شعار قسم ميدان

من مدينة الصين المحرمة إلى معابد اليونان.. كيف نجحت مباني القدماء في مقاومة الزلازل؟

هناك مقولة (1) أميركية شهيرة تقول: "الزلازل لا تقتل البشر، المباني هي التي تقتلهم"، وبقليل من التأمل ستعرف أن هذا هو ما يحدث بالفعل، لو كنت واقفا في أرض زراعية أو صحراوية خالية من المباني، فلربما لن يصيبك الزلزال بسوء، لكن الكوارث تحدث حينما تنهار تلك المباني الثقيلة على رؤوس أصحابها. ولذلك، وعلى مر العصور، كانت هناك علاقة وطيدة بين الزلازل والمعمار، حيث سعى البشر عبر السنوات إلى استكشاف الطرق المثلى لتشييد المباني من أجل تجنب، أو على الأقل تخفيف، الكوارث عند سقوطها.

لا تعد هذه العلاقة وليدة العصر الحديث، فقد عرفت الحضارات القديمة الزلازل، وإن لم تفهم أسبابها الجيولوجية، وحاولت التغلب عليها ونقل المعرفة للأجيال القادمة، سواء عمدا أو دون عمد، ولم تتوقف علاقة الحضارات القديمة بالبناء والزلازل على السعي لتجنب الخسائر، بل يظن العلماء أن بعض الحضارات قد غيرت طريقة بنائها سعيا لاستغلال بعض آثار الزلازل لصالحها.

وفي وقتنا الحالي، يبذل الجيولوجيون والمهندسون المعماريون جهودا لتطوير فلسفة بناء تحمي البشر قدر الإمكان من مخاطر هجمات الزلازل، لأنه رغم كل هذا التطور العلمي الذي وصلت إليه البشرية لا يزال من الصعب التنبؤ بمكان الزلازل القادمة وقوتها، ولذلك يجب أن نكون مستعدين دائما.

الصين.. مبانٍ صمدت 600 عام أمام 200 زلزال!

تتعدد الأخبار القادمة من الصين حول المباني المقاومة للهزات الأرضية، ما يجعل بكين أحد الرواد العالميين في هذا المجال. ولكن هذا التطور الذي وصلت إليه الصين في بناء مبانٍ مقاومة للزلازل قد تصل إلى 100 طابق لم يحدث بين يوم وليلة، بل هو نتاج إرث طويل من تناقل المعلومات وتطوير فلسفة البناء لدى الصينيين بدأ من المدينة المحرمة.

تعرف المدينة المحرمة(3) بصمودها في وجه أكثر من 200 زلزال على مدار أكثر من 600 عام، وهو ما يجعلها أحد أبرز المعالم التاريخية في العاصمة الصينية بكين، وتحتوي المدينة على قصر كبير سكنه 24 إمبراطورا على مدار 6 قرون، ويحوي القصر قرابة مليون قطعة أثرية. كما تتضمن مباني تعتبر من أكثر المباني مقاومة للزلازل، فقد دفعت هجمات الزلازل على تلك المنطقة سكانها إلى تطوير فلسفة البناء لديهم لمقاومة للهزات الأرضية القوية، وهي فلسفة جرى تطويرها وتوارثها عبر الأجيال.

بَنَت العمارة الصينية التقليدية منازل ومنشآت يمكنها الصمود نظريا في وجه زلازل تصل شدتها إلى 10.1 درجة على مقياس ريختر، وهو أعلى من أعلى رقم مسجل في تاريخ الزلازل وهو 9.1 على المقياس(4). في الواقع، العلماء مقتنعون أنه لا يمكن أصلا أن يكون هناك زلزال طبيعي بمقياس 10 درجات، ومع ذلك، قام فريق من المهندسين بالفعل بتجريب هزات تصل قوتها إلى 10 درجات على مبان مصممة بطريقة المدينة المحرمة، ولم تقع

الـ"دوجونج".. سر صمود المعمار الصيني

في التجربة السابق ذكرها (4)، اكتشف المعماريون أن واحدا من أهم عوامل صمود مباني الصين القديمة هو تقنية البناء التي يطلق عليها "دوجونج" (Dougong)، وتعني حرفيا غطاء أو كتلة، وهو عبارة عن عنصر هيكلي يتضمنه المبنى ويتكون من أقواس خشبية.

هيكل الدوجونج من أكثر الأشكال المعمارية المقاومة للزلازل، وقد ساعد هذا التشكيل الخشبي العديد من المباني على الصمود أمام مئات الزلازل المدمرة. (شترستوك)

تلك الأشكال لا يُستخدم في بنائها مسامير أو غراء، وترتكز فكرتها على أن تنقل الأقواس المتشابكة الوزن إلى أعمدة رأسية؛ ما يقلل الضغط على الحزم الأفقية. من وجهة نظر الميكانيكا الإنشائية، فإن هيكل الدوجونج من أكثر الأشكال المعمارية المقاومة للزلازل، وقد ساعد هذا التشكيل الخشبي العديد من المباني على الصمود أمام مئات الزلازل المدمرة، ويعود الفضل في ابتكار هذا الشكل الخشبي -الذي يجب أن يُبنى على يد نجارين محترفين- إلى مهندسي الصين القدماء(5).

في كتابه "الخشب والمفاصل الخشبية: تقاليد البناء في أوروبا واليابان والصين"(6)، يوضح المؤرخ "كلاوس زويرجر" أن أنظمة البناء في الثقافة الصينية القديمة اعتمدت على النسبة والتناسب، وهذا أمر لم يكتشفوه في يوم وليلة، بل احتاج إلى آلاف السنين من الملاحظات للوصول إلى الأبعاد المناسبة من الناحية الهيكلية، وقد مكنتهم هذه الأبعاد من تشييد أبنية لا تفتقر للشكل الجمالي، وتقاوم الهزات الأرضية العنيفة في الوقت نفسه.

لم تتخلَّ الصين حتى وقتنا الحالي عن هذا التراث المعماري في البناء، بل صدّرته للثقافات المجاورة أيضا، وهناك الكثير من المصممين المعاصرين يعتمدون على هذه التقنية في إنتاج أعمال معمارية مذهلة وقوية في الوقت نفسه، ومن أشهر هؤلاء المعماريين الياباني "كينجو كوما"(7)، ومن أشهر مبانيه الحديثة التي بُنيت بتلك التقنية الصينية القديمة في المعمار والمقاومة للزلازل متحف "Yusuhara Wooden Bridge" ومطعم "Café Kureon".

الإنكا.. المرونة أهم من الصلابة

ومن آسيا إلى أميركا الجنوبية، حيث نجد حضارة يقول الخبراء الأثريون ومهندسو العمارة إن "الهندسة المعمارية هي أكبر إنجازاتها"(8)، وهي حضارة الإنكا. ويشير هؤلاء الخبراء تحديدا إلى مبنى "Machu Picchu" (ماتشو بيتشو)، وهو قلعة حجرية موجودة أعلى جبال الإنديز في بيرو، بُنيت في القرن الخامس عشر.

شُيدت مباني الإنكا باستخدام أحجار متلاصقة بدقة عالية دون غراء أو أسمنت أو مسامير، معتمدين في البناء على قوة الجاذبية التي ستلصق الأحجار بعضها ببعض، ومع ذلك، فإن تلك الأحجار التي لا يربطها أي رابط مادي، لا يمكنك أن تمرر بينها أي شيء، حتى لو كان في سماكة بطاقة ائتمانية"(9).

وعلى الرغم من أن منطقة بيرو من المناطق التي تتعرض للزلازل بكثرة، فإن تلك الأحجار التي تلتصق ببعضها بعضا بفعل الجاذبية قد صمدت أمام زلزال ضخم في عام 1746 يُعرف باسم "ليما وكالاو" بقوة 8.8 على المقياس. وقتها تمايل البناء ولم يتهدم، ويرجع ذلك إلى التقنية والنسب التي وضعت بها الأحجار المتناسقة مع بعضها بعضا على أن تهتز أثناء الزلازل في تناغم ثم تستقر مرة أخرى بفعل الجاذبية في مكانها، وحتى الآن يعتبر هذا المكان قِبلة لجميع مهندسي المعمار في محاولة لفهم تلك التقنية البسيطة والمعقدة في الوقت نفسه في البناء، والتي لديها القدرة على الصمود أمام أقوى الزلازل التي ضربت الأرض، حيث إن بعضهم قضى أكثر من 40 عاما في دراسة هذا المعمار(8).

لذلك، لعلنا لا نستغرب إطلاق اسم "ماتشو بيتشو العصر الحديث" على مبنى جامعي بُني في بيرو عام 2016 وحصل على الجائزة الأولى من المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين باعتباره أفضل تصميم جديد في العالم. ربما لم يُصمَّم ويُبنَ المبنى بنفس طريقة حضارة الإنكا القديمة، ولكن لُجِئ في بنائه إلى بعض التفاصيل التي استطاع مهندسو المعمار فك ألغازها في هذا البناء الصامد(10).

بشكل عام، من المرجح أننا لم نصل بعد إلى القدرة المعمارية الكافية لبناء مبانٍ مرنة إلى هذه الدرجة، ولكن المعمار الحديث توصل إلى وسائل تجعل المباني أكثر مرونة أثناء الزلازل، وذلك عبر بناء دعامات تشبه الزنبرك "السوستة"، وهو ما يجعل حركة المبنى أكثر مرونة عند وقوع الزلزال.

هناك أيضا طريقة أخرى في البناء قد تقلل من وطأة اهتزاز المبنى عند وقوع الزلزال وتجعل حركته أكثر مرونة وأقل عنفا، ويُطلق عليها اسم "Damper" أي "المخمدات"، وهي من أنظمة التخميد الزلزالي، وتُستخدم في المباني العالية لمقاومة أحمال الزلازل، وطُبقت تلك التقنية للمرة الأولى في عام 1950 في بناء مبنى التجارة العالمي، وانتشر استخدامها منذ عام 1980. والمخمد يشبه مساعد السيارة عند الاصطدام بمطب أثناء القيادة، وموجود بداخله سائل له لزوجة يساعد في امتصاص الصدمات(12).

ظاهرة التسييل.. لا تبنوا بيوتكم هنا

"لا تبنوا بيوتكم هنا" هي عبارة نُقشت باللغة اليابانية على لوح حجري طوله 10 أقدام بقرية صغيرة على الساحل الشمالي الشرقي لليابان، وهي عبارة تركها الأسلاف منذ قرون بعيدة، يُحذِّرون فيها الأجيال القادمة من بناء بيوتهم في تلك النقطة، لأنها معرضة لحدوث تسونامي(11). ولذلك، أدرك اليابانيون منذ قرون طويلة أن الطريق الذي تشيد فيه الأبنية له نفس أهمية الطريقة التي يشيد بها البناء، وهذا الدرس الذي تعلمه البشر، ربما بالطريقة القاسية، ولكن كان له دور مهم في تشكيل وتغيير فلسفة البناء في عصرنا الحديث.

نتحدث الآن عن ظاهرة "التسييل" (liquefaction) التي تحدث للأرض المكونة من الرمال الناعمة عندما يضربها الزلزال، وقتها تتحول الأرض إلى ما يشبه بركة من المياه أو "الجيلي"، لا تتحمل فوقها مبنى واحدا صامدا، وتعتبر الكارثة التي تعرضت لها مدينة ميكسيكو سيتي في عام 1985 حين ضربها زلزال بقوة 8 ريختر وتكبدت المدينة الآلاف من الخسائر في المباني والأرواح بجانب ملايين الدولارات في عمليات الإنقاذ وإعادة البناء، مثالا على هذه الظاهرة.

الدرس الذي تعلمناه من هذه الكارثة ليس متعلقا بهندسة العمارة نفسها، وإنما بطبيعة الأرض التي سنبني عليها، وبعد قرون طويلة قد تجد الأجيال القادمة تحذيرا منا في كل الأماكن التي تتكون تربتها من الرمل الناعم لننصحهم فيه "ألا يبنوا بيوتهم هنا".

معابد فوق صدوع الزلازل

تخبرنا التجارب والأمثلة السابقة أن بعض الحضارات تعلمت من أخطاء الماضي ونجحت في تطوير مبانيها كي تستطيع تحمل الهزات الأرضية، لكن بعض الحضارات الأخرى لم تكتفِ بذلك، بل قررت أن تستفيد ثقافيا ومعماريا من آثار الزلازل.

في دراسة(2) نشرتها جامعة بليموث البريطانية في عام 2017 تحت عنوان "ربما لعبت صدوع الزلزال دورا رئيسيا في تشكيل ثقافة اليونان القديمة"، طرح الباحثون احتمالية أن الإغريق القدماء ربما قاموا ببناء مواقع مقدسة عمدا على أرض تأثرت بنشاط زلزالي سابق، فما السبب وراء ذلك؟

عندما يقع الزلزال ويسبب تصدع الأرض، قد يخرج من هذا الصدع بعض الأبخرة والغازات التي تُشعر من يستنشقها بالنشوة وتمنحه شعورا أشبه بتعاطي المخدرات، ولذلك كانت الزلازل في وقتها سببا في ظهور واحدة من أشهر مجموعات العرافات في اليونان، وهن "عرافات دلفي".

بُني معبد أبولو فوق الحجر الجيري المكسور بصدعين متقاطعين بسبب النشاط الزلزالي الذي سمح بإطلاق غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان والإيثيلين من خزانات الهيدروكربون المدفونة بكميات صغيرة جدا. (بيكسلز)

المثال الأبرز على ذلك هو معبد أبولو الذي يعود تاريخه إلى 1400 عام قبل الميلاد، والذي بُني فوق الحجر الجيري المكسور بصدعين متقاطعين بسبب النشاط الزلزالي الذي سمح بإطلاق غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان والإيثيلين من خزانات الهيدروكربون المدفونة بكميات صغيرة جدا. والإيثيلين غاز ذو رائحة حلوة ومخدرة، وكانت كاهنات هذا المعبد يستنشقن تلك الغازات ويدخلن في حالة من النشوة ويدعين أنهن يتواصلن مع الآلهة. ولهذا، كان للمعبد تأثير قوي على الحضارة اليونانية وشكَّل جزءا من ثقافتها.

يؤكدون الباحثون في الدراسة نفسها أن معبد دلفي ليس المعبد الوحيد الذي بُني فوق صدوع الزلزال، ولكن هناك العديد من الأماكن المقدسة والمهمة لدى حضارة اليونان القديمة والتي بُنيت فوق صدوع الزلزال التي تنبعث منها تلك الأبخرة المخدرة. يقول "إيان ستيوارت"، أستاذ علوم الأرض وأحد مؤلفي هذه الدراسة: "الأمر أكثر من كونه مجرد مصادفة أن العديد من المواقع المهمة -الخاصة بالحضارة اليونانية القديمة- تقع مباشرة فوق خطوط الصدع التي أنشأها النشاط الزلزالي"(2).

يُوضّح ستيوارت الأمر قائلا: "أنا لا أقول إن كل المواقع المقدسة اليونانية القديمة بُنيت فوق الصدوع، ولكن في حين نرى جميعا الآن الجانب السلبي فقط من وقوع الزلازل، استطاعت الحضارة اليونانية أن تستغل آثار الزلازل لمصحلتها"، وقد أثّر هذا على هندسة البناء واختيار المواقع تأثيرا واضحا.

ربما لا نستطيع إيقاف الزلازل، ولكن يمكننا بالتأكيد أن نحسّن من فرص نجاتنا في مواجهتها عن طريق تبني أساليب معمارية تتناسب معها، وكذلك بالاستفادة من خبرات الأجيال السابقة التي نقلت إلينا معرفتها وتجاربها التاريخية مع الزلازل.

______________________________________________

المصادر:

  1.  Earthquakes don’t kill people; buildings do. And those lovely decorative bits are the first to fall
  2. Earthquake faults may have played key role in shaping the culture of ancient Greece
  3. داخل اسوار المدينة المحرمة.
  4. How China Built Earthquake-Proof Palaces | Secrets Of China’s Forbidden City
  5. Dougong Brackets(斗拱 Dougong)
  6. Wood and Wood Joints: Building Traditions of Europe, Japan and China
  7. Kengo Kuma
  8. The Mystery of Earthquake-Resistant Buildings at Machu Picchu | Strip the City
  9. Seismic-Resistant Features of Machu Picchu
  10. ‘Modern-Day Machu Picchu’ Wins World’s Best New Building
  11. These Century-Old Stone “Tsunami Stones” Dot Japan’s Coastline
  12. dampers for buildings
المصدر : الجزيرة