شعار قسم ميدان

نوبل للآداب 2022.. كيف تحول حياتك إلى عمل أدبي بديع؟

"لطالما أردت أن تكون الكلمات كالحجارة، لكي يكون لها قوة الواقع"

(آني إرنو)

ربما لا يمكننا الحديث عن أعمال الكاتبة الفرنسية "آني إرنو (Annie Ernaux)"، التي حصلت على جائزة نوبل في الآداب 2022 المعلنة صباح يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، دون إلقاء الضوء على سيرتها الشخصية، فقد تمكنت من نسج عالمها شديد الخصوصية عبر تأمل حياتها الشخصية بما فيها من أحداث وحكايات، وتمكنت من اجتياز التخييل الروائي التقليدي لتنحاز إلى تجاربها الذاتية كمادة خصبة لعالمها الأدبي. ورغم استناد جميع أعمالها تقريبا إلى ذكرياتها الشخصية، فإنها في نظرتها إلى عالمها الداخلي لم تنفصل عن الخارج، بل على العكس، تمكنت من تقديم رؤية خاصة ومغايرة للعالم بتقلباته التاريخية والاجتماعية، مكونة علاقة خاصة جدا مع الزمان الذي أصبح بمثابة البطل الحقيقي لكل رواياتها.

النظر إلى الذات عبر الزمن والعالم

وُلدت إرنو في بلدة صغيرة بمنطقة نورماندي شمال غرب فرنسا في عام 1940، لعائلة من الطبقة العاملة، وعاشت في طفولتها في كنف والِدَين امتلكا متجر بقالة ومقهى. درست في جامعتَي رون وبرويكس، وعملت معلمة مدرسية قبل أن تتمكن من الحصول على درجة عليا في الأدب الحديث في أوائل السبعينيات، والتحول إلى التدريس الجامعي. بدأت مسيرة آني إرنو الأدبية بكتابها "الخزائن الفارغة (Les armoires vides)"، والذي نُشر في عام 1974.

طبقا للبيان الصادر عن لجنة جائزة نوبل، فإن في لغة إرنو بعدا سياسيا مهما، نظرا لذلك الشعور الدائم بالخيانة تجاه الطبقة الاجتماعية التي نشأت فيها. (غيتي إيميجز)

عادة ما تصنف كتب آني إرنو باعتبارها سيرة ذاتية، لكنها في حوارها مع صحيفة "دي ستاندارد" البلجيكية، عبرت عن كراهيتها لاستخدام هذا المصطلح في وصف أعمالها، وفسرت ذلك بأن ما يفعله كُتّاب السيرة الذاتية هو تقديم أنفسهم على خلفية أحداث العالم المحيط بهم، باعتبارهم الشخصية الرئيسية والعالم هو مكانهم. بينما ترى آني إرنو أنها تعكس ذلك المفهوم خاصة في كتابها الأشهر "السنوات"، والذي تعتبره بمثابة سيرة ذاتية جماعية، عبر تقديم تغيرات العالم من حولها على مدار مساحة شاسعة تبلغ 60 عاما في الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 2005، متناولة من خلاله كيف اختبر وجودها الفردي هذه التغيرات. فهي تعتبر الزمن -لا الذات- الشخصية الرئيسية في أعمالها.

تتمكن آني إرنو من تقديم رؤيتها للعالم من حولها عبر التأمل في حكاياتها الشخصية. وطبقا للبيان الصادر عن لجنة جائزة نوبل، فإن في لغة إرنو بعدا سياسيا مهما، نظرا لذلك الشعور الدائم بالخيانة تجاه الطبقة الاجتماعية التي نشأت فيها،؛ ما يجعل من كتابتها فعلا سياسيا يفتح الأعين على عدم المساواة الاجتماعية في طموح عنيف للكشف عن الحقيقة.

المكان.. عار الخيانة الطبقية

"كان عليّ أن أرفض أي إعادة بناء خيالية لحياة أبي، وأن أستخدم اللغة بطريقة نقدية للتحايل على الأيديولوجيا التي تحملها. كانت الكتابة المحايدة، بلا حنين، وبلا تواطؤ مع قارئ مثقف، هي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل"

(آني إرنو)

آني إرنو الطفلة مع والدها  (مواقع التواصل الاجتماعي)

منذ كتابها الرابع "المكان (La Place)"، الصادر عام 1983، صارت معالم مشروع إرنو الكتابي الذاتي أكثر وضوحا. وقد ترجم الكتاب إلى العربية كل من د. سيد البحراوي ود. أمينة رشيد، وصدرت الترجمة العربية عن دار شرقيات في عام 1994.

يعكس الكتاب بوضوح ما أسمته إرنو الخيانة الطبقية، وشعورها الموجع والممتزج بمشاعر الذنب والعار الناتجين عن ابتعادها عن أبيها وانحرافها عن عالمها الأصلي والطبقة التي نشأت فيها وانتمائها لطبقة المثقفين البرجوازية. ليمثل هذا الكتاب ما يمكن وصفه بكونه مفتاحا لعالمها الأدبي، الذي يمكن إدراجه تحت تيار "التخييل الذاتي (autofiction)"، والذي صكَّه لأول مرة المؤلف الفرنسي "سيرج دوبروفسكي" الذي كتب عن الهولوكوست واستندت رواياته بشكل فضفاض إلى حياته، حيث يعتمد على تجارب حقيقية، ويُوظِّف الخيال بشكل يجعل عمله أكثر من مجرد سيرة ذاتية حقيقية.

جاء الكتاب بوصفه ردة فعل شخصية للكاتبة الفرنسية على وفاة أبيها، متتبعا حياته، وقد قررت ألا تستسلم للانخراط في عملية بناء خيالية لتلك الحياة، كي تكتب بأسلوب أقرب ما يكون إلى الحياد والإيجاز. وقد فسرت اختيارها للأسلوب في الكتاب بقولها: "انخرطت في محاولات يائسة متعددة، من بينها كتاب من 100 صفحة لم يكتمل…، كنت أفشل في الوصول إلى ما كنت أشعر أنه حقيقة وضع أبي، أسقط بين نمطين بديلين للكتابة عن عالم العمال والفلاحين هما الشعبوية والبؤسوية. يقوم الأول على وصف الثقافة الشعبية دون إشارة إلى الاستلاب الاقتصادي، ولا يرى الثاني في هذه الثقافة سوى التعاسة وتدهور الثقافة الحقيقية. وعيت ذلك ببطء: كان علي أن أرفض أي إعادة بناء خيالية لحياة أبي، وأن أستخدم اللغة بطريقة نقدية للتحايل على الأيديولوجيا التي تحملها. كانت الكتابة المحايدة، بلا حنين، وبلا تواطؤ مع قارئ مثقف، هي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل".

صورة الأم ما بين السيرة والتاريخ

صورة الكاتبة آني إرنو في عمر 18 عاما مع والدتها  (مواقع التواصل الاجتماعي)

"كان من الضروري أن تتحول والدتي، التي وُلدت في وسط مقهور لطالما تمنت الخروج منه، إلى شيء من الماضي حتى أشعر بأنني أقل وحدة وتكلفا في عالم الكلمات والأفكار القاهر، الذي انتقلت إليه نزولا عند رغبتها. لن أسمع صوتها مجددا. إنها هي، وكلماتها ويداها وحركاتها وأسلوبها في الضحك ومشيتها، من كانت توحد المرأة التي أنا عليها اليوم بالطفلة التي كنتها في السابق. وبموتها فقدت آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت منه"

(آني إرنو)

هذه المرة يأتي كتابها "Une femme" -الذي صدر عام 1987، وترجمته إلى العربية هدى حسين، وصدر عن دار شرقيات، كما ترجمته أيضا سحر ستالة في ترجمة صدرت عن منشورات الجمل بعنوان "امرأة"- بمثابة تكريم لحياة أمها، المرأة القوية، التي ولدت في أوائل القرن الماضي، في كتابة تمزج ما بين التخييل والسيرة الذاتية والتاريخ وعلم الاجتماع.

هذا الكتاب الذي يتناول حياة والدتها التي توفيت بعد إصابتها بمرض الزهايمر، لم يكن مجرد كتاب عن آلام الفقد وأحزانه، بل جاء بمثابة إعادة خلق لوجود هذه المرأة وحياتها. كما يلقي الضوء على فترة الشيخوخة في ظل إصابة الأم بمرض قاس مثل الزهايمر، مع تناول علاقة الأم والابنة المثقلة بالصراع الناتج عن اختلاف الأجيال. كعادتها اختارت إرنو الكتابة بأسلوب مختصر وجمل قصيرة خالية من التكلف اللغوي، كأنما هي تقدم الهيكل العظمي للحياة بلا رتوش أو إضافات.

السنوات.. ملحمة جماعية للبحث عن الزمن الضائع

كتاب "السنوات (Les années)" (رويترز)

يعتبر كتاب "السنوات (Les années)"، الصادر عام 2008، مشروع آني إرنو الأكثر طموحا، وقد حقق شهرة عالمية واسعة، وترجم إلى العديد من اللغات، واعتبر أول سيرة ذاتية جماعية، امتدت عبر فترة زمنية طويلة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. الذاكرة هنا جماعية، تنطلق من حكايات، وصور وأغانٍ، وأحداث سياسية واجتماعية، استُبدل فيها ضمير الذات لصالح ضمير جماعي.

تسرد آني إرنو في هذا الكتاب سيرة تمزج ما بين العام والخاص عبر 60 عاما من الأحداث والثورات والأزمات الشخصية. وقد قارنت صحيفة نيويورك تايمز هذا الكتاب بعمل مارسيل بروست الأشهر "البحث عن الزمن المفقود"، ووصفته بأنه "بحث مؤقت عن الزمن الضائع في عصرنا الحالي".

عندما تتحول الغيرة إلى احتلال

رواية "الاحتلال (L’Occupation)" (مواقع التواصل الاجتماعي)

في روايتها "الاحتلال (L’Occupation)"، الصادرة عام 2002، والتي ترجمها إسكندر حبش إلى العربية، وصدرت عن منشورات الجمل؛ تكتب إرنو كعادتها بأسلوب خال من الصور، ولغة موجزة بما يشبه اعترافا طويلا، تسلط فيه الضوء على شعورها بالغيرة -التي تصل إلى حد الهوس- بعد انفصالها العاطفي عن شريكها السابق، ورغم أنه انفصال تم بملء إرادتها، فإنها تعاني من الغيرة عندما تعرف بارتباط حبيبها السابق بامرأة أخرى، وتتحول غيرتها إلى ما يشبه الاحتلال، حيث تجد نفسها وتفكيرها وجميع تصرفاتها محتلة من قبل تلك المرأة الأخرى. وتتخذ الكتابة صورة يوميات، في كتاب قصير للغاية لا يتجاوز عدد صفحاته 70 صفحة.

أما في رواية "الحدث (L’événement)"، التي ترجمتها إلى العربية هدى حسين، وصدرت عن دار ميريت، كما صدرت في ترجمة أخرى لسحر ستالة عن منشورات الجمل؛ فتتناول إرنو تجربة الإجهاض، حيث تعود البطلة إلى فترة الستينيات، خلال فترة دراستها الجامعية واضطرارها للّجوء إلى الإجهاض غير القانوني، بعدما أخفت حملها عن والديها وأصدقائها. تناولت آرنو بعنف وقسوة تجربة الإجهاض في سياق المجتمع بكل تحيزاته الطبقية. وكانت تمزج في الكتابة بين تسجيل اليوميات وقت وقوع الحدث، ومشاعرها في استدعائه. يُذكر أن رواية "الحدث" تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجته أودري ديوان، وقد فاز الفيلم بالعديد من الجوائز العالمية.

رواية "الحدث (L’événement)" (مواقع التواصل الاجتماعي)

في النهاية، اختارت إرنو العيش في نوع من العزلة، في منزل هادئ محاط بحديقة صغيرة، بعيدا عن أغلب مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم الشهرة الكبيرة التي حققها كتاب السنوات، فإنها نأت بنفسها عن الأضواء والجدل السائد في مختلف التيارات الأدبية الفرنسية؛ ما وفّر لها حرية الكتابة، تقول عن ذلك:

"إذا كان ثمّة تحرّر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناسٍ مجهولين في تجربة مشتركة…، ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، إنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله، في النهاية، لا يُنسى"

_____________________________________________________

المصدر : الجزيرة