شعار قسم ميدان

التفكير ضد وائل حلاق.. هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟

ميدان - التفكير ضد حلَّاق.. هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟
اضغط للاستماع

   

أنتَ الآن أمام الجزء الثاني من مادة "هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟، وفي حال لم تكن قد اطّلعت على الجزء الأول من المادة الذي يسعى للتفكير مع وائل حلاق عبر الاطّلاع على مصادره التأسيسة ومباعث تساؤلاته، فإننا ندعوك لقراءتها عبر الرابط التالي، ومن ثم العودة لقراءة هذا الجزء الذي يرمي للتفكير ضد وائل حلاق.
   

نص التقرير

لعل من أكثر النقود شيوعا التي وُجِّهت إلى كتاب "الدولة المستحيلة" ما يقال عن تصوير حلَّاق المثالي للمجتمع والسياسة في الحضارة الإسلامية بما يخالف كونها حضارة إنسانية لها ما لها وعليها ما عليها، وبما يخالف واقعها الذي نجده في مصادرها التاريخية. وربما كان هذا النقد ناتجا بالأساس عن عدم استيعاب فكرة النطاق المركزي/النموذج التي يُلِح عليها حلَّاق عبر الكتاب بوصفها الإطار النظري الأساسي الذي يعمل من خلاله على محاولة بيان ماهية الشريعة وفاعليتها الاجتماعية. وكما بيَّنا في القسم الأول فإن النطاق المركزي معنيّ أساسا بتبيان القيم الأساسية في ثقافة ما، وكيف تتمظهر في ممارسات معتنقيها، بما يجعلها مقياسا تُقاس عليه هذه الممارسات من حيث اقترابها مما تعتقد هذه الثقافة صحّته قيميا أو مفارقتها له.

  

والحق أن أي نقد يمكن أن يُوجَّه لحلَّاق هنا يجب أن يُوجَّه أساسا لفكرة الإطار المركزي/النموذج نفسها بوصفها إطارا نظريا تاريخيّا صالحا للاشتغال من عدمه. ويمكن تلخيص إمكان نقد النموذج عند حلَّاق في مدخل أساسي هو عدم قدرة النموذج على التأريخ لنفسه، أي التأريخ لمدى نماذجيته في التاريخ الحقيقي، بكلمات أخرى: متى كان هذا النموذج نماذجيّا بالصورة التي يلفيه عليها حلَّاق، ومتى تراجع عن نماذجيته تلك، وكيف ولماذا؟

    

وائل حلاق (مواقع التواصل)
وائل حلاق (مواقع التواصل)

    
إن أحد أوجه تأثُّر حلَّاق الواضحة بجينو هي رؤية جينو الدائرية للتاريخ؛ تأثُّرا بمدرسة الفيدانتا الروحية الهندية. لقد وجد حلَّاق في هذه الرؤية الدائرية للتاريخ الإنساني أساسا يمكن أن يبني عليه نموذجا بديلا للنموذج الخطِّي الذي افترضته الحداثة أو فرضته إيمانا منها بعقيدة التقدُّم، وبديلا أيضا للنموذج الاعتباطي للتاريخ الذي أفادته ما بعد الحداثة من أصولها النيتشوية.

  
في عام 1931، وكان جينو قد وصل لتوه إلى مصر حيث أقام إلى آخر حياته، حصلت معركة فكرية ومساجلة على صفحات مجلة المعرفة بين جينو الذي أصبح عبد الواحد يحيى، وبين الأستاذ محمد فريد وجدي المفكر والإصلاحي الإسلامي المصري شركسي الأصل. كان موضوع هذه المعركة :الروحانية الحديثة" وسُبل دراستها وفهمها. في نهاية مقاله الأخير ضمن هذه المساجلة عبَّر الشيخ عبد الواحد يحيى بفصاحة عن رؤيته تلك للزمن قائلا: "ولسنا كما يظننا الأستاذ فريد بك وجدي: نعيش في زمن غير زمننا لأن زمننا يختلف عن زمن الغربيين. فبينما يحلم هؤلاء بـ "التقدُّم" حتى يستيقظوا على صوت إحدى الكوارث – نعرف أن العهد الذهبي كان في الحق عند ابتداء التاريخ البشري؛ إذ أُعطيت كل المعرفة للإنسان في المبدأ ثم أخذت تختفي عنه تدريجيّا بتوالي العصور وتنتقل رويدا من عالم الروح إلى عالم المادة".

  
هذا "العصر الذهبي" عند جينو قريب للغاية مما يسميه عبد الوهاب المسيري (1938-2008) "اللحظة النماذجية". وتعريف المسيري للحظة النماذجية يشرح لنا بالضبط طبيعة استعمال حلَّاق لفكرة الإطار المركزي/النموذج؛ إذ يرى المسيري أن "اللحظة النماذجية" مفهوم يؤكد الاختلاف الجوهري بين الواقع وبين النموذج، فالنموذج لا يتحقَّق في الواقع بصورة كلية وإنما تظل هناك مسافة، لكن اللحظة النماذجية هي اللحظة التي يقترب فيها النموذج من التحقُّق الكامل في الواقع.

    

عبد الوهاب المسيري (مواقع التواصل)
عبد الوهاب المسيري (مواقع التواصل)

    
لقد وجد حلَّاق في تصور جينو للزمن منفذا يمكن النفاذ منه إلى حقيقة التصور الإسلامي للتاريخ، وهو تصور دائري أيضا لكنه يختلف عن تصور جينو في ارتباطه بفاعلية الإنسان في التاريخ نفسه. إن تلك الفاعلية ليست مرتبطة بالزمن نفسه؛ لأنه مجرد معطى محايد، لكن ما يمنحه المعنى هو حركة الإنسان نفسه فيه ومقصدها، ورغم أن النصوص الشرعية تؤكد دوما تناقص منسوب الخيرية والعدالة العام كلما ابتعدنا عن عصر النبوة، فإنها أيضا تحفظ للإنسان الحر حقه في الصلاح أو الفساد (الاقتراب أو الابتعاد عن النموذج الذي تحقق في اللحظة النبوية والراشدة) اللذين سيُحاسب عليهما يوم القيامة.

    

لقد أكَّد الصوفي الكبير وشيخ الأزهر الأسبق العلَّامة الشيخ عبد الحليم محمود (1910-1978) فيما كتبه عن جينو في كتابه "قضية التصوف" أن السبب الرئيس في تحوُّله إلى الإسلام كان رغبته في الاعتصام بنص مقدس محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووجد هذا في القرآن. يشبه هذا كثيرا ما رواه عبد الوهاب المسيري في سيرته عن عودته إلى الإسلام في أوائل الثمانينيات؛ لأنه وجد فيه الرؤية الكونية الوحيدة التي تحفظ للإله استقلاله عن الطبيعة والإنسان عبر عقيدة التوحيد.

     

يُشكِّل عنصرا الإله المنفصل عن الإنسان والطبيعة والنص المقدس المحفوظ غير المحرَّف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه معنى دائرية التاريخ قيميّا، وبالتالي إمكانية استخراج نماذج/نطاقات مركزية تُمثِّل القيم الأساسية التي ينبغي للإنسان أن يتمثَّلها ويمتثل لها خلال حركته في التاريخ. مع ذلك تبقى مشكلة النموذج النظرية الأساسية هي عدم قدرته على التأريخ لنفسه لكونه أساسا مركبا نظريا يهدف لاستجلاء القيم الأساسية في كل ثقافة إنسانية، وعلى ذلك فهو مكتفٍ بذاته ولا يُدلِّل إلا على ذاته، ولا يمكن الاستدلال عليه إلا من داخله. وبذا تكون مشكلته الأساسية هي إغفاله لتاريخ الحركة الإنسانية الواقعية في مقابل تركيزه على ما يجب أن تكون في واقعها، مُسلِّطا الضوء على ما وافقها من ممارسات في الواقع، ومتجاهلا -بدرجة أو بأخرى- ما خالفها.

      

كتاب
كتاب "الدولة المستحيلة" (مواقع التواصل)

        
لا يمكن القول إن حلَّاق لا ينتبه لتلك المعضلة، لكنه لا يوليها الأهمية المناسبة في كتاب "الدولة المستحيلة"، وإن أشار إليه عرضا في أكثر من موضع في كتاب "الشريعة". لكن أحد أظهر دلائل عدم إيلائه تلك المسألة الأهمية الكافية هو نفس ما أسماه "ديمقراطية" نموذج "الحكم الإسلامي" تاريخيّا عبر هيمنة الشريعة بوصفها الجهاز التشريعي الأساسي. لقد هيمنت الشريعة بالفعل، لكن افتقارها عادة إلى القوة القاهرة التي امتلكها الملوك والسلاطين المسلمون أدّى إلى إشكالات سياسية ضخمة عاناها المسلمون عبر تاريخهم، وأدّت بفقهائهم وأصولييهم إلى التنظير اضطرارا لحكم التغلُّب.

    

ويبدو هنا -في المقابل- أن شميت قد أفاد كثيرا من علمانيته؛ إذ أدّى رفضه لنظرية تقاسم السلطة الليبرالية غير الديمقراطية، مع علمه بانعدام قدرة البرلمانات على "الحكم" بما هو ليس مجرد اقتراح إجراءات عامة أو إصدار أحكام قضائية بل اضطلاع بتلك الإجراءات وقدرة على تنفيذ تلك الأحكام؛ لافتقارها إلى القوة القاهرة إلى تكريسه السلطات كافة في يد صاحب السيادة. هنا تبدو نظرية تقاسم السلطة، وإن كانت غير ديمقراطية كما بيَّن شميت بالفعل، أهون الشرَّين. وتلك مشكلة لا يُقدِّم لها نموذج حلَّاق حلًّا؛ لأنه نموذج تقييمي أكثر منه تفسيري، كما بيَّنا.

   
يُصرِّح حلَّاق في الفصل الأول من "الدولة المستحيلة" بوجوب أن يضرب المسلمون صفحا عن تاريخهم الحديث والمعاصر (المئتي عام الأخيرة) ونماذج الحكم "الحديثة" التي عاشوا في ظلالها في هذه الفترة الطويلة، لتشويهها الشريعة وحصرها إياها في النطاق الخاص لأحكام الأسرة والطقوس التعبدية. ونحن إذ لا نخالف حلَّاق في النتيجة النهائية التي ذهب إليها من تشويه الشريعة خلال تلك الحقبة الطويلة وهدم بنيانها المعرفي والمؤسساتي، فإننا لا نستطيع منع نفسنا من طرح السؤال التالي: "ما البديل الذي يُقدِّمه حلَّاق للمسلمين لكي يتخلّوا عن الشريعة كما عرفوها وتشكّلت تصوراتهم عنها في العصر الحديث؟"، والذي هو تصور مشوّه لا ريب. البديل الذي يُقدِّمه حلَّاق على الحقيقة هو مجرد رؤية تاريخية لنموذج أخلاقي قد يكون صحيحا على مستوى النظر، لكن تعتريه مشكلات ضخمة إذا ما نُظر إليه تاريخيّا.

         

يعود الاختلاف بين قطب وحلَّاق إلى اختلاف همّهما المبدئي ونقطة انطلاقهما؛ فقطب ينطلق من همٍّ دعوي إصلاحي، بينما ينطلق حلَّاق من همٍّ بحثي أكاديمي
يعود الاختلاف بين قطب وحلَّاق إلى اختلاف همّهما المبدئي ونقطة انطلاقهما؛ فقطب ينطلق من همٍّ دعوي إصلاحي، بينما ينطلق حلَّاق من همٍّ بحثي أكاديمي
       

إنه نموذج يفتقد صراحة للتاريخ. ولعل هذا أيضا هو أحد مواضع تأثُّر حلَّاق بجينو، ففي القسم الثاني من كتاب "الشرق والغرب" يُقدِّم جينو خطة لما يمكن تسميته بـ "تصفية الحداثة" عن طريق تواصل متخيَّل بين النخب الفكرية في الغرب ومثيلتها في الشرق، يهدف إلى نقل المعارف الأخلاقية "الشرقية" إلى الغرب؛ إصلاحا للحداثة. هذه الدعوة التي لعلنا لا نُجافي الحقيقة كثيرا إن وصفناها الآن بالساذجة، وإن أمكن تفهُّمها في سياق أنها كُتبت منذ ما يقرب من ١٠٠ عام، يُردِّد حلَّاق صداها بوضوح في نهاية كتاب "الدولة المستحيلة"؛ إذ يدعو إلى تفاعل خلَّاق بين المفكرين المسلمين ونظرائهم الغربيين فيما يخص ضرورة جعل الأخلاقي النطاق المركزي، ويسهموا معا في "إعادة تشكيل الأخلاقيات الحديثة". وقد همَّ حلَّاق نفسه بأول خطوة في هذا التواصل بكتابه الضخم الذي ألّفه عن فيلسوف الأخلاق المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، وصدر مؤخرا بالإنجليزية والعربية[1].

    

ولعله يجدر بنا هنا أن نسلِّط الضوء أكثر على أخطر عيوب النموذج/الإطار المركزي، وهو ما لخّصناه آنفا في القول بعدم قدرته على التأريخ لنفسه، وافتقاره إلى التاريخ بشكل عام. النموذج/الإطار المركزي هو في جوهره تأويل لثقافة ما؛ تبيانا لقيمها الأساسية. وبوصفه تأويلا فإنه يتّجه أول ما يتّجه إلى النصوص المركزية المؤسسة لتلك الثقافة محل التأويل ليستخرج منها ما يعدُّه قيمها الأساسية. ثم يتّجه فيما بعد إلى واقع ممارسة أهل هذه الثقافة، فينظر فيها ليستخرج منها ما يوافق تأويله الأول. إن هذا الاتجاه يُكرهه لا محالة على التركيز على نوع الممارسات المتسق مع القيم الأساسية المستخرجة من تأويل النصوص الأساسية، مع تجاهل غيرها بدرجة كبيرة.

  

ولا يفلح النقد الذي وجَّهه حلَّاق إلى نطاق شميت المركزي اعتمادا على أركيولوجيا المعرفة عند فوكو في علاج هذا الإشكال بصورة تامة؛ ذلك أن أركيولوجيا فوكو ورغم توسيعها نطاق شميت نسبيا بالشكل الذي يستعملها به حلَّاق، فإنها في جوهرها مقلوب نطاق شميت المركزي؛ حيث تعتمد اعتمادا شبه كلي على الممارسات الواقعية بوصفها بنى من السلطة تُشكِّل النصوص المركزية المؤسِّسة. وبالتالي فهي صورة أخرى من جدل النص والواقع، ولعلها تصلح أكثر ما تصلح لدراسة جينالوجيا العلوم المعاصرة، بينما يشهد التاريخ أن حركة الإنسان فيه أوسع وأكثر تعقيدا من جهة دوافعها وأهدافها وتفاصيلها من أن تُحصر في نصوص وضعية مهما كانت مركزيتها وأهميتها.

    

كارل شميت (مواقع التواصل)
كارل شميت (مواقع التواصل)

   

مع ذلك، لا يمكن التخلي عن النموذج بوصفه إطارا نظريّا أساسيّا في العلوم الإنسانية؛ لأن الثقافة مكوّن أساسي من مكوّنات إنسانية الإنسان، بل لعلها المكوّن الأساسي لها والفاصل الحقيقي بين الإنسان وسائر المخلوقات الأخرى في الطبيعة. كما أن النموذج يكتسب أهمية خاصة حين يُدرس به حالة تاريخية كحالة الإسلام؛ لعنصرين أساسيين يتوفران في الإسلام ولا يتوفران في غيره، ونقصد بهما عقيدة التوحيد والقرآن. ولعل من نافلة القول هنا التأكيد أن حضارة الإسلام هي حضارة قائمة على النص ومن خلاله، وبَنَت كل معارفها على أساس منه. إن التوحيد الإسلامي المباين لكل العقائد [الحلولية] الأخرى الذي أعاد المسيري إلى الإسلام، والنص المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي اعتصم به جينو فتحوَّل إلى الإسلام، هما ما يُكسبان النموذج عند حلَّاق بوصفه إطارا نظريّا أهميته الخاصة في الدراسة الإنسانية.

    

يجيب القرآن عن جميع الأسئلة الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان (أصله ومآله ومعنى حياته)، ويمنحه الإيمان بالله المباين لكل مخلوقاته وصاحب السيادة المطلقة عليها أساسا واضحا من الحرية الأخلاقية المسؤولة لمسيرته في هذا العالم، ويكتمل النموذج بتطبيقه العملي المسجَّل في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته مع أصحابه، والمنقولة إلى جميع المسلمين الراغبين في التأسّي بها والسير على نهجها إلى نهاية العالم بالأسانيد الصحيحة المثبتة. هذه العناصر الثلاثة الأساسية المتوفرة التي تُشكِّل عماد الإسلام هي "النموذج" الذي أراد حلَّاق تبيان آثاره السياسية والاجتماعية تحديدا عبر المسيرة التاريخية لما أسماه "الحكم الإسلامي"، وليس "الدولة الإسلامية". لكن من جديد نعود ونقول إن هذا التبيان مرتبط أساسا بسطوة ذلك النموذج وحضوره في حياة المسلمين، وتلك مسألة مرتبطة حتما بسعيهم لتمثُّله والعمل بمقتضاه، لا بصحة النموذج الأساسي من عدمه.

    

وهنا يسعنا القول اختصارا إن التاريخ يحضر دوما كنقيض للنماذج القائمة على المعرفة الوضعية، لكنه في النموذج القائم على المعرفة الربانية فهو عامل إثراء وإغناء. تقودنا تلك النقطة تحديدا إلى مقارنة ضرورية بين رؤية حلَّاق "الإصلاحية" التي أشرنا إليها في عجالة آنفا ورؤية مفكر إسلامي معاصر هو سيد قطب. ثمة نقطة اتفاق أساسية مضمرة بين قطب وحلَّاق وهي انقطاع الصلة بين الشريعة بوصفها النطاق المركزي الأخلاقي والواقع منذ فترة بعيدة، وأن هناك حاجة مُلِحّة إلى إعادة تأسيس تلك الصلة. ورغم أن قطب وحلَّاق يختلفان نسبيّا في تحديد أسباب حدوث تلك القطيعة؛ إذ يردّها حلَّاق -تقليديا- للحقبة الكولونيالية التي قضت على ما سبقها من "ترتييات مؤسسية" للشريعة (وسنرى في الموضع المناسب كم أن هذه الرؤية إشكالية في ذاتها)، تبدو نظرة قطب أكثر شمولا واتساعا؛ إذ يردّها لغبش التصورات الكونية لدى متأخّري المسلمين، وتقاعسهم عن القيام بواجب الدعوة إلى الله، مما حوَّل علوم الشريعة الأساسية -حسبما يرى- إلى آلة نظرية سجالية فقدت وظيفتها الواقعية بتخلّي المسلمين عن واجب الدعوة إلى الله كما فعل أسلافهم.

    

سيد قطب (الجزيرة)
سيد قطب (الجزيرة)

   

وربما يعود ذلك الاختلاف بين قطب وحلَّاق في تعيين أسباب حدوث تلك القطيعة إلى اختلاف همّهما المبدئي ونقطة انطلاقهما؛ فقطب ينطلق من همٍّ دعوي إصلاحي، لذلك يسعى دوما للقضاء على الأسباب الذاتية لهذا التخلُّف عن حقيقة الدين كما اعتقدها، بينما ينطلق حلَّاق من همٍّ بحثي أكاديمي لا يهتم بالحركة في الواقع بقدر ما يهتم بالاتساق النظري، وكلاهما مفيد في حدوده بالطبع. ولكن هذا يُوضِّح لماذا نجد دوما لدى حلَّاق مسحة من تقديس الأوضاع السابقة على الحقبة الكولونيالية، بينما يهاجمها قطب بلا مواربة بوصفها دركة انتهى إليها التاريخ الإسلامي.

   
تقودنا النقطة السابقة إلى الاتفاق الأول الذي قرّرناه بين سيد قطب ووائل حلَّاق بخصوص انقطاع الصلة بين الشريعة والواقع، وهنا نلحظ اتفاقا آخر مضمرا بينهما يتعلّق باستحالة العودة إلى أوضاع ما قبل الحداثة والكولونيالية، لكنهما يختلفان مرة أخرى في أسلوب معالجتهما لذلك الاتفاق. ويمكن ردّ اختلافهما هنا كذلك إلى اختلاف منطلقاتهما. فبينما وجد حلَّاق الأكاديمي ضالّته في التأسيس "النظري" للأخلاق عند الدكتور طه عبد الرحمن، وهو تأسيس نظري بلا مشروع عملي، أصرّ قطب في المقابل على أخلاق نضالية قائمة على التلقّي عن الوحي والسعي في الأرض بما يتضمّنه ذلك من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، إلخ. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن مؤلفات قطب الأخيرة لم تحتوِ أبدا على أي تنظير يخص "دولة إسلامية"، بل على العكس: تنفير من ذلك التوجُّه كله، وهو في هذا يوافق حلَّاق في ضرورة نقض الأدبيات السياسية الإسلاموية المعاصرة -لكنه كما بيَّنا آنفا- يجترح طريقا مختلفة تماما لعلاج الخلل فيها.

   

ولعلنا بهذا الاستطراد والمقارنة التي عقدناها بين قطب وحلَّاق ورؤيتهما التاريخية للفساد الذي عمَّ عالم الإسلام في العصر الحديث وإمكانات إصلاحه قد وصلنا إلى أحد أهم النقود المعاصرة التي وُجِّهت إلى عمل حلَّاق في كتابَيْ "الشريعة" و"الدولة المستحيلة"، وهو كتاب "سياسات تقنين الشريعة: النُّخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكُّل الدولة المسلمة" لأستاذ السياسة والقانون في جامعة كامبردج: عِزَّة حسين، والذي صدر عن مطبعة جامعة شيكاغو في عام 2016، وصدرت ترجمته العربية أوائل عام 2019[2]

 

كتاب
كتاب "سياسات تقنين الشريعة: النُّخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكُّل الدولة المسلمة" لأستاذ السياسة والقانون في جامعة كامبردج: عِزَّة حسين (مواقع التواصل)

    
ينتمي كتاب "سياسات تقنين الشريعة" إلى تقليد نظري نشأ في جامعة كامبردج في النصف الثاني من الستينيات في خضم الجدل حول إعادة كتابة التاريخ الهندي في الحقبة الكولونيالية عقب نهاية الحكم الإمبراطوري البريطاني للهند في أغسطس/آب ١٩٤٧. ينطلق هذا التقليد من محاولة إعادة سرد تاريخ الهند الكولونيالية من منظور النخب الهندية؛ الصراع والتعاون بينها تحديدا على تمثيل الأمة الناشئة حديثا وحكمها، في مقابل السلطة الكولونيالية البريطانية. ويرفض هذا التقليد، الذي تأسَّس على يد المؤرخ البريطاني أنيل سيل، الرؤية التاريخية الكولونيالية التقليدية التي تذهب إلى أن الكولونيالية البريطانية -رغم كل شيء- جلبت إلى الهند الرأسمالية والمؤسسات التعليمية والأفكار السياسية الحديثة مثل المواطنة وحكم القانون، فهي بالتالي خيِّرة القصد والأثر.

    

وترى في المقابل أن القومية الهندية الحديثة لم تنبثق من هذه الأفعال الكولونيالية، بل من مركب الصراع الذي خاضته النخب التقليدية الهندية فيما بينها من جانب، وفيما بينها وبين السلطة الإمبراطورية البريطانية، والتعاون معها كذلك في سبيل تحصيل موارد السلطة والقوة من جانب آخر. وعلى ذلك فقد كان انخراط النخب الهندية في المؤسسات الكولونيالية البريطانية ليس مجرد قبول للقيم الليبرالية البريطانية، أو إذعانا من طرف واحد للقوة العسكرية البريطانية، بل لأن الانخراط في هذه المؤسسات الحديثة التي شكَّلت الدولة الهندية الحديثة، والتي تم تخيُّل القومية الهندية الحديثة على أساسها، وفَّر لها من موارد السلطات والامتيازات ما لم يكن متوفرا لها قبل الحقبة الكولونيالية، وما لم يكن ليتوفر لها لولا الكولونيالية.

    
من هنا، يقف هذا التقليد البحثي نظريا ليس فقط في مقابل الرؤية التاريخية الكولونيالية سالفة الذكر، ولكن أيضا في مقابل رؤية أخرى مضادة للرؤية الكولونيالية أيضا ولكنها تستلهم الإبستمولوجيا الكولونيالية نفسها وتحاول تقليدها في تخيُّل قومية هندية حديثة نشأت في مقابل السلطة الكولونيالية دون تدخُّل منها، ومثَّلت الأمة الهندية وصارعت في سبيل نيلها حريتها بواسطة زعمائها من المناضلين التاريخيين أمثال غاندي وجواهر لال نهرو وغيرهم.

   

المهاتما غاندي (الجزيرة)
المهاتما غاندي (الجزيرة)

    
لهذا تتكوّن المادة التاريخية الأساسية للكتاب من البحث في الأرشيفات الرسمية الكولونيالية والمحلية التي يظهر فيها بوضوح صوت النخب المحلية، ويظهر فيها كذلك ذلك المركب من الصراع والتعاون الذي خاضت غماره النخب المحلية والنخب الكولونيالية البريطانية على السواء في سبيل تحقيق مصالح كل طرف، من خلال صراعات سياسية وعسكرية حدثت، ومفاوضات تمت، واتفاقات أُبرمت، وطُبِّقت أو نُقضت، ومحاكمات أُجريت وأسهمت في صعود نخب معينة، وانهيار سلطة وامتيازات نخب أخرى، وتمثيلات مركبة من رموز محلية تقليدية وكولونيالية حديثة لسلطة النخب الحاكمة في الدول الجديدة عُرضت على شعوبها، ورسّخت من خلالها شرعيتها.

  
يُوسِّع الكتاب من استعمال ذلك التقليد النظري سالف الذكر في دراسة حالتين أخريين بخلاف الحالة الهندية التي نشأ عنها، وهما الحالتان الماليزية والمصرية. ويُوسِّعه كذلك خارج مجاله النظري الأساسي، وهو التاريخ؛ لكي يُستعمل في دراسة القانون وتاريخ تقنين الشريعة في العصر الحديث من خلال منح النخب التي قنَّنت الشريعة، خدمة لمصالحها في الهيمنة والسيطرة، صوتا تُعبِّر به عن نفسها ومصالحها. باختصار: يتقصَّى هذا الكتاب بشكل مفصَّل، وعبر منهجية مقارنة، السيرورة التاريخية لما رآه حلَّاق عسفا لغويا أصاب المفاهيم الإسلامية الأساسية، وهي السيرورة التي أدٍت بـ "الشريعة" إلى أن تتحوَّل إلى "قانون".

  

يمكن لقارئ كتاب "الشريعة" أن يلحظ بسهولة كيف يتحوَّل حلَّاق في القسم الثالث من الكتاب، وفي أجزاء كثيرة من "الدولة المستحيلة" إلى مُنظِّر "ما بعد كولونيالي" تقليدي. إنها معادلة بسيطة من الدرجة الأولى؛ لقد حطّمت الكولونيالية، ضمن ما حطّمت في المجتمعات المسلمة المبتلاة بها، البنيان المعرفي والمؤسساتي للشريعة، وبالتالي لا وجود للشريعة في العصر الحديث، وما يتبقى أمامنا والحال هذه إلا أن ندرس تاريخ البغي الكولونيالي على عالم المسلمين من منظور شبه مانوي ينقسم العالم فيه إلى فسطاطين؛ فسطاط الظالمين، وفسطاط المظلومين.

  

  undefined

  

لقد كانت إحدى أهم غايات كتاب "سياسات تقنين الشريعة" هو وضع هذه الرؤية للتاريخ الإسلامي الحديث على طاولة النقاش، وإخضاعها لمبضع التشريح والتمحيص؛ ذلك أن المؤلفة اعتمدت على ثروتها التاريخية والوثائقية الضخمة، لكي تمنح النُّخب التي قنَّنت الشريعة صوتا، وتبيّن الأهداف التي أرادت تحقيقها، ومدى نجاحها في ذلك. كما أظهرت المؤلفة كيف خدمت عملية تقنين الشريعة ومركزتها مصالح نخب محلية بعينها اتفقت مع غايات السلطة الكولونيالية ومصالحها، وصعدت بها إلى أعلى سُلَّم السلطة والثروة، وكيف أخفتت ظهور نخب أخرى -علماء الشريعة مثلا- أو أجبرتها على تغيير نظرتها إلى نفسها ودورها.

  

على أن أثمن ما يُقدِّمه هذا الكتاب هو تأريخه لعملية نشوء الفصل بين المجالين العام والخاص في العالم المسلم المبتلى بالكولونيالية البريطانية من خلال المقارنة التي يعقدها بين مالايا (ماليزيا الحالية) والهند ومصر. وهو الأمر -أي الفصل بين المجالين العام والخاص- الذي يعدُّه طلال أسد لا غنى عنه في عملية تشكُّل الدولة الحديثة. بعبارة أخرى: يُقدِّم هذا الكتاب تأريخا لسيرورة علمنة المجال القانوني الإسلامي ومآلاتها في سياق تقاسمه بين النُّخبتين الكولونيالية والمحلية، والتي أفضت إلى معضلة مركزة القانون الإسلامي، وتقسيمه إلى نطاقين؛ يختص أولهما بشؤون التجارة وجباية الضرائب والإنتاج "المادي"، ويقتصر الآخر على الأمور الدينية الثقافية من الشعائر وأحكام الأسرة والمواريث وخلافه.

  

إن جوهر ما يطرحه هذا الكتاب هو ضرورة الدراسة التاريخية الصلبة للقانون الإسلامي بوصفه منتجا تاريخيّا ظهر في ظرف تاريخي محدد هو الظرف الحديث بما اعتمل فيه من مكونات أساسية، هي الاستعمار والتحديث والدولة والرسملة والعلمنة، شريطة ألا تصدر هذه الدراسة عن مقولات سابقة بقدر ما تصدر عن قراءة متأنية في مصادره ووثائقه ودوافع فاعليه وظروفهم. وعلى هذا فالقانون الإسلامي، كما تؤكد المؤلفة، ليس "الشريعة" كما عُرفت تاريخيّا، بل هو منتج آخر مختلف مُؤلَّف من ظلالها المدمجة في سلطة الدولة الحديثة، ومجابهة الاستعمار، والرغبة التي سادت العالم الإسلامي كله في الحقبة محل الدراسة في النهوض والإصلاح.

      

أسهمت الحقبة الكولونيالية في إفقار القانون الإسلامي بقدر كبير دون ريب، وأدَّت إلى تجريف سلامته المعرفية، وتجريد علمائه من مسؤولياتهم ومهابتهم
أسهمت الحقبة الكولونيالية في إفقار القانون الإسلامي بقدر كبير دون ريب، وأدَّت إلى تجريف سلامته المعرفية، وتجريد علمائه من مسؤولياتهم ومهابتهم
   

لا ينبع تميُّز أطروحة هذا الكتاب من كونه دراسة مقارنة فحسب، بل من كونه لم يفصل الحالات الثلاث محل الدراسة عن بعضها ولو على مستوى الدرس، إلى درجة أنه سيكون بمقدور القارئ بسهولة تتبُّع الأفكار ومناهج الحكم التي كانت تتحرك رفقة الموظفين الاستعماريين والمفكرين الإصلاحيين المسلمين عبر المحيط الهندي طيلة القرون الثلاثة الأخيرة. فالرؤى والخبرات التي راكمها الموظفون الاستعماريون البريطانيون في الهند في القرن الثامن عشر حول ماهية الإسلام وحكم الشريعة وضرورة الفصل بين الجوانب "الدينية" و"غير الدينية" وإمكانية "تمسيح الإسلام" انتقلت معهم من هند القرن الثامن عشر إلى مصر القرن التاسع عشر.

  

يذهب حلَّاق إلى أن المسلمين المعاصرين يواجهون "قدرا من عدم الانسجام بين تطلُّعاتهم الأخلاقية والثقافية، والواقع الأخلاقي للعالم المعاصر، وهو واقع لا بدَّ لهم من العيش فيه، وإن كانوا لم يصنعوه بأنفسهم". لقد كان الاحتلال الكولونيالي للدول المسلمة من قِبل القوى الأوروبية كارثة حاقت بنظام الشريعة. ويُشخِّص وائل حلَّاق هذه التوليفة التي شملت التقنين والتقييد والبقرطة في الحقبة الحديثة بوصفها "كولونيالية قانونية" عمَّت أرجاء العالم المسلم وأفضت إلى "موت الشريعة بنيويّا". وبحسب حلَّاق وغيره، فإن الشريعة قد أرست بمؤسَّساتها وكوادرها وسياقاتها الثقافية والاجتماعية "نموذجا معرفيّا" كاملا. وقد مثَّل الحفاظ على حرفية القانون الإسلامي في ميدان قوانين الأسرة وبعض القضايا المتعلقة بالمواريث ومراعاة الشعائر بما يستقيم مع النصوص الأصلية بطبيعة الحال -دون بنية تحتية معرفية لتعزيز التعليم، والشرح، والسجال، والتفسير- إيذانا بموت الشريعة في الدولة الحديثة.

   

وقد أسهمت الحقبة الكولونيالية في إفقار القانون الإسلامي بقدر كبير دون ريب، وأدَّت إلى تجريف سلامته المعرفية، وتجريد علمائه من مسؤولياتهم ومهابتهم. في عمله الأصيل "الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات"، يُقدِّم حلَّاق تحليلا للدولة بحسبانها مجالا للسلطة وللصراعات التي أثارتها المواجهة بين نظامين مختلفين جذريّا: الدولة الحديثة ("المستورَدة"[3] بواسطة الكولونيالية الأوروبية) والقانون الإسلامي. ويؤكد حلَّاق أن الإنتاج الكولونيالي لـ "التهجين القانوني" -عناصر من الشريعة تُرجِمَت، وقُنِّنت، وجُمِّدت لأغراض كولونيالية تتعلّق بالهيمنة والاستئصال- قد صنع شَرَكا لم تستطع النُّخب المسلمة المحلية الفكاك منه: "ما عدُّوه قانونا مجحفا للاحتلال، كان الأداة الوحيدة، الشرعية والمتاحة، التي يمكنهم استغلالها في مماحكة محتلِّيهم". وبحسب حلَّاق، حازت القيمة الرمزية والمحورية لـ "قانون الأسرة الإسلامي" موقعها في الهوية الذاتية المسلمة، "ليس لأنها انبنت في وعي المسلمين كحيِّز يجب عليهم إظهار نوع من الحساسية حياله؛ بل لأنها مثَّلت كذلك… آخر حصون الشريعة التي قُيِّض لها النجاة من ويلات التحديث".

    

توقيت صدور الترجمة العربية لكتاب
توقيت صدور الترجمة العربية لكتاب "الدولة المستحيلة" قد ألحق ضررا كبيرا باستقباله عربيّا؛ إذ تنمّط استقباله في نمطَيْ القبول الكامل بأطروحته أو الرفض المطلق لها
   

لكن السبر الأعمق الذي قامت به حسين لهذه التغيُّرات في الهند ومالايا ومصر أن النُّخب المحلية لعبت أدوارا حاسمة، أكثر منها داعمة، في إعادة تعريف القانون الإسلامي خلال الحقبة الكولونيالية؛ إذ لم تكن الحداثة موجة متسقة اكتسحت العالم الإسلامي، وإنما تألّفت من تسلسل أطوار شاركت فيها النُّخب المحلية -التي كان معظمها دون ريب محاصرا بإمكانات الدولة الكولونيالية وجهازها الإداري وعنفها- في تأسيس قانون الأسرة بوصفه القانون الإسلامي، وقانونا إسلاميّا تتجلَّى فيه مأسسة الشريعة، واستخرجوا من وضعهم الجديد معاني وخطابات جديدة حول ما يمكن، وما يجب، أن يكونه القانون الإسلامي.

   

إن المسألة المحورية عند حلَّاق هي أن هذا التحوُّل قد دمَّر نظاما معرفيّا، وأن الشريعة لم يكن لها أن تعمل على هذا النحو في غياب دينامية حيَّة بين المؤسَّسات الإسلامية، والمحاكم، والنصوص، والقضاة، والعلماء. ودونما انتقاص من الفاعلية التي أضفاها هذا الزعم القوي سلفا على المباحث المتصلة بالشريعة والدولة، تقترح حسين أن صراعا طويل الأجل قد اكتنف نظام الشريعة المعرفي، للموازنة بين إملاءات السلطة الدنيوية والحكم اليومي من جهة، والصرامة الجزائية للعلم القانوني الإسلامي والمطالب الأخلاقية للمسلمين العاديين من جهة أخرى.

  

وعوضا عن قراءة عدم الانسجام الذي يُشخِّصه حلَّاق بوصفه إخمادا لنظام الشريعة، تقترح حسين سبيلا ربما يكون أكثر جدوى من الناحية التحليلية، وهو التفكير على أساس تعدُّد الأصوات، أي إن تحولات القانون الإسلامي عبر السيرورة الكولونيالية أدَّت إلى تمثيل الدولة المسلمة لنفسها من خلال عدد من الأنماط اللغوية الرمزية، وطرحها لسلطتها ومصداقيتها في قالب متعدِّد اللغات لجمهور متعدِّد المشارب.  

       

دكتورة
دكتورة "عزة حسين" (مواقع التواصل)

      

ويمكن إيجاز النقود التي قدَّمتها حسين لرؤية حلَّاق في نقاط ثلاث:

أولا: الإقرار بوجود سياسات للقانون الإسلامي، وبأن الصراعات حول السلطة الشرعية والهيمنة كانت حلقة الوصل بين المؤسَّسات والوسطاء والأفكار التي شكَّلت جميعا إطار عمل القانون الإسلامي على امتداد تاريخه الماضي والحالي. وترى حسين أن ثمَّة فارقا بين هذه الرؤية للقانون الإسلامي بوصفه منتَجا للسياسة ومسرحا لها، وتلك التي تعدُّه أمرا إلهيّا ملزما، أو مخزونا يستوعب "الثقافة" و"التقاليد" الإسلامية الراسخة. إن التمييز بين النهج الإلهيِّ المفروض على المسلمين بوصفه ضابطا للسلوك القويم (الشريعة)، وتمظهراته في التجربة التاريخية والسياسية والاجتماعية والقانونية للمسلمين، هو أمر على قدر كبير من الأهمية. وذلك بالطبع على النقيض من "نموذج" حلَّاق الذي وإن كانت فائدته النظرية الكبيرة لا تُنكر فإن افتقاره الدائم للبُعد التاريخي يضعفه على الدوام.

  

ثانيا: لا تنفصم السياسة المؤسَّسية للقانون الإسلامي المعاصر عن الظروف التاريخية التي رسمت معالمها؛ كذلك فإن من الضروري هنا -بحسب حسين- التشديد بداية على أنه لم تقم أية دولة بتطبيق شامل للقانون الإسلامي/الشريعة على الإطلاق طوال حِقب التاريخ الإسلامي الممتدة، وأن العلاقة بين الشريعة والفقه من جهة والدولة من جهة أخرى تخلَّلتها -دوما- مفاوضات حول الحدِّ الفاصل بين مجال النفوذ المعلَن لمضامين الشريعة ومؤسَّساتها وكوادرها وبين علاقتها بسلطة الدولة وهيمنتها. وإبَّان الصدام مع الكولونيالية، حدثت مفاوضات بين النُّخبتين المحلية والكولونيالية، تتعلَّق بمساحات القانون ومضامينه وكيفية إنفاذه في المسائل التي تخصُّ الإسلام والمسلمين بما يعود بالفائدة على الطرفين. وفي خضمِّ عملية وضع القوانين التي تُحدِّد أُطر الحياة الإسلامية، والدين، والعلاقة مع الدولة، أسهمت هذه النُّخب في إعادة صياغة جذرية للقانون الإسلامي المتمحور حول الأسرة، والأحوال الشخصية، والهوية الإثنية، والمجال "الخاص" في الدولة الناشئة. لقد صِيغ القانون الإسلامي، وفُكِّك ثم أُعيدت صياغته مجدَّدا، من خلال سلسلة من السَّيْرورات السياسية، وكانت هذه السيرورات عينها قد تشكَّلت وأُعيد تشكيلها على يد المؤسَّسات القانونية والشخصيات الفاعلة والأحكام القانونية.

  

ثالثا: على الرغم من التفاوت الجليِّ في ميزان القوة خلال الحقبة الكولونيالية، فإن النُّخب المحلية لعبت أدوارا حيوية في صياغة القانون الإسلامي. إن التغيُّر الجذري في الشريعة الإسلامية -تقنينها وقصرها على مجال القانون الشخصي والأُسَري- في الدولة المسلمة الحديثة بدأ في الدولة الكولونيالية، ومع ذلك لا يمكن عدُّه ببساطة فرضا أملاه المستعمِرون، بل هو حصيلة تفاعلات مركبة ومفاوضات تمت بين النُّخب المحلية والمسؤولين الكولونياليين. وقد أسفرت عملية التفاوض بين النُّخب المحلية والكولونيالية عن تحوُّل الشريعة الإسلامية إلى نظام مقنَّن وخاضع لسيطرة الدولة، مقصور على ميدان القانون الشخصي والأُسَري، وأضحت الدولة هي الفيصل في أمر الإسلام والهوية المسلمة، وصارت النُّخب المسلمة نخبَ الدولة.

      

    

خاتمة: إعادة النظر فيما هو مهم حقّا

أسلفنا القول إن غاية تلك المادة لم تكن الجواب عن سؤال "استحالة الدولة الإسلامية"، بل البحث في شروط صحته من عدمها. كما أسلفنا أن توقيت صدور الترجمة العربية للكتاب قد ألحق ضررا كبيرا باستقباله عربيّا؛ إذ تنمّط استقباله في نمطَيْ القبول الكامل بأطروحته أو الرفض المطلق لها. وترسَّمت حدود استقباله تبعا لخطوط الفصل الأيديولوجي التقليدية ليس بين الإسلاميين العرب بعامة والعلمانيين منهم، بل بين أشكال عدة من الطيف الأيديولوجي الإسلامي نفسه؛ فقَبِلَه مثقفو الجهاديين وأثنى عليه غالبهم بوصفه نقدا جذريّا لأطروحة الإخوان المسلمين المحدَثين فيما يتصل بالعلاقة بين الدولة والإسلام، وأوهامهم حول "الدولة الحديثة الإسلامية"، رغم أن مضمون الكتاب يُوجِّه النقد الجذري نفسه للتصورات اللا سياسية للجهاديين المحدَثين. ومن جهة أخرى رفضه مثقفو الإخوان المسلمين من منطلق ما تصوروا أنه سبّ لأصنامهم وآبائهم وتسفيه لأحلامهم فيما يتعلق بالمسائل نفسها.

  

وكان مما زاد من حِدّة استقبالهم للكتاب أن هزيمة يوليو/تموز 2013 القاصمة كانت لا تزال ماثلة في الأذهان، وعائقا أمام التفكير الهادئ في أطروحة الكتاب. وعقب وفاة الدكتور محمد مرسي المأساوية تكرّر السجال نفسه؛ فقد انتقده بعض الجهاديين بوصفه "طاغوتا" لم يسعَ جديّا إلى "تطبيق الشريعة"، بينما سعى بعض الإخوان أو القريبين منهم إلى "إنصافه" من خلال إبراز بعض الشهادات على إسراعه بتكوين بعض اللجان غير ذات الصفة أو الاختصاص للعمل على مشروع "قانوني" يهدف إلى "تطبيق الشريعة". وبين هذا وذاك ضاعت الأسئلة الحقيقية ولم تسترعِ اهتمام أحد فضلا عن أن تُبحث بجدية.

  

لم يكن هدف هذه المادة هو السعي إلى الجواب عن سؤال "استحالة الدولة الإسلامية"؛ ليس لمجرد أنه سؤال لا مجال له ولا محل إلا في الإطار النظري الأكاديمي فحسب، ولكن بالأساس لأن الخضوع للأسئلة النظرية الأكاديمية بوصفها أسئلة حقيقية عملية كان موضع الخلل الأساسي الذي أدّى بالاستقبال العربي للكتاب أن يكون على هذه الدرجة من السوء، بل ويجوز القول: انعدام المسؤولية. لا ينبغي للأسئلة النظرية الأكاديمية أن تُحدِّد أسئلة الواقع أو تفوقها أهمية، إن أهميتها تكمن فقط في إضاءة السبل إلى التحديد الدقيق لأسئلة الواقع، وما يمكن أن تُسهم به في إيفائها أجوبتها.

المصدر : الجزيرة