن المألوف، لكن الأشخاص الذين بدأ سلوكهم المعادي للمجتمع في المدرسة واستمر معهم حتى سنوات المراهقة، أي مجموعة الاعتداء المستمر، أظهرت مادة رمادية أقل في بعض مناطق الحصين التي رُبطت سابقا بالسلوك المعادي للمجتمع لدورها في توجيه السلوك الهادف وتنظيم الانفعالات والدافعية.

 

  • نيوساينتيست: هل تقولين إن أولئك الأشخاص وُلِدوا بأدمغة مختلفة؟ 

من الصعب الجزم؛ فلو أننا أجرينا تلك المسوحات حينما كانوا أطفالا صغارا لأمكننا الجزم أي الشذوذات في بنية الدماغ كانت موجودة قبل حياة الإجرام، لكن التكنولوجيا لم تكن متاحة وقتذاك. لكن مؤخرا كشف مسح الدماغ لأطفال لديهم سلوكيات قاسية أو متجردة من العاطفة، أي أولئك الأطفال الذين يؤذون غيرهم من الأطفال دون ندم واضح، عن شذوذات دماغ مماثلة لتلك التي نجدها. لذا فإنَّ من الممكن أن شذوذات من هذا النوع في بنية الدماغ قد كانت موجودة سلفا. وغلب على المعتدين الدائمين في دراستنا أيضا أن كانت لهم طفولة سيئة لربّما عبثت بتطور الدماغ، وهذا يشوّش الصورة.

 

  • نيوساينتيست: ماذا اكتشفت عن الجينات والجريمة؟ 

خلال العقد الماضي، ظهرت تكنولوجيا جديدة تُمكِّننا من النظر بشكل متزامن في آلاف المتغيرات الجينية على امتداد الجينوم الكامل لشخص ما، وربط العلامات الجينية بسلوكيات محددة. من الصعب القيام بالأمر مباشرة في حالة جريمة، لأنك تحتاج إلى عينات من مئات آلاف الأشخاص الذين يمكنك أن تقسّمهم إلى معتدين دائمين ومعتدين في مرحلة المراهقة. ولا يمكنك ببساطة أن تسأل الناس عن سلوكياتهم في أول حياة الطيش بما أن الذاكرة خوّانة، وما من دراسات طويلة الأمد تتعقّب هذا العدد من الأشخاص.

تحليل الجينات

وهكذا فقد لجأنا إلى معايير أخرى، مثل التحصيل المدرسي الذي يمكن أن يتصل بالجريمة والذي يُمكن لمعظم الناس الإبلاغ عنه عند تسجيلهم في خدمات مثل "23&Me" و"Ancestry.com". وقد استخدمنا هذا النوع من بيانات الجينوم المجهولة لإنشاء ما يسمى بـ "درجة الموروث" في التحصيل المدرسي، الذي يلخّص مقدار العلامات الجينية المتعارف عليها للتنبؤ بالنجاح التعليمي الذي يُحقِّقه شخص ما. في دراسة دنيدن، وجدنا أن الأشخاص الذين يُظهِرون سلوكيات معادية للمجتمع تبدأ في سن الطفولة وتستمر خلال سنوات المراهقة يُسجّلون "درجة موروث" متدنية. لكن وكما أظهرت دراسة مسح الدماغ فإن أولئك المعتدين الدائمين قد كانت لديهم طفولة سيئة أيضا.

 

  • نيوساينتست: هل يمكن لجينات من هذا النوع أن تؤثر في السلوك الإجرامي؟ 

يعاني معظم الأشخاص الذين يُسجِّلون درجة موروث متدنّية في التحصيل الأكاديمي من ضبط النفس طوال حياتهم. وقد أظهرنا أيضا أنهم يبدؤون الكلام في سن متأخرة من عمر الطفولة، كما أنهم لا يُفلحون كثيرا في استخدام اللغة، ويواجهون صعوبة في تعلم القراءة، ولديهم مشكلات في التركيز والسيطرة على أفكارهم، ويشق عليهم تذكر الحقائق والأرقام، لذلك يجدون المدرسة مكانا محبطا ومذلّا بحق ويتركونها بأسرع ما يمكن. إن أحوجتهم المؤهلات عند البحث عن عمل فيمكن للجريمة أن تكون خيارهم الأمثل، وإن برعت في الجريمة فإن ذلك يجلب تقديرا للذات أكبر من ذلك الذي تجلبه المدرسة بكثير.

 

  • نيوساينتست: هل كُتبت حياة الجريمة على البعض؟ 

كلا، فالناس بخير ما دامت لهم عائلة محبة توفّر لهم رعاية دافئة، وحساسة، ومطمئنة، والكثير من التأديب المستمر والحاني، بالإضافة إلى الموارد اللازمة لتطور الطفل مثل الغذاء المفيد والتشجيع في المدرسة. لكن الطفولة الرائعة قليلة، والحرمان والإساءة والإهمال جميعها تسمح لهشاشة الأطفال أن تتحول إلى سلوك معادٍ للمجتمع وإجرامي. كما أن المجتمعات لا تبذل كثيرا من الجهد في برامج إعادة التأهيل مثلما تفعل للسجون.

اب و ابنه

  •  نيوساينتست: إن كان قليل من الناس لديه استعداد بيولوجي للسلوك المعادي للمجتمع، فلماذا يشيع كثيرا ارتكاب الجنح في سن المراهقة؟ 

المراهقة سن صعب؛ إذ يشعر العديد من المراهقين أن عليهم أن يُثبتوا لأنفسهم وسواهم من الأولاد بأنهم لم يعودوا صغارا بعد الآن، وأي طريقة أفضل للقيام بذلك سوى اقتراف بضع جرائم طائشة؟ لكن معظم الناس لا يحبون حقا العيش على الهوامش طيلة الوقت، وما إن تتحول المراهقة إلى نضج حتى يخبو بريق أسلوب حياة الطيش. بالنسبة للشباب الذين يحظون بعلاقات أسرية دافئة وعلامات مدرسية جيدة وذهن صافٍ قبل سن المراهقة، فإنَّ من السهل إلى حدٍّ ما الاستفاقة والابتعاد عن الاعتداءات، هذا إن تمكّنوا من تفادي السجّل الإجرامي قانونيا.

 

  • نيوساينتست: كيف تفسرين إحجام قليل من المراهقين عن التمرد؟ 

كنت أعتقد سابقا أن الجريمة طبيعية لدرجة أنه لا بد من وجود شيء غير طبيعي في المراهقين الذين يُعرِضون عنها، شيء يفصلهم عن غيرهم من الأولاد في سنّهم، ربما كانوا غير محبوبين، أو خجلين جدا، أو قلقين بشدة، أو كانوا ينتمون لمجتمعات دينية متزمتة للغاية. وهنا، لم تصمد أفكاري طويلا أمام اختبار الزمن، ذلك أن هذه العوامل غير موجودة في كثير ممن يُحجمون عن الجرائم، وأعتقد بجديّة أنني استخففت بالمدى الذي يُحجم فيه الشباب السعداء والأصحاء والمحبوبون عن خرق القانون. ويبدو أنه في الماضي كان المُحجمون أكثر رجحانا لأن يكونوا من المنبوذين اجتماعيا، غير أن ثقافة الشباب تبدّلت بطريقة ما.

 

  • نيوساينتست: هل اعتنق أفكارك نظام العدالة الجنائية؟

الدرب طويل من برج العاج إلى دوائر السياسات. لكن نظريتي استُشهد بها في وثائق السياسات، ومنها إستراتيجية منع الجرائم الحديثة عام 2016 للشرطة البريطانية، وعدة تقارير أرسلها مجلس الأبحاث القومية للحكومات في الولايات المتحدة. تناغما مع أبحاثي، كانت تلك التقارير تُشدِّد على الحاجة إلى الفصل بين المعتدين القلة الآتين من خلفيات مدمرة وتحيطهم تكهّنات ضعيفة والكثيرين الآتين من خلفيات عادية وتحيطهم تكهّنات أفضل.

الجريمة و التنشئة و الطبيعة

حتى عام 2007، كانت لدى بريطانيا سياسة نادت بـ "تحويل كل الجرائم للمحاكمة"، والتي عنت أن يتلقّى ضباط الشرطة توجيهات لاعتقال أي شاب معتدٍ أثار انتباههم واتهامهم جميعا تقريبا أمام المحاكم. أما اليوم، فقد تغيرت سياسات الشرطة جذريا، وثمة اجتهاد لدى ضباط الشرطة في النأي بكثير من المعتدين الشبان عن المحاكم والسجون، وهو ما يساعد الشباب في تفادي السجل الإجرامي، ويمنحهم مساحة لصلاح الحال ويساعدهم عند التقدم للوظائف. ثمة مجموعة قليلة فقط يتعين عليها أن تحس بالقوة الغاشمة للقانون، وقد وصلت هذه الرسالة إلى جهات إنفاذ القانون.

 

  • نيوساينتست: هل يعني ذلك أن علينا حبس أولئك الناس لأطول وقت ممكن؟ 

هذا أهم سؤال في الأمر كله. في الوقت الحالي، فإن هذا ما يحدث عادة للحفاظ على سلامة الناس. لكن المجتمعات لم تضع طاقة كافية لتطوير العلاجات وبروتوكولات إعادة التأهيل من أجل الناس المعادين للمجتمع بشكل دائم مثلما استثمرنا في السجون، وقليلة هي الأشياء التي قمنا بها فيما يتعلق بالبرامج المؤثرة، إذ يشير عملنا إلى أن مسلك الإجرام المستمر يبدأ في سنوات الطفولة المبكرة، وهذه سن مناسبة للقيام بشيء حيال الأمر عبر إجراءات تتم في حياة المدرسة والبيت. وثمة عمل مستمر على برامج الوقاية، لكننا لا نزال في البواكير.

 

  • نيوساينتست: هل يمكن للعلم حقا أن يُغيّر الطريقة التي تتعامل بها المجتمعات مع الجرائم ومع مرتكبيها؟ 

السياسات تتحدّد بأكثر من مجرد دليل، فالمصوّتون يراقبون سياسات الشرطة عن كثب، وهو ما يدفع الحكومات إلى تنفيذ سياسات جرائم عقابية أو رحيمة بحسب اتجاهات قاعدتهم الانتخابية أكانت ليبرالية أم محافظة. لكن من حين إلى آخر، يأخذ الجمهور ردود فعل مغايرة على أحداث كبرى، وهو ما يجلب التغيير. ونحن نرى ذلك في احتجاجات حركة "حياة السود مهمة"، إذ تدور نقاشات بشأن إصلاح الشرطة.


هذا المقال مترجم عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.