شعار قسم ميدان

مالك الحزين.. كيف صوَّر إبراهيم أصلان حياة المهمشين في القاهرة؟

كيف يمكن أن تكتب نصا روائيا مقتضبا للغاية ويعج بالحياة والشخصيات والدراما والثراء الإنساني في الوقت نفسه؟ في عام 1972، قرَّر الروائي المصري الشاب حينذاك "إبراهيم أصلان" كتابة رواية عن المنطقة التي عاش فيها، وهي حي "إمبابة" ومنطقة "الكيت كات"، ذلك الحي الشعبي الذي عاش فيه أغلب سنين عمره. وقد استمر إبراهيم أصلان في كتابة روايته وتأمل الحياة والناس من حوله طيلة عشر سنوات كاملة، حتى خرجت روايته الأولى "مالك الحزين" إلى النور عام 1983، بعدد شخصيات تجاوز التسعين شخصية.

ينتمي إبراهيم أصلان إلى جيل من الروائيين المصريين الذين نشطوا في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وثمة سمات مشتركة تربط بينه وبين "عبد الحكيم قاسم" و"صنع الله إبراهيم" و"جمال الغيطاني"، الذين ينتمون إلى الجيل نفسه: الصدمة التي أصابتهم بها هزيمة الجيوش العربية أمام الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وتأثير ذلك على أدبهم ورؤيتهم للحياة. فقد كان أدب هؤلاء "الشبان الغاضبين" مُجدِّدا في عوالمه وأسلوبه، تجريبيا في بعض نواحيه، وشكَّل نوعا من "الثورة" على تقاليد الكتابة السائدة حتى ذلك الوقت. وتباينت أساليب "كُتَّاب الغضب" المصريين في التعبير الفني عن غضبهم، وكانت واحدة من أهم الروايات التي مَثَّلت هذا الغضب والثورة والتجديد هي رواية "مالك الحزين".

إبراهيم أصلان

شكَّلت الرواية حدثا مفاجئا وقت صدورها مطلع الثمانينيات، إذ دارت أحداثها في أقل من يومين بمنطقة الكيت كات، ومن ثم اختلفت بذلك عن كل الأشكال السائدة للسرد القصصي حينها. لم يهتم أصلان بخلق حبكة روائية ما داخل الرواية، ولم يلتزم بأسلوب روائي واحد طوال النص، فضلا عن أنه حاول وصف عالم كامل داخل نص قصير، وبعبارات مقتضبة مع اقتصاد واضح في الوصف والجمل الحوارية. وقد وجد أصلان نفسه مضطرا للتوفيق بين نقيضين: كيف يصف واقعا شديد البؤس والضيق، داخل نص أدبي رحب غني بالحياة، دون أن يقع في فخ تجميل الفقر وتجميل حياة الفقراء والمهمشين بما ليس فيها، بحيث لا يتسامح القارئ مع الظروف التي تحيا فيها شخصيات الرواية، وفي الوقت نفسه لا يفقد تعاطفه وإحساسه بهؤلاء المدهوسين تحت رحى سوء الطالع وغياب العدل، ولربما هنا تحديدا تكمن أسباب عظمة "مالك الحزين" بوصفها عملا أدبيا استثنائيا في تاريخ الرواية المصرية.

ثراء النص وخواء العالم

"أن ننظر إلى العمق؟ وماذا لو لم يكن هناك عمق؟ ماذا لو أن قسوة الأشياء هي الجوهر الحقيقي؟".

(فرناندو بيسوا)

نستطيع بعد صفحات قليلة من الرواية، ومع توالي ظهور الشخصيات المُكثَّف، أن ندرك أن "حي الكيت كات" هو البطل ومصدر الهوية لكل تلك الشخصيات التي نراها على مدار اليومين. "ومن ثم فأناس هذا المكان، والمُتحقِّق وجوده بهم، لا يختلفون عنه في شيء، أناس عاديون، يمارسون مِهَنا غاية في البساطة، يحضرون إلى النص، دون محاولة من الكاتب أن يُضفي سيمترية جمالية على سلوكهم، أو لغتهم، أو حتى ألقابهم (رمضان الفطاطري الهايف، وسيد طلب المسخرة، والهرم بائع الكيف والحشيش)، أو يسعى إلى مداراة قبح جمالهم وعاهاتهم بعبارات مُنمَّقة، أو أوصاف تبتعد عن المبتذل واليومي، بل على العكس من هذا كله، فالأشخاص حاضرون من الواقع بآدميتهم وأوصافهم، دون أن يعبأ أصلان ­عند نسجهم ­ بنظريات مقولبة"(3)، أي إن أصلان لم يحاول أن يجعل شخصياته في خدمة النص الأدبي، بل جعل النص في خدمة شخصياته.

حضر الشيخ حسني بعاهته البصرية، التي لم تمنعه عن مواصلة الحياة، بل أقنع نفسه بأنه لم يخسر شيئا، وأقنع الجميع بأنه يرى بالفعل، ومن ثم ركب العجلة مثله مثل أي مُبصر، حتى سقط في الماء، ورغم سقوطه، فإنه كرَّر المحاولة مع ماكينة سليمان الصائغ دون خوف من النتيجة. أيضا هناك العم مجاهد بائع الفول، الذي مات في دكانه دون أن يحس به أحد، مثله مثل كل المنسيين والمقهورين في الرواية، الذين تعلَّقوا بذيل الحياة وأهدابها، فما أعطتهم نظرة عدل واحدة. لقد وضعنا أصلان أمام نوع شديد الواقعية والعادية من الشخصيات، شخصيات لا تضع حياتها موضع السؤال، رغم كل ما تكابده في حياتها اليومية الشاقة، ولا تأبه حتى بالمصير، بل هي شخصيات تقتنص لحظة حياتها ووجودها دون أن تعبأ بأي ثمن.

ثم ظهرت "فاطمة"، تلك الفتاة الجميلة متقدة الأنوثة، التي تتشابه مع الآلاف من مثيلاتها في قرى وأحياء مصر، فتتزوج بسائح عربي، أخذ ثمرتها وتركها دون أن يروي ظمأ جسدها ورغبتها في حياة كريمة، حتى يئست من إمكانية الحياة الكريمة، فسعت لتحقيق مطالب الجسد فحسب. وهناك قاسم الذي يجلس طول النهار والليل في انتظار نظارة لكي يُصلحها، دون أن يجود بها القدر، فيبقى على حاله، وكأننا إزاء ضرب من الكدح المستمر، دون أن يملك أحد من كل تلك الشخصيات حلًّا في مواجهة كل ذلك سوى الصبر.

أما قدري الإنجليزي النافر من الحياة الواقعية والهارب منها إلى نمط غربي يرتكن إليه منذ أن عمل مع الإنجليز في شركة ماركوني، فشرب من أسلوبهم ونمط حياتهم المنضبط، فإن الواقع يقهره رغم كل تعاليه عليه، وأما زوجته أم عبده فيساوره الشك نحوها، إذ يعتقد بوجود علاقة شائنة بينها وبين زغلول بائع السمين لمجرد أن نفسها تاقت إليه.

لم يهتم أصلان ولا مرة تقريبا بتقديم الوصف الجسماني أو النفسي لهذه الشخصيات، ولا نسمع مع كل تلك الشخصيات أي حوار داخلي أو تساؤل عن معنى وقيمة الحياة مع الفقر والظلم المحيط بها، بل تنهمك كل الشخصيات تماما في حياتها اليومية، وتراوغ الظروف العصيبة وغير الآدمية التي تحيا فيها دون التفات لأسئلة الخير والشر والعدل. وبدلا من أن يُركِّز أصلان على تقديم عدد معقول من الشخصيات الرئيسية ويدخل بنا إلى عالمها الداخلي، فإنه كثَّف تكثيفا ضخما، على طول الرواية تقريبا، عددا كبيرا من الشخصيات الهامشية التي تظهر مرة أو مرتين تقريبا، وهي شخصيات متعددة ذات حضور ضعيف دون فاعلية كبيرة في سير الأحداث أو تغيير دفة الرواية، تماما كما هي في الحياة الواقعية. هؤلاء الأشخاص، على تعدُّدهم واختلافهم وتنوُّعهم، استوعبتهم رواية "مالك الحزين"، ولكن لم يلتفت إليهم العالم، ولعل ذلك يعكس ثراء النص وخواء العالم في آنٍ واحد.

عالم بلا جذور

تظهر في الرواية شخصيتان أكثر من غيرهما، شخصية "عبد الله القهوجي"، وشخصية "يوسف النجار". ارتبط عبد الله القهوجي بالمقهى الذي سيشتريه المعلم صبحي ضمن شرائه لكل البيوت والعقارات بالمنطقة، ليهدم المقهى والبنايات المحيطة بأكملها، بعد أن هدَّد المعلم عطية وطعنه بسكين طعنة خفيفة أسفل ظهره لإجباره على بيع المقهى. ومع كل الأشخاص العابرين في الرواية، يبقى المقهى هو المكان الجوهري، وقلب الكيت كات النابض، والعقد الناظم للعلاقات الاجتماعية والارتباطات العاطفية والنفسية، والمكان الوحيد الذي تشعر فيه الشخصيات بأنها ليست شخصيات عابرة وإنما ذوات مكتملة لها جذور وأرض.

يكسر إبراهيم أصلان تقنية السرد الرئيسية في الرواية، وينقلنا إلى وعي عبد الله القهوجي، فنسمع حواره الداخلي وهو يشعر بالضياع مع احتمالية هدم القهوة التي ظلَّ يعمل بها منذ أن كان طفلا صغيرا، فيقول أصلان في نص الرواية: "كيف يمكنه وهو يجلس الآن في المقهى أن يرى ما سرقته الأيام والشهور والسنوات؟ كيف؟ لقد جاء إلى المقهى في مطلع النهار حتى لا يفوته شيء لم يتركه. حاول أن يتذكَّر شكله عندما كان يأتي برفقة والده وهو صغير، وعرف أنه حاول المستحيل.. إن الحبل قد انقطع، المقهى ضاع، وعوض الله ضاع، واليوم فقط يموت أبوك.. صحيح، طول عمرك وأنت غلبان يا عبد الله". في النهاية استغل عبد الله آخر أيامه في المقهى، واستولى على الإيراد اليومي بعد أن تشاجر بالأيدي مع المعلم عطية صاحب المقهى وخرج، دون أن يفكر في شيء أو يعرف أين يذهب.

أما الشخصية الثانية فهي شخصية يوسف النجار، ولربما تكون الشخصية الأكثر حضورا في الرواية. وبسبب الهزيمة والهامشية والاغتراب العميق الذي يشعر به يوسف، فإنه دائما ما يكون "منزويا منفردا.. تكلمه ويكلمك، وعينك في عينه، لكن روحه في مكان تاني". لا يشعر يوسف بنفسه داخل إمبابة، ولا في القاهرة، ويغيب يوسف في زحام المظاهرات، ويغيب عن الكيت كات والمقهى، ولا يسهر مع أحد من شباب الكيت كات ولا عواجيزها، ويغيب كذلك بالخمر في أحد البارات العتيقة إذ يحتسي "الروم"، وكلما حاول أن يكتب رواية يُخرِج فيها ما بداخله ارتعش، ومن ثم يُصيبه كل هذا الاغتراب بالفشل.

في أحد تسكُّعاته العشوائية اصطدم يوسف بمظاهرة تتحرك في شوارع وسط البلد، وشاهد العساكر والضباط وهم يقتربون من المتظاهرين في ميدان التحرير، حيث "ضربوهم بالعصي، وسحبوهم من أيديهم وأرجلهم، وارتفعت صرخات البنات على الأسفلت، وألقوا بهم في العربات وانصرفوا". ترك يوسف مظاهرة الطلبة والمصابين والمعتقلين وأكمل تسكُّعه في طريقه إلى الكيت كات، حيث رأى "الناس في المواصلات وآثار النوم الباقية في عيونهم"، فكتب في مذكراته عن ذلك (والكلام لأصلان في الأخير بالطبع) تلك الجملة الشهيرة: "ملعون أبو الناس، وملعون أبو النوم اللي في عيونهم، ملعون أبوها بلد، ملعون أبوكم كلكم". في نهاية المطاف، ذهب يوسف إلى نهر النيل وألقى بنفسه داخل قارب، وخلع الحبل الذي ربط القارب بالمرسى، وتركه يتحرَّك به داخل النهر دون وجهة مُحدَّدة.

أحد الخطوط الرمزية المفتاحية في الرواية هو الخبر الذي ألقاه قاسم أفندي على مرأى الجميع في المقهى، عن خواجة إيطالي عاش في القاهرة إبان حقبة الثلاثينيات والأربعينيات، ويدَّعي أنه يملك حي الكيت كات كله، ولديه كل الأوراق الرسمية التي تُثبت ذلك، ويتقدَّم بها إلى مأمور قسم الكيت كات قائلا إنهم استولوا على الأراضي التي اشتراها عام 1944، وإنه حين عاد إلى مصر فوجئ باختفائها وظهور تلك البيوت والشوارع والمقاهي على أنقاضها.

"يعني أول ما يكسب القضية المستعجلة دي، قول على البيوت والقهاوي وبتوع البن والبرتقال والحديد السلام. كله كله. الجامع والأسطى بدوي والمكتبة والبحر والشاويش عبد الحميد والعصير والأكشاك بتاعة البيرة والكبدة كله.. مش حيخلي حاجة أبدا.. الله! هي أرضه ولا أرضنا؟".

(قاسم أفندي، الكيت كات)

تكتمل الرمزية أثناء جنازة العم مجاهد، إذ يحكي العم عمران، أكبر الناس سِنًّا، عن حقيقة الخواجة الذي ملك الكيت كات كله يوما ما، وكيف كان الكيت كات عبارة عن قصور ونادٍ اجتماعي وملهى ليلي شهد بين جنباته حياة كاملة للأجانب والأرستقراطيين وحاشية الملك، عاشوا فيها حياة واسعة عريضة، حتى قام الجيش بالحركة المباركة وأغلق الكيت كات، ثم رويدا رويدا "الناس خرمته وفتحت فيه الدكاكين والقهوة والخمارة والمقلى والجامع والفرن والخرابة والبيوت وعشش الفراخ والحمام والبط ومخازن الدقيق، وبقى الكيت كات اللي أنتوا شايفينه دلوقتي"، هكذا يحكي العم عمران كل هذا التاريخ القديم، في الوقت الذي يشتري فيه المعلم صبحي المقهى وكل المنطقة المجاورة ليهدمها ويبني بنايات عالية على أنقاض هذا العالم.

نفهم هنا أشياء أخرى أكثر عن صمت إبراهيم أصلان وإحجامه عن التعمُّق في شخصيات الرواية، وتهميشها كلها بدلا من ذلك، ونفهم أسباب كتابته نصا روائيا دون أي شخصية رئيسية، ومعنى وجومه السردي في تلك الرواية، ونهاية الرواية التي تبدو مثل حلقات من حياة يومية صعبة تدور بلا نهاية في مكانها.

عندما نصل إلى نهاية الرواية، نعي لماذا كتب أصلان بتلك اللغة المقتضبة والغاضبة وغير العابئة، فقد أتت شخصيات الرواية كلها من اللا مكان إلى الكيت كات، بعد أن استولوا عليه من أصحابه القدامى، وسيذهبون مثلهم مثل العم مجاهد ويوسف النجار وعبد الله القهوجي إلى مكان آخر بعد أن يشتريه المعلم صبحي أو يستولي عليه الخواجة، ومن ثم فإن قصصهم -تماما مثل حيواتهم- هامشية وجزء من حياة شاقة ومؤقتة بلا جذور، ولا أثر يُذكر لها إلا في نفوس أصحابها.

____________________________________________

المصادر

  1. إبراهيم أصلان، "مالك الحزين"، دار الشروق.
  2. ممدوح فراج النابي، "مالك الحزين لإبراهيم أصلان: من الأيديولوجيا المحايثة للمكان إلى الأيديولوجيا المضادة للسلطة"، مجلة الكلمة.
  3. ضرير مالك الحزين يبصر، وكذلك قارئ إبراهيم أصلان – فن
المصدر : الجزيرة