شعار قسم ميدان

أمير الشعراء.. هل ينسجم الشعر مع منظومة الاستهلاك؟

ميدان - أمير الشعراء
في الرواية القصيرة "هيا نشترِ شاعراً" لأفونسو كروش، تناقش الرواية الحالة اللاشعرية التي تسود مجتمعات الدولة الحديثة؛ حيث أصبحت المجتمعات حبيسة المخططات الاقتصادية المرهونة -بدورها- لسلطة الأرقام؛ مما أدى -في النهاية- إلى تحول الكائن الإنساني بكل ما يحمله من قيم إنسانية وعاطفية إلى مجموعة من الأرقام الفارغة من المعنى، أو من الخيال.

 

وعلى العكس من هذه الرؤية المتشائمة للحياة الحديثة، تؤكد هيئة الثقافة في "أبو ظبي" محاولتها الحفاظ على حضور الشعر وإحيائه، وإبرازه كواجهة أصيلة للثقافة العربية، قبل أن يكون محاولةً للحفاظ على الخيال الذي يرثيه كروش في روايته؛ وذلك ضمن السياسة العامة للإمارات التي تحاول من خلالها الموازنة بين الهوية والأصالة العربية من جهة وبين الموجة العارمة للتحديث المتسارع على صعيد نمط الحياة أو العمران في إماراتها السبع، فهل نجحت في ذلك بالفعل؟

 

انطلق برنامج أمير الشعراء في نسخته الأولى 2008؛ ليكون أضخم مسابقةٍ شعرية غير مسبوقة من حيث التغطية الإعلامية والتفاعل الجماهيري والقيمة المالية للجائزة التي تتجاوز مليوني درهم إماراتي؛ إنها المسابقة التي تحقق حلم كل شاعر في الشهرة والثراء معاً، وهو أمرٌ جعل من المسابقة ذات حضورٍ واسعٍ في الأوساط الثقافية والشعبية، وقد بدا هذا الإقبال على المشاركة في البرنامج أو متابعته إشارةً إلى نجاحه في بث الدماء في روح الشعر العربي، من خلال منح الشعراء منصةً عالية لقصائدهم، وجمهورا واسعاً لمتابعتهم، غير أن بعض الأسئلة تزامنت مع وصول البرنامج إلى نسخته السابعة هذا العام، والتي جاءت مختلفة بعض الشيء عن المواسم السابقة.

 

هل يمكن للمسابقات الممولة أن تخدم حركة الشعر الحديث؟


اشتهر المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية باهتمامه بالشعر، فقد أقام هذا المجتمع المفتون بالبلاغة المسابقات الشعرية -وأشهرها سوق عكاظ- كمظهر من مظاهر التقديس للفصاحة والخيال، وكانت المعايير قائمةً على حسٍّ انطباعي يعتمد الذائقة المرهفة للعربي البليغ؛ مما جعل الأحكام النقدية أحكاماً شمولية، وغير مبررة لغوياً في أغلبها
[1]، وإن تمَّ تبريرها فلن يتجاوز هذا التبرير اللمحات الخاطفة والملاحظات السريعة.

 

مع تطور الحركة العلمية في القرون اللاحقة، كانت بداية الاعتناء بدراسة الشعر دراسةً أكثر موضوعيةً تعتمد على تحليل مستوياته اللغوية والمعنوية والبلاغية، ووُجدت معايير أكثر علميةً من أجل القيام بهذه المهمة، خففت من الأحكام الشمولية المطلقة لصالح أخرى تعتمد الموازنات والمقارنات.[2]

 

في العصر الحديث بدأت حركة النقد العربي -متأثرةً بالنظريات النقدية الغربية النصية وغير النصية- تتجه نحو مهمة جديدة للنقد غير مهمته القديمة القائمة على "تمييز النصوص الجيدة من الرديئة"؛ إنها مهمة قائمةٌ على اكتشاف الجماليات التي لن تأخذ طابع "الحكم" بل "التفسير"، وهو الرأي الذي تبنَّاه الناقد المصري محمد عبد المُطَّلِب حين رأى أن مهمة الناقد -وفق النظرية الأسلوبية- تتجاوز إصدار الأحكام إلى مهمة تفسير الجماليات، وأن الحكم الوحيد غير المباشر للناقد يتمثل في عملية اختياره للنص محطَّ الدراسة، فاختياره يعني أهليته الجمالية.

 

وبينما كانت الحركة النقدية العربية تتوجه إلى مدارات مختلفة أسلوبية وبنيوية وتفكيكية وسيميائية ونفسانية واجتماعية وثقافوية، جاء برنامج أمير الشعراء ليعود مرةً أخرى إلى وضع الشاعر محطَّ اختبار وتقييم رياضي، يتم عبر منحه مجموعةً من الدرجات من لجنة التحكيم، وأخرى عبر أصوات الجمهور، وهذا ما تقتضيه طبيعة أيِّ مسابقة، فمسألة الفوز والخسارة هي الجوهر الذي تدور حوله المسابقات، وهو ما يرتضيه الشعراء المشاركون رغبةً منهم في تحقيق الشهرة والثراء، ولكن كيف ينعكس هذا الأمر على حركة الشعر العربي الحديث؟

 

يبدأ النقاش من شروط المسابقة التي تفرض أن تكون القصيدة المقدَّمة إما قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية، فيما تؤكد عدم قبولها قصيدة النثر، ثم تفرد فقرات خاصة للمجاراة الشعرية كنوعٍ من قياس التمايز الإبداعي لدى الشعراء، ومقدرتهم على النظم الموسيقي والإيقاعي، وهو ما يطرح تساؤلاً حول بقاء الإبداع الشعري العربي محصوراً في الجانب الموسيقي منه، ومدى توافق ذلك مع موجات التحديث الشعري الحاصلة في السنوات الأخيرة.

 

في هذا الموسم لم تحظَ حتى قصيدة التفعيلة بحضورٍ جيد في حلقات المسابقة؛ فلم يتجاوز عدد قصائد التفعيلة عدد أصابع اليد الواحدة، بينما سيطرت القصيدة العمودية على بقية المشاركات، وقد كان الشاعر حسن بعيتي المشارك في المواسم السابقة أجاب على سبب طغيان قصيدة البيت على قصيدة التفعيلة بالقول: قدمت نفسي كشاعر تفعيلة، ولكن لا أعرف لماذا يجبر البرنامج الشاعر في المراحل المتقدمة على تقديم نصوص بيتية.[3]

 

بالرغم من ذلك أصرَّ الشاعر عبد الله بيلا على أن يشارك بالنص الذي يمثِّل توجهه الشعري، وهو ما اعتبره "مغامرة"؛ إذ إنه يعلم أن "النكهة الكلاسيكية للنص الشعري العمودي محبّبة جداً لدى الجمهور وجُل لجنة التحكيم، وهذه من الطوام الكبرى التي يعانيها الشعر الحديث؛ لأنّ الواضح أنّ سفينة الشعر الذي يُراد التسويق له تسير إلى الخلف."

 

وحول هذا التفضيل لقصيدة البيت، يقر فيصل عبد الوهاب في مقال "المسابقات الشعرية في الفضائيات العربية والشعر الحديث" المنشور في كتابه "بلورات من الحكمة" أن إقصاء قصيدة النثر هو "عدم اعتراف صريح من جهات رسمية معينة بهذا النوع من الشعر وتكريس للشعر العمودي كشكل استمدَّ شرعيته من عمق بعيد في الزمن، وهذا معناه نسف لمنجزات أكثر من نصف قرن في إطار الشعر الحداثوي، وتراجع كبير بالذائقة العربية في هذا السياق". لكنه يستدرك هذا الإقرار بأن الطبيعة الغامضة لقصيدة النثر الني نفَّرت الجمهور من الشعر من جهة، ومقدرة الشعراء المشاركين على تضمين قصائدهم العمودية محتوىً حداثياً من جهةٍ أخرى يجعلانه يتراجع قليلاً عن موقفه من هذا الإقصاء.

 

اللافت للنظر أن الناقد صلاح فضل، وهو أحد أعضاء لجنة التحكيم، كان ممن أقروا قصيدة النثر كإحدى مراحل تطور الشعرية العربية، وقد قدم دراسة حول قصيدة النثر عند الشاعر محمد الماغوط، وقد أقر هذا الشكل الشعري كمرحلة من مراحل تطور الشعرية العربية؛ لكنه يتبع سياسة البرنامج في إقصائها، فهل يكون الماغوط مقبولاً كشاعر خارج المسابقة، منبوذاً داخلها؟

 

إن هذا التساؤل يقود إلى الحديث عن هذا الارتباط الذي قيَّد الثقافة العربية بشكلٍ عام، والشعر بشكل خاص، بمؤسسة السلطة والمال، وما يثيره هذا الارتباط المريب من تساؤلات حول إمكانية أن ينتج هذا الارتباط حالة إبداعية حقيقية غنية ومتنوعة للثقافة والشعر.!

 

هل جيل الشعراء الشباب صوفيٌّ بالفعل؟


في حين كانت المواسم الأولى من "أمير الشعراء" تحفل بتجارب شعرية لشعراء ذوي أعمار متفاوتة؛ فإن المواسم الأخيرة بدأت تحتفي بقدرٍ أكبر من التجارب الشعرية الشابة التي لا تزال في بداية مشوارها الشعري، وربما يمثل الموسم السابع ذروة هذا الحضور المتوهج للطاقات الشابة.

 

غير أن الملاحظة اللافتة للجنة التحكيم هو سيطرة الروح الصوفية على كثير من النصوص التي قدمها هؤلاء الشعراء، وقد ذكر الناقد علي بن تميم -في معرض تعليقه على قصيدة الشاعر وليد الخولي- بأن شعراء الموسم السابع متأثرون بالصوفية، وكأنهم يبحثون عن شكلهم الديني الخاص، وهو ما يلحظه المتابع للقصائد المشاركة والتي كانت في معظمها تدور حول تجارب ذاتية تمت فلسفتها لتوضح رحلة البحث عن المعنى، هذا البحث الذي أخذ طابعاً صوفياً احتفى ببلاغة الصورة، وحاول تشكيلها بطرقٍ مختلفة خروجاً من رتابة الشكل العمودي.

 

لكن السؤال الذي يطرحه المتلقي حول طبيعة هذه التجربة الصوفية سؤالٌ مشروع، فما مقدار إقناع الشاعر للمتلقي بتجربة التيه والألم والإحساس بالعدم؛ بينما هو مشارك في مسابقة شعرية ستنتهي بالاحتفال بالفوز بلقب إمارة الشعر ومبلغٍ مالي معتبَر؟ وهو ما التفت إليه الشاعر كريم رضى حين قال إن المسابقات جعلت التصوير والتخييل ركيزة أساسية في القصيدة، وعملت على تقليل المباشرة الفجة في القصيدة وتغليب المجاز إلى أبعد حد، غير أن هذا الاحتفاء بالمجاز أصبح اليوم مشكلة، فقد صار الشعر نصاً فقط، وتقلصت بنية الموضوع إلى أدنى حد.

 

وإذا كان الموسم السابع قد شهد حضوراً لهذه النزعة الصوفية المحتفية بالبلاغة؛ فإنه يجدر الانتباه إلى تراجع حضور القضايا الواقعية التي تشغل الجيل العربي الشاب باعتباره جيل الثورة والربيع العربي، إذ لم تقدم أغلبية القصائد رؤيةً للواقع الإشكالي الذي يعانيه هذا الجيل الذي عاش زمن الثورة، ثم انقلاباتها الخريفية المفاجئة، وفضَّلت الانسحاب إلى عالم الرؤى والطيوف والنايات الناعمة، ربما لكي لا تتورط في الخوض في سياسات ترفضها الدولة المستضيفة، وهو ما يعني خسارة نقاط في المسابقة.

 

وهو ما كان قد أشار إليه سالم بوجمهور حين رأى أن خطورة برامج الشعر ومسابقاته تبدو في الشروط التي تضعها إدارة البرنامج على القصائد التي يلقيها الشعراء خلال البرنامج؛ لتحصرها في نوعية معينة من القصائد، وبالتالي يلتزم الشعراء بهذه القصائد والشروط الموضوعة، وهو ما يمثل توجيها للقصيدة العربية؛ توجيها رياضياً يخضع لشروط مسبقة.

 

هل يمكن أن ينسجم الشعر مع منظومة الاستهلاك؟
التصويت الذي يقدَّم كحالة من مشاركة الجمهور في اختيار شاعره المفضَّل، على اعتبار أن المتلقي هو الناقد الثاني للقصيدة؛ هو مصدر للربح
التصويت الذي يقدَّم كحالة من مشاركة الجمهور في اختيار شاعره المفضَّل، على اعتبار أن المتلقي هو الناقد الثاني للقصيدة؛ هو مصدر للربح

لقد جاء برنامج أمير الشعراء متزامنا مع سلسلة من برامج المسابقات المبنية على ذات الفكرة في مجالات الفن والغناء مثل برنامج "عرب أيدول" و"إكس فاكتور" وغيره، فكانت الفكرة المطروحة أن مواهب الشعر ليست أقل من هذه المواهب التي تعرض على الشاشات ويتفاعل معها الشارع العربي بشكلٍ جيد.

 

تقوم فكرة هذه البرامج في الحقيقة على فكرة ربحية بحتة، فالإعلانات التي تتخللها والتصويت برسائل "SMS" يعود على القناة بأرباح كبيرة، يذكر أن الرسائل التي وصلت برنامج عرب أيدول على سبيل المثال حققت -حسب بعض التقديرات- ما يقارب 10 ملايين دولار طوال مدة البرنامج.[4] هذا الحضور لفكرة "الربحية المادية" كان أقل حدة في نسخة برنامج أمير الشعراء، خاصةً في ظل دعم هيئة الثقافة في أبو ظبي للجائزة، غير أنها لم تخلُ منها تماماً، فالتصويت الذي يقدَّم كحالة من مشاركة الجمهور في اختيار شاعره المفضَّل، على اعتبار أن المتلقي هو الناقد الثاني للقصيدة، هو مصدر للربح أيضاً.

 

وهو ما جعل الشاعر السوري حكمت حسن جمعة يقرَّ بأن هناك عوامل أخرى غير شعرية تتحكم في المسابقة، فيرى أن مسألة التصويت إشكالية؛ لكنه يؤكد أنه لا بد منها في برنامج إعلامي متلفز، والتصويت يخضع لاعتبارت قبلية وجغرافية وإقليمية. أما الإعلامي الكويتي علي المسعودي فإنه قد دعا إلى عدم التصويت على المسابقات الشعرية؛ لأن التصويت عبر رسائل الجوال "يستنزف أموال الجمهور" من جهة، ومن جهةٍ أخرى يقود إلى "تسليع الثقافة".

 

وفي فيديو مصور نشره شعراء مشاركون في المسابقة -على سبيل المزاح- كتب الشعراء قصيدة جماعية يلمحون فيها إلى اليأس من التأهل عبر التصويت في حال كانت المنافسة مع شاعر موريتاني، وهو ما تكرر في المرحلتين بالفعل،  فقد حاز الشاعر الموريتاني شيخنا عمر في الحلقة ما قبل الأخيرة على أقل درجة من قبل لجنة التحكيم، وهو ما أغضب الشعراء الموريتانيين واعتبروه إهانةً مقصودة لهم، ثم كانت المفاجأة في الحلقة الأخيرة حين تمَّ إعلان تأهله للمنافسة على المراكز الخمس الأولى؛ بينما خرج الشاعر العماني ناصر الغساني بسبب التصويت.
 

فيديو القصيدة التي نظمها الشعراء مازحين فيما يخص مسألة التصويت

  
لا يتوقف الأمر عند الطبيعة الربحية التي تدخل في المنظومة الاستهلاكية التي تدور فيها كثير من القنوات الفضائية العربية؛ بل امتد ذلك إلى الشكل الإخراجي والمسرحي للبرنامج، والذي تنامى مع كل نسخةٍ جديدةٍ منه.

 

هذا الشكل الإخراجي الذي يتضمن المبالغة في مَسْرحة المنصة؛ بدءاً من النظام الصوتي والضوئي، ومروراً باستخدام الشاشات لعرض مشاهد تناسب مضمون القصيدة، والخلفية الموسيقية للإلقاء الذي أصبح متشابهاً إلى حدٍّ ما، وليس انتهاءً بالأزياء اللافتة التي تظهر كمَّ العناية بحضور الشاعر الشكلي، خاصةً في حالة الشاعرات اللاتي كان حضورهن لافتاً هذا العام؛ إذ مثلن نصف عدد المشاركين، وأضفين على القصائد المشاركة صبغة أنثوية أو نسوية مثيرة للانتباه، وهو ما يطرح السؤال حول ما إذا كانت القصيدة تقدم نفسها للجمهور بالفعل، أم أنه يتم إخراجها له بطريقة فنيةٍ عالية بهدف زيادة المشاهدة؟

المصدر : الجزيرة