أدب دوستويفسكي.. هوامش على الألم والغضب والغربة
– "رازوميخين"، في رواية الجريمة والعقاب
كان "دوستويفسكي" مفتونًا بالإنسان، مأخوذًا بتعقيداته؛ ليصبّ كل اهتمامه الأدبي على فهم طبائع البشر، وإدراك اختلافاتهم، والنفوذ إلى أعماق أرواحهم ورسم صورة كاملة عن مختلف أشكال حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم؛ إنه يحاول استكشاف سلوك الإنسان باعتباره كائنًا غير منطقي؛ تتأثر أحلامه ومخاوفه وآلامه بأشكال مختلفة لا تتبع منطقًا واضحًا، أو طريقًا واحدًا.
ربما تستطيع عبارات "رازوميخين" أن تعبر عن نموذج متكرر في روايات الأديب الروسي الكبير، إنه يحاول باستمرار أن يضع القارئ أمام هشاشة الإنسان وضعفه وعجزه، وبحثه الدائم عن مصدر ارتواء يتمنع عليه أبدًا؛ فلا هو يرتوي ولا هو يدرك سبب الظمأ.
تقوم روايات دوستويفسكي على المعارضة بين إرادة الإنسان ومصيره الذي لا فكاك له منه، الإنسان الذي ينخرط مدفوعًا بالأمل والرغبة في وجود لا يفهمه، ولا يستطيع أن يمتلك المعاني فيه امتلاكًا كاملًا أبدًا؛ يطلق أستاذ النقد الفرنسي "رينيه ماريل ألبيريس" في كتابه "تاريخ الرواية الحديثة" اسم "الرواية المفجعة" على النوع الأدبي الذي ولد بولادته.
يحاول هذا التقرير عرض وجهات نظر عدة بتركيز أكبر على آراء "ألبيريس" والأديب الروسي "فلاديمير نابوكوف" في ما كتبه الروائي الكبير الذي شهد الأدب بأعماله شكلًا لم يسبقه إليه أحد، في غزارة الشخصيات وكثافتها.
يحاول دوستويفسكي عرض ما في الإنسان من "فجيعة روحية" بتعبير "ألبيريس" ويختار في كتاباته الكلمات الأشد سوداوية؛ لوصف حالة شخصياته ومعاناتهم. حين بدأ دستويفسكي مسيرته الكتابية بالترجمة من الفرنسية، كان يختار أكثر المرادفات الروسية كابوسية وسوداوية، يبسط دستويفسكي سرده المشوق على كثير من الحوادث التي لا رابط ظاهري بينها؛ لتجتمع كلها خالقة فجيعة ما، وألمًا هائلًا؛ وكأنه لا يريد أن يترك قارئه دون أن يجعله يرتجف ألمًا وإشفاقاً على معاناة الإنسان وعجزه أمام مصيره.
يبعث دوستويفسكي النفس الإنسانية من مواتها كما يقول "ألبيريس" ولكن ليس بالفضيلة؛ بل بالخطيئة، واكتشاف النقص والألم الكامن فيها، إنه يعادي كل ما يبدو مثاليًا وكاملًا، ويعري في شخصياته الدوافع الخفية حتى للحظات التعاطف الإنساني مع الضعفاء. قد تبدو لحظات كهذه خيرًا مطلقًا؛ لكنه يكشف تحتها طبقات من التعقيد، مثل الفضول للتعامل مع أشكال الحياة الأخرى، أو المتعة السادية في مشاهدة معاناة بشر معذبين، أو الرغبة في الإحساس بالقوة، أو بالتعالي الأخلاقي. في كتابه "محاضرات عن الأدب الروسي" اعتبر "نابوكوف" أن "دوستويفسكي" ظل طوال حياته يعرض في أعماله ذلك الصراع المحبب إلى نفسه؛ صراع من يتحلّون بالفضيلة ضد ظروفهم القاسية، معتقدين أن فضيلتهم ستصمد. يضع دوستويفسكي شخوصه -الذين تملؤهم قناعات أخلاقية بعينها- في ظروف مثيرة للشفقة؛ ثم يستخلص من معاناتهم ومحاولاتهم للنجاة بأنفسهم آخر قطرة ممكنة من التعاطف والارتباك الإنساني. حاول "دوستويفسكي" في أعماله اكتشاف قدرة البشر على تبرير الخطيئة والتلاعب والخديعة؛ سواء خداع النفس أو الآخرين، في شتى أشكال العلاقات البشرية. في "الزوج الأبدي" يتطرق دوستويفسكي لقدرة المرأة على التلاعب بزوجها. في "حلم رجل مضحك" يحاول أن يسبر أغوار رجل يقنع نفسه بأن الحياة لا معنى لها، وأن العالم مجرد من كل غاية نبيلة؛ ليرى كيف تؤثر هذه الفكرة على نزعات الشر الكامنة فيه. الخلاص بالخطيئة، والتفوق الأخلاقي للمعاناة على النعيم، والرضوخ على الصراع؛ هي أفكار عُرضت ونوقشت باستفاضة في روايات أوروبية أخرى كثيرة من قبله؛ ربما بهذا يصبح "دوستويفسكي" الأديب "الأكثر أوروبية" من بين الكتاب الروس؛ على الرغم من كونه أكثرهم كرهًا للغرب أيضًا. دوستويفسكي نفسه إذن صورة للتناقض الذي يحاول عرضه في أدبه كحتمية لا مفر منها في حياة الإنسان. إذن فالإسقاطات الدينية والتعبيرات المسيحية حاضرة باستمرار في أعماله؛ لكن بطريقة تمثل طفرة عن ما اعتاده أسلوب الرواية المثالي؛ مثل التعبيرات الجمالية المبالغ فيها، والنهايات السعيدة، وافتراض وجود الاختيار الصحيح والقرار المثالي، بشكل يتجاوز طبيعة العالم؛ أو كما يرى "نابوكوف" أن شخوص دوستويفسكي يستمرون في إراقة دم المسيح؛ ليصِلوا إليه. بعبارة أخرى، ابتكر دوستويفسكي ما يسميه النقاد الرواية المسيحية الجديدة، بهذا، تكون رواياته تتاليًا لحوادث إنسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى هي مغامرة لا تستطيع أن تهتدي إلى معنى؛ إن عنصرًا مختلفًا في ماهية الإنسان يحاول أن يتداخل مع حياته الأرضية ومع سيكولوجيته المعقدة. يحاول دوستويفسكي البحث عن هذا العنصر بالاتجاه للاهوت؛ لكن هذا الحضور المسيحي الكثيف لا ينتصر لتفوق الإنسان الأخلاقي ولا الديني؛ بل على العكس تمامًا، لا شيء أخلاقي في رواية الجريمة والعقاب، ولا الإخوة كارامازوف.
كانت أعمال دوستويفسكي أقرب إلى النزعة الواقعية التي اجتاحت الفنون في عصره؛ لتعرض الحياة المعاصرة باعتياديتها اليومية، مع نزعة من الرومانسية والسخرية التي يفيض بها أدبه؛ لكن على الرغم من اعتباره أديبًا واقعيًا؛ إلا أنه يصر على تسمية أدبه بالواقعي الخيالي. يحاول دوستويفسكي إدخال ما هو استثنائي ورائع في أكثر اللحظات اعتيادية، وعرض تداخل الوضيع مع النبيل، وتماهي الحدود بين ما هو خير وما هو شر.
الفروق الطبقية بين الغني والفقير وصاحب السلطة والعامي كانت موضوعًا أساسيًا لأعماله الأولى، وكانت تتأثر بالأحداث السياسية والاجتماعية لعصره؛ لكن تجربة حركة المقاومة السرية التي انخرط فيها تركت أكبر الأثر على نفسه. حُكم عليه بالإعدام، ووقف في البرد القارس تحت حبل المشنقة في انتظار جلاده؛ ليأتي الخبر أن الحكم قد تغير إلى 4 أعوام في سجن سيبيريا المرعب؛ بعد خروجه من السجن، تخلت أعماله عن واقعيتها الرومانسية، وأصبحت أكثر اهتمامًا بدراما الحياة التي تعجّ بالتعقيدات النفسية والفلسفية.
يعتبر "ليونيد جروسمان" كاتب سيرته الذاتية؛ أن دوستويفسكي مؤسس لمدرسة جديدة في فن الرواية، يُشيد فيها صرحًا فنيًا أصيلًا؛ قوامه أشكال أدبية متنوعة ومختلفة، إنها خليط متجانس بين النص الديني، والنقاش الفلسفي، والعرض الساخر. يشتبك دوستويفسكي مع الإشكالات الفلسفية والاجتماعية العميقة بأدوات رواية المغامرات، كوسيلة لاختبار الفكرة وتعريضها لأقصى احتمالاتها.
يرى الفيلسوف والمنظر الأدبي "ميخائيل باختين" أن "الفكرة" هي محور الشاعرية الروائية عند دوستويفسكي، ويصفه بأنه مبدع الرواية "البولوفونية" أو "متعددة الأصوات" أي أن الأفكار يتم عرضها بتنويعات كثيرة تتشابك وتتعايش وتنافس بعضها بعضًا؛ دون تدخل فوقي من الراوي. هذا الشكل من الرواية هو الذي سمح لخليط من الأجناس الأدبية المتنافرة أن يخلق عملًا فنيًا متجانسًا وناجحًا في النهاية.
لم يعتبر "دوستويفسكي" نفسه فيلسوفًا أبدًا. وصفه الفيسلوف "فلاديمير سولوفوي" بالمفكر العتيد؛ الذي هو حكيم وفنان أكثر من كونه منطقيًا؛ ربما لهذا تتسم الحوارات والتعابير والحركات في أعماله دائمًا بالمبالغة الفنية؛ لا الدقة الفلسفية. تحاول المبالغة تسليط الضوء على اللامنطقية و المخالفة للمألوف، وتحاول أن تكون أداة للتعبير العاجز عن عمق المأساة.