شعار قسم ميدان

رواية "ترمي بشرر".. تناقضات حياة القصور والهوامش بعين سعودية

"خسئت روحي، فانزلقت للإجرام بخطى واثقة".

على وقع هذه العبارة ينفتح السرد في رواية "ترمي بشرر" للروائي السعودي عبده خال، رواية تمتدّ إلى 416 صفحة نصّيا، وإلى ثلاثة عقود تقريبا من تاريخ المملكة العربية السعودية زمنيا، يُصوِّر عبده خال خلالها حياة شريحة مجتمعية من السعوديين الذين يعيشون في حيّ عشوائي فقير من أحياء مدينة جدّة الساحلية، وعلاقة هؤلاء البشر بالعمل، والبحر، والجنس، والدين، وبطبقة مجتمعية متهوّرة يرزحون تحت وطأة تغوّلهم منذ عقود.

 

لم يكن فوز الرواية بجائزة البوكر العالمية في نسختها العربية لعام 2010 السبب الوحيد في جعلها محطّ اهتمام وجدل واسع في الأوساط الأدبية العربية، ولكن أيضا القدرة المذهلة التي أبداها كاتبها في المزج بين الواقع المُعطى من جهة والمُتخيَّل المبني عليه من أخرى، وفي الكشف عن تلك الزوايا الغائرة والمُعتمة من زوايا المجتمع السعودي، لا سيّما تلك التي تقبع بين جدران القصور الضخمة شاهقة الأسوار ومحصّنة الأسرار. فكيف كشف الخال لنا أسرار مجتمع تختطفه حفنة من الأسياد المعطوبين نفسيا حدّ وصفه، وكيف استطاعَ أن يُحوِّل حديثا عابرا مع مجهول إلى قنبلة أدبية؟

عبده خال
عبده خال

 

عنوان ميدان

"أن تَعقد صفقة مع الشيطان فكلّ اليقين أنّ الحياة تُعِدُّ لك فخّا قميئا، ولن تستطيع أن تنجو منه، فاللعبة القذرة تُنهي حرصك على إبقاء ثيابك ناصعة". (1)

كانت تلك هي الحقيقة التي خَلَص إليها طارق فاضل (الراوي) حيال علاقته بالسيّد بعد لقائهما الأخير في قبو يعرفانه جيّدا. يومها اتصل السيّد بطارق ليوافيه في القصر حالا، فانصاع طارق للأمر. اخترق الشوارع المؤدّية للقصر والوساوس المشؤومة تتخاطف رأسه، تساءل عمّا إذا علِم السيّد بعلاقته السرّية بمرام. (2) فكّر في كلّ شيء يمكن أن يخطرَ في ذهنه، لكنّه لم يتوقّع أن يكون مُقبلا على أصعب عملية تعذيب سيخوضها في حياته.

 

هكذا يستبق عبده خال، في أولى الصفحات، أحداث روايته الشاقّة والمُجْهِدة؛ ليفتح للقارئ نافذة على مستقبل شخوصه الغارقين في دوّامة قصر مُنيف يطلّ على بحر جدّة المُغْتَصَب، مُثيرا بذلك أسئلة مُلِحَّة لا بدّ أن تطرح نفسها على القارئ: فمَن هو السيّد؟ ولماذا يخافه طارق إلى هذا الحدّ؟ وهل ثمّة مَن يستطيع أن يُعذِّبَ البشر خارج الأقبية الأمنية؟ ولمَ عساه يفعل ذلك؟

 

لا يدعنا الراوي نُمضي وقتا طويلا في التفكير، إذ سرعان ما يكشف لنا الستار عن شخصية السيّد؛ رجل فاحش الثراء لهُ نزق طفل وعِناد مجنون، يبحث طوال اليوم عن إشباع رغبات لا تعرف لإشباعها سبيلا، وإنما تنمو وتتعاظم كلّما استغرق السيّد في تجربتها واحدة تلو الأخرى، حتّى ولو بلغ به الأمر مبلغ سفك الدماء والتشفّي بالمغتصَبين أمامه.

"إنّه قادر على الوصول إلى كلّ المتع، وكلّما اجتاز متعة بحث عن سواها. يبحث عن نَشوته بأيّ طريقة كانت. غدا ماهرا في التشويه، فامتلأ قصره بأنواع من الدمى البشرية". (3)

ترمي بشرر

وليست شخوص "ترمي بشرر" سوى أجرام ضئيلة ومسحوقة تدور في فلك شمسه الحارقة، فتبدو شخصية السيّد كمغناطيس بشريّ ثقيل يبتلع البشر ويسحبهم بتؤدة إلى عمق القاع، أو إلى الدرك السفلي من عالم حالك السواد تحكمه مجموعة من قواعد الفحش والرذيلة والبغاء، يقوم السيّد بصياغتها ليلا بعد سَكرة لم تهتدِ إلى نوم أو موضع للإتيان ببنات الهوى من الساهرات في القصر.

 

في كلّ ليلة يُهيّئ السيّد السهرة للجموع من قاصدي القصر وأصحابه، لا للضيافة، ولكن ليكونوا مُهرّجين ومدّاحين وقوّادين وعاهرات ومُغْتَصَبين ومغْتَصِبين. وإذا غضبَ السيّد فله غَضْبَة طفل (4) تشقّ الأسفلت تحت أقدام أعدائه لتُنزلهم إلى العالم السفلي؛ فيغتصبهم طارق فاضل حتّى يتمّ للسيّد تشفّيه ومتعته، فيسحب طارق عورته ويترك الضحية تُلملم شرفها المهدور ويذهب بانتظار كابوس جديد.

"كنت أُقدم على تعذيب ضحيتي بهمّة وإتقان من غير أن تُثيرني الصرخات أو الاسترحامات المنطلقة من أفواه الضحايا. أُقدم على أداء مهمّتي من غير إخلال بأيّ ركن من أركان الخطّة التي أعدّها السيّد، مع حرصي على عدم إنقاص نشوة التشفّي المُجتاحة لروحه، فينشرح صدره منتشيا بما أفعل بهم". (5)

يقيم السيّد في الليل سهراته تحت قبّة قصره المسوَّر، فتنعجن خطايا العالم وآثامه في تلك الصالة المختنقة بالنسوة اللواتي يهززن قدودهن حدّ الاشتعال، فله "مندوبون متعدّدون للقيام بدور القوّادين، ولهذا الغرض انتشرت فِرَق في أرجاء المدينة، كلّ فريق يتزعّمه شاب طاغي الوسامة، يستخدم وسامته لاصطياد الفتيات اليافعات، ويغزل لهن شرکا بكلمات عشق يتدرّبون عليها من قِبَل عاهرة كانت عشيقة السيّد في بداية شبابه". (6)

 

وعندما يتقدّم الليل في ليله يتثاقل رأس السيّد متأثّرا بالخمر، وتبدأ تلك الرغبات الناتجة عن إحساسه المريض في التدفّق، فيوكل إلى طارق فاضل مهمّات خاصّة، وعن ذلك يقول طارق: "مهام كثيرة وقذرة أنجزتها على ظهور هؤلاء السادة، هؤلاء الذين يقفون متوهّجين السير والوجوه خارج القصر، كانوا في لحظة ما يتوسّلون لأن أكفّ…". (7)

 

وحين يطلّ الفجر ويصدح صوت الأذان نديّا، يتحرّك السيّد، مثله مثل كلّ الحضور، بغمرة من خدر سُكرتهِ وبشكل لا إرادي لتأدية الصلاة. وفي إحدى صلواته "أخذ لسانه يتلعثم في قراءة القرآن، ويعالج عسر النسيان الذي ران على ذاكرته إزاء محاولته تذكُّر سورة الهُمَزة، فانقلب لسورة الشرح، وأخذ يلوك بدايتها: (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك…) من غير أن يتجاوز كلمة (وزرك)، وعندما عجز عن استكمالها صاحَ:

– أنبئوني يا كلاب!". (8)

 

هناك نوعان من الكلاب في القصر، الكلاب التي يدرّبها "حسن دربيل" لتحرس السيّد وقصره، والبشر الذين تحوّلوا إلى كلاب مع مرور الوقت، "داخل القصر، كلّنا كلاب باسطة الأذرع لا ننتبه أن لهاثنا لا يتوقّف! وكلّ كلب له مهمّة محدّدة، ينجزها ويعود لبسط ذراعيه، وعيناه لا تغفل عن سيّده، منتظرا إشارة أخرى ليؤدّي ما يأمره به".

صورة ميدان

أمّا الإحسان، الفضيلة التي أحبّها السيّد شذوذا عن هواه، فلا تعدو أن تكونَ "محض متعة انقشعت سريعا، وبقيت أعداد المتسوّلين تتوالد، ومع وصول ضجره إلى مداه، كانت تقف سيّارة مكافحة التسوّل لتقوم بمهمّتها وتعيد الهيبة لباحات القصر". (9)

 

هكذا كانت تذوب كلّ المتع وينخفض منسوب النشوة لدى السيّد، فقد "مَلَّ إتيان الفواحش، حتّى إنّه خصّص جائزة لمَن يأتي بسلوى جديدة لقلبه. اقترف كلّ المتع، وكلّما عَبَرَ إحداها، وجد أنّ الحياة تضيق به. استمتع بتشويه خدمه، واستمتعَ مع أخيه بشراء النكت، وجلب الراقصات والمغنيات من أصقاع الأرض، وتراهن على الزواج بالمشهورات من الفنّانات والمذيعات، واقتعدَ أكبر صالات القمار في العالم، وكانت مشاهدة إتيان خصومه آخر المبهجات التي وصل إليها". (10)

 

مع هذه الشخصية وتحت تأثير رغباتها المجنونة تسير أحداث رواية "ترمي بشرر"، فيُفَاجأ القارئ بكلّ حدث يقرؤه، وبكلّ فعل تقترفه هذه الشخصيات بما فيها السيّد، ويتساءل في أعماقه هل هذا ممكن؟

 

عنوان ميدان

مدينة جدّة ليلا
مدينة جدّة ليلا

تتجلّى لنا البراعة والعمق الأدبيين لعبده خال في اشتغاله الدلالي على الفضاء الروائي في "ترمي بشرر"، فسرعان ما يلاحظ القارئ جهد الروائي في حياكة مادّة مكانية تُكوِّن عنصرا خطابيا مُولِّدا للدلالة على طول العمل، وليس مجرّد ديكور شكلي حاضن للأحداث كما الحال في العديد من الأعمال التَخيلية التي تشهدها الساحة العربية اليوم.

"يوميا كان حمدان الغبيني يخترق شارعا صقيلا فخما امتدّ في نحر المدينة ليقسم الحياة إلى نصفين، فجرت الدنيا بين ضفّتيه لتستقرّ جنّة هنا ونار هناك". (11)

هكذا ندرك باكرا أنّ القصر والحيّ، مكانَيْ الإقامة والتنقّل الوحيدين في العمل، لا يفصل بينهما سوى شارع واحد فقط، ومع ذلك فإنّهما متضادان ومتناقضان حتّى في أصغر التفاصيل؛ فنرى أنّ القصر، الذي يسكنه السيّد، مُنيف عالٍ، بينما الحيّ ينمو في أرض وطيئة أشبه بالحفرة، أضواء القصر لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ومهما حاول أطفال الحيّ عدّها فشلوا آخر الليل وأذابهم النعاس، بينما الحيّ يبدأ بالغرق في ظلام حالك مع غروب آخر خيوط الشمس، القصر يمتدّ على مساحات لا يمكن للعين المجرّدة حصرها، بينما الحيّ ضيّق الأزقة متلاصق البيوت، رخام القصر ناصع البياض وساحاته خارقة النظافة، أمّا الحيّ فتفوح منه رائحة القذارة وتملأ أزقّته القاذورات. (12)

 

ولو أردنا الإيجاز بالفروق بين المكانين، لأعدنا كناية طارق عينها، عندما وصفَ الحيّ بالنار هنا، والقصر بالجنّة هناك.

"من هذا القصر ستخرج الحياة" (13)

يقول أحد سكّان الحيّ ويمضي، بينما يخرج طارق برفقة عيسى الرديني وأسامة مع شمل من أطفال الحيّ ليحصوا عدد أضواء القصر عبثا ويستشرفوا معا إمكانية أن تخرج حياة منه.

صورة ميدان

 

أمّا أهل الحيّ، الذين هم خليط من الوافدين المحلّيين والمغتربين، فلا وقت لديهم للتساؤل، فرجالهم يعملون بصيد الأسماك وبيعها في السوق صباحا وعند المساء، في المقهى أو في المنزل، تغدو الرجولة هي الشارة الوحيدة التي يلوّحون بها، أمّا النساء فيتجمّعن عند بعضهن لتبادل الأحاديث ونسج المكيدة والبحث عن "زيجة" هنا أو هناك. ويندفعون رجالا ونساء باتجاه الحياة التي اختاروا أن يعيشوها رغم قسوتها.

 

كان ذلك قبل أن يشقّ القصر الأرض أمامهم وتبزغ أعمدته، القصر الذي اعتقد الجميع أنّه سيكون فأل خير على الحيّ ولا بدّ من أن يحتفوا به، لا بل أن يسمّوا حيّهم باسمه، فيصير بدلا من حيّ جهنم أو النار أو الحفرة حيَّ القصر. ولكن هل ستخرج الحياة حقّا من هذا القصر؟

 

لربّما قلّب أطفال الحيّ (رواد القصر لاحقا) هذا السؤال في عقولهم وهم يطوفون على مياه البحر في شطآن جدّة، بحر يُعلِّمهم ويُشكِّل فهمهم للحياة يوما بعد يوم، بحر هو ملكهم؛ فيذهبون إليه يوميا ويخالطون أمواجه، ويعبثون به دون أن يخطر في ذهنهم خاطر أن تجفّ مياهه أو يختفي كأنّه لم يكن موجودا في يوم من الأيّام.

 

وما هو خاطر منسي بالنسبة للأطفال يبدو حقيقة يسعى مُلّاك القصر إلى إقرارها مع مرور الوقت. تنبّه إلى ذلك عمر القرش، شيخ صيادي الحيّ، فقال وهو يراقب الأسمنت يقضم البحر ويردمُ مياهه الشفيفة: "لقد حوَّل الفارسي جدّة إلى قطعة سكّر، وأولمَ عليها، ومع تكاثر الذباب كان البحر يجفّ". (14)

 

أمّا مَن تجرّأ من الصيادين وأخذ يدافع عن مربط قاربه فكان مصيره كمصير حامد أبو جلمبو، فهو "الوحيد الذي ظلّ يتطلّع لكلّ تلك الأتربة وهي تُفرش على مساحات واسعة من البحر دامع العين، ومنشئا كسراته التي لم تسعفه في مواجهة كلّ عمليات الردم، ولم يحتمل رؤية غابات الأسمنت تقتات البحر الذي ولد منه وعاش فيه، لم يحتمل ذلك، فقد اعترض بجسده أحد التراكتورات حین همَّ سائقه بردم مرسی قاربه الصغير، وحين انتُشِلَ من تحت التراب كان أهله يوسّعون له قبرا في مقبرة (حمد)". (15)

 

فلا أحد سيُطالب بالبحر بعد الآن. وما كانت الجنّة التي سمّي بها القصر إلا تصوّرا أوّليا أو سطحيا استنتجه أهل الحيّ فأطلقوا على ذلك المكان ما أطلقوه من تسميات، بينما كان القصر ينمو شيئا فشيئا على ركام أحلامهم وأمانيهم.

صورة ميدان

"على مدّ أبصارهم استقرّ القصر في الجهة الغربية ببواباته الضخمة التي تفتح آليا وتغلق على عجلة من أمرها خشية من تسرّب لهيب النار لمساحاتها الواسعة، وتغلق دون تلك الحياة البائسة المنبوذة في الجهة المقابلة لها، والمحصورة داخل حيّ حضن أجسادا مزّقها العَوَز، ونفوس بعثرتها الفاقة فخرجت تبحث لها عن مكان داخل الجنّة". (16)

إنّها الجنّة مقابل النار، ولكنّها جنّة ظاهرية تغوي شخوص الحيّ وتداعب تطلّعاتهم وتدفع بعضهم ليقول إن الحياة ستخرج منها، بينما هي في الحقيقة نار ولا تظهر كجنّة إلّا باقتياتها البطيء على أرزاقهم وجمال عيشهم وهوية مكانهم الذي وُلدوا فيه وكبروا وعاشوا.

 

لم تخفَ هذه الحقيقة عن راوينا، فاكتشفها بعدَ أن كَبُرَ بوصفه جلّادا في القصر تحت إمرة السيّد، فيقول طارق:

"الآن، ومن داخل القصر، أنظر إلى جهة النار، وأحلم بالعودة إليها، أتوق إليها بالرغبة نفسها التي كنت فيها شغوفا بدخول الجنّة. كانت الضربة قاصمة، أفقت من هولها وأنا أقف على حافة العمر، ولا شكّ بأنّ جميع مَن دخل القصر جلس مثل هذه الجلسة يعضّ أصابع الندم بطريقة لا يعرفها سواه". (17)

فما بدا متعاكسا ومتضادا في البنية المكانية لرواية "ترمي بشرر"، أصبح مع تقدُّمنا في السرد شيئا واحدا، نارا واحدة تُظلِّل كلّ فرد من سكّان الحيّ وتكويهم، بمَن فيهم أولئك الذين دخلوا إلى القصر/الجنّة؛ لندرك أنّ حياة أهل حيّ الحفرة كالقدر المحتوم لا مناص منه، ولكنّ سقوطا بطيئا تشرف عليه شراهة السيّد لقضم كلّ شيء وتحقيره.

 

نجد ذلك في أوّل زيارة لطارق فاضل إلى حيّه بعد عقود غياب: "ظلمة شرسة انقضّت على كلّ شيء، خفتت أصوات السهارى مع إيقاف الألعاب التي طالما تصايحوا كثيرا أثناء لعبهم، أو فوز فريق على فريق، وأحجار الدومینو تناثرت في غير استواء، وأوراق الكوتشينة عبث بها ريح عابر، والأزقّة الملتوية استوت أمام العابرين ليرتطموا بجدرانها المائلة، وتساوت السحنات، واختفت الألوان، وأضاءت الأصوات لتخترق تلك العتمة. كلّ شيء غارق في ظلمته، وبقيت إذاعة البرنامج الثاني تدفع بصوت طلال مداح كي يهرب من دوامة ذلك الليل البهيم". (18)

 

عنوان ميدان

"السقوط هو القانون الأزلي، وكلّنا ساقط لكن لا أحد ينتبه لنوعية السقوط الذي يعيش فيه. كما أنّ السقوط لا يحدث دفعة واحدة، فأثناء مراحل السقوط هناك تدرّج يُقاس بالمعيار الزمني قبل أن تعرف نتيجة سقوطك. رويدا سقطتُ، وها أنا أقتعد قرار السقوط". (19) ويُكمل طارق فاضل: "كنت سقطتُ قبل أمّي، وأبي، سقوط أبي أودعه التراب، وسقوط أمّي أودعها العزلة، وسقوطي أودعني الضياع".

كان عيسى الرديني (صديق طارق) أوّل مَن دخل إلى القصر، كان ذلك نتيجة إنقاذه للسيّد من الغرق عندما كانا طفلين، أوصى السيّد الكبير (والد السيّد) ابنه البكر (السيّد) أن يحفظ هذا الجميل ما ما دام حيا، وأن يكون أخا حقيقيا لعيسى الذي أنقذ حياته.

 

أمّا طارق فاضل فلم يدخل القصر إلا عندما أصبح شابا. في ذلك اليوم التاريخي خرجَ طارق فارًّا من منزل تهاني (عشيقة طارق) يركض وبين يديه دمّ الفتاة وشرفها الذي أهدره عن وعي أو بدونه. وفي الجانب الآخر خارج الحيّ كان عيسى بانتظاره ليقتاده إلى موعد مع السيّد، أو موعد مع قدر سيحدو به إلى السقوط.

 

في القصر تعرّف طارق إلى بشر لا شيء يقف في وجه رغائبهم الآنية، والمتدفّقة ناحية كلّ زاغٍ من خمر ونساء وقتل ولواطة وسَجْن وتعذيب، فداخل ذلك القصر يجتمع "خليط من الأعيان والأثرياء، لهم مرضهم الخاص، يرتدون ملابس ناصعة البياض، وصدورا معكّرة بما يموج في داخلها من شره مضاعف، ألسنتهم تحيك اللوم لأيّ شيء يعكّر صفو سهراتهم المتتابعة، أمزجتهم شفّافة، متقلّبة، يقترفون كلّ شيء، ويملّون من كلّ شيء. ملّوا البذخ، والمتع، وأخيرا ملّوا من أنفسهم، لا تعرف تحديدا ما الذي يبهجهم، وما الذي يريدون تحقيقه تحديدا، وما الذي يتآكل في داخلهم، وأيّ الطرق يريدون السير بها. متذبذبون، مهتزون كأصوات رخيمة خرجت من الحناجر من غير معنى". (20)

صورة ميدان

في القصر "توجد تلك العجينة من فاسدي الذمّة، يقيمون أضلاع المثلّث ليليا، فتُنْهش الضحية، ويسيل الدمّ، وتبقى الشهوة متجدّدة متأجّجة، متعطّشة للدمّ". (21) وفي القاع أو في جناح الجلّادين يعيش طارق وأسامة وكلّ هارب من الحيّ، يعيشون في "منطقة موبوءة السمعة، ولا تصلها إلا الأقدام الضالة، وإذا ظهر أحد تسري دمدمة بين موظّفي القصر عن ضحية قادمة سيسمعون صراخها وتوسّلاتها حالما يدخل أحد إلى بهو التأديب. أعداد كبيرة من الخدم والموظّفين يتحرّكون كما لو كانوا نملا يؤدّون واجباتهم بمثابرة مضاعفة، يعلّقون ابتساماتهم، ولا يلتفتون للخلف، ولا يحدّقون في الوجوه، ولا يحتاج المرء إلى معرفة وضع أيٍّ منهم، حيث تكفّلت بزّاتهم في تحديد مواقعهم داخل القصر". (22)

 

على صخب هذه الأجواء وصيتِها المنتشر، يندفع شباب الحيّ ممّن ضاقت بهم سبل العيش هناك ليعملوا عند سيّد القصر، أعمالهم تتنوّع بحسب ضيق أحوالهم ومهنهم السابقة أو عاداتهم التي أَلِفوها في الحيّ.

 

كانت مهمّة طارق في القصر أن يغتصب كلّ مَن تُشير إصبع السيّد إليه، أن يفعلها مرّة بعد مرّة، حتّى انتهى به الحال محتقرا كلّ شيء في الحياة، حتّى حياته التي يعيشها وماضيه القريب، أمّه وعمّته وأشقّاءه وحيّه، وتهاني التي هدرَ شرفها وأدّى بها إلى أن تكون ضحية جريمة شرف، غَسَل بها والد تهاني عاره.

 

تظلّ تهاني حاضرة، على طول السرد، في ذاكرة طارق رمزا للبراءة، ولماضٍ صار بمنزلة حلم بعيد ومشتهى في ظلّ سلطة سيّد الهرب منها أمنية بعيدة المنال، والتمرّد عليها يعني موتا محتوما. ولأنّ طارق اكتشف ذلك متأخّرا أقرَّ: "تهاني هي الحياة التي قفزت منها إلى النار". (23) "تهاني شعاع أراه وأنا مقذوف في أسفل الجبّ، في سقوطنا لا نتذكّر صرخاتنا التي نطلقها، ولا نتذكَّر نوع محاولاتنا للإمساك بالأشياء التي تقينا من السقوط، ولا نستشعر بالجروح التي تخطف دماءنا، فقط نهوي باحثين عن آخر عمق، نرتطم به حتّى إذا استقرّ قرارنا، عندها نتلمّس جراحنا ومواقعنا. أنا الآن أسفل السافلين، ولا أظنّ أنّ هناك أبعد من القرار الذي وصلت إليه". (24)

 

وفي سباق السقوط هذا، لم يكن غريبا ما واجهته شخوص روايتنا من مصائر. فقد قتل السيّد عيسى الرديني، الرجل الذي أنقذ حياته في الطفولة، لأنّه كان على علاقة مع موضي (شقيقة السيّد)، قتله بعد أن أفلس جميع حساباته البنكية، ما دفعه للجنون والجلوس عاريا ووحيدا يهذي في شوارع جدّة ويحكي طلاسم مفادها أنّه سينتقم من السيّد مهما طال الأمد.

 

أمّا طارق فاضل فقد هجر السيّد، بعد أن أجبره على تعذيب عيسى رفيق عمره، ورجع إلى منزل أخيه إبراهيم (إمام مسجد) وتعرّف بأبناء أشقّائه وذهبوا معا إلى الصلاة، وفي المسجد غسلَ دمعُه جسده الآثم. "كان آخر السقوط، استقرّت الأنقاض في مواقعها، فلمحتُ الغبار الكثيف ينبعث من داخلي، ويملأ فضاءات المسجد، فأغيب خلف أدمعي، أجهشت بالبكاء، وصوت إبراهيم يلاحق مردة عبثوا في داخلي، فتفيض روحي، وتتقصَّف". (25)

 

على هذه الحقائق تُبنى فلسفة السقوط في مجتمع الحيّ والقصر، في مجتمع "ترمي بشرر"؛ فالقاتل والزاني والمقامر والمخمور والسارق هو ذاته المتبرّع والمحسن والصديق والقاضي الذي يأمر بإعدامك إذا تطلّب الأمر، فيكون السقوط بذلك هو النتيجة الحتمية لجميع مَن حوله ولمَن يمكن أن يطولهم خاطره، حتّى باتوا جميعا بمَن فيهم طارق يتمنّون أمنية واحدة، "يتمنّون أن يقطفوا أنفاسه بأيديهم، ولن يشفيهم أن يروه يموت ميتة طبيعية". وعلى وقع قرار قد نضج عند طارق بقتل السيّد ينطفئ السرد في "ترمي بشرر". فهل قتله؟

 

عنوان ميدان

 

صورة ميدان

بعد انتهاء السرد من عرضه لآخر أحداث الرواية، ينتقل بنا عبده خال إلى ملحق عنوانه "البرزخ".

 

وبإمكاني هنا أن أُخمّن لماذا سمّي هذا المُلحق بالبرزخ (وهو بمنزلة الفصل الأخير من الرواية)؛ إذ أعتقد أنّ ما كُشِفَ يُشكِّل البرزخ أو الحدّ الفاصل بين الحقيقة هناك، في جدّة المدينة الواقعية، وبين الخيال هنا، في حيّ وقصر "ترمي بشرر".

 

في البرزخ يكشف لنا الروائيّ أنّ كلّ ما سُرِد في هذه الرواية إنّما هي حقائق رواها له طارق فاضل في لندن بعد أن التقاه مصادفة في منتزه الآيس لاند. ففي هذا البرزخ، كما يخبرك الروائي، ستجدُ "بقايا أطعمة أبقت روائح ملتهميها لتُدلِّل على طبقتهم، أو تجد حدثا لا معنى له بالنسبة لك، أو تجد أشخاصا لا تعرفهم وليس لهم علاقة بما تبحث عنه". (26)

 

هنا نعرف أنّ طارق فاضل قد حاول قتل السيّد إلا أنّ حارس الأمن أردى طارق قتيلا قبل أن يفعل هوَ بالسيّد. كما نقرأ عشرات الأسماء التي نُسبت إلى النساء اللواتي كنَ من روّاد القصر، مع بطاقات تعريف مقتضبة بكلّ واحدة منهن.

 

لم نستطع التأكّد من صحّة هذه التقارير، ولم نجد تصريحا للروائي يؤكّد أو ينفي ما قدّمه في "البرزخ"، لذلك يمكننا اعتبارها خدعة روائية أو حقيقة واقعية، وفي كلتا الحالتين نكون أمام مأساة مجتمع مقهور يرزح تحت وطأة طبقة من الأسياد أو الأمراء الذين لم يسلكوا في هذه الحياة سوى مسلك استلاب البشر والتنكيل بهم والعبث بحيواتهم كأنّما هم دمى بشرية لا أرواحا تستحقّ الرحمة والاحترام والحرّية.

———————————————————————————————————————–

المصادر

(1): رواية ترمي بشرر، عبده خال، منشورات الجمل، طـ2009، صـ12.

(2): المرجع ذاته، صـ 8.

(3): المرجع ذاته، صـ 15.

(4): المرجع ذاته، صـ 14.

(5): المرجع ذاته، صـ 7.

(6): المرجع ذاته، صـ 79.

(7): المرجع ذاته، صـ 117.

(8): المرجع ذاته، صـ 191.

(9): المرجع ذاته، صـ 174.

(10): المرجع ذاته، صـ137.

(11): المرجع ذاته، صـ 34.

(12): اعتمدنا في التحليل على نظرية التقاطبات المكانية، ألقِ نظرة على: بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، طـ1990، صـ33.

(13): رواية ترمي بشرر، عبده خال، منشورات الجمل، طـ2009، صـ27.

(14): المرجع ذاته، صـ 55.

(15): المرجع ذاته.

(16): المرجع ذاته، صـ37.

(17): المرجع ذاته، صـ 34.

(18): المرجع ذاته، صـ 125.

(19): المرجع ذاته، صـ 44.

(20): المرجع ذاته، صـ 117.

(21): المرجع ذاته، صـ 206.

(22): المرجع ذاته، صـ 44.

(23): المرجع ذاته، صـ 202.

(24): المرجع ذاته، صـ 203.

(25): المرجع ذاته، صـ 378.

(26): المرجع ذاته، صـ 384.

المصدر : الجزيرة