شعار قسم ميدان

سيد قطب.. ملامح خطة التحرّر الثوري الإسلامي التي تثير الجدل إلى اليوم

"إن المبادئ والأفكار في ذاتها -بلا عقيدة دامغة- مجرد كلمات خاوية، أو على الأكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المُشِعَّة من قلب إنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مُشِع. لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان ولم تصبح كائنا حيا دبَّ على وجه الأرض في صورة بشر! كذلك لا وجودَ لشخص لا تُعمِّر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص. كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان! أما الأفكار التي لم تتطعَّم هذا الغذاء المقدس فقد وُلِدَت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الأمام".(1) (سيد قطب)

يستمر الجدل بشأن أفكار وكتابات المفكر الإسلامي الأستاذ "سيد قطب"، من حيث قوة وعمق تأثير كتاباته على البيئة السياسية والفكرية والحركية، وحدود تأثير هذه الكتابات، وتعدِّيها مرحلة التنظير إلى مرحلة الممارسة، وذلك على هيئة جماعات إسلامية متنوعة ادَّعت تبنِّي ما أسمته "منهج" قطب الحركي، وتطبيقه على هيئة تنظيمات وحركات جهادية قُطرية وعالمية، وأثَّرت تأثيرا واضحا في مجريات السياسة الدولية. كما لازالت كتابات قطب تحظى بجدل وتأثير مستمر إلى اليوم، بين مدافعين عنها بوصفها كتابات ثورية لا تدعو إلى تكفير المجتمعات بل إلى تحريرها من نير الاستبداد والتسلّط وتجبُّر الحكام وفق المنهاج الإسلامي القويم(2)، وبين من يرون بأنها أصل التكفير الذي ترعرع على تأويل كتابات قطب منذ سبعينيات القرن الماضي، والذي بدأ يأخذ شكل جماعات وحركات تستخدم العنف وسيلة للتغيير وتقوم على تُكفير مخالفيها، وامتدّ ذلك إلى ما نسبوه لسيد قطب من مسؤولية عن أحداث كُبرى حدثت بعد موته بعقود(3).

وقد لوحظ مؤخرا استدعاء نصوص سيد قطب مجددا وإثارة الجدل بشأنها في إطار الحملة التي تستهدف وصم جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب منذ عام 2013(4)، بالإضافة إلى الاستدعاء الدرامي لشخصية سيد قطب بعد مرور أكثر من نصف قرن على إعدامه وتصويره على هيئة شيخ الجماعات الإرهابية المتعطِّش للدماء. ولمواجهة الكتابات التي تقف على طرفي النقيض، ثمَّة جهود إحيائية تسعى لإعادة قراءة نصوصه بوصفها "منهجا" بين الشباب والنخب الإسلامية، لا سيما المصرية منها، مع إعادة الاعتبار لنصوص التحرُّر الثوري من الاستبداد السياسي.

سيد قطب (مواقع التواصل الاجتماعي)

يحاول هذا التقرير الإجابة عن سؤال رئيسي: هل يمكن اعتبار كتابات/ تنظيرات سيد قطب منهاجا تحرريا -ذا خطوات عقلانية- من الاستبداد السياسي؟ أم أنها مجرد نصوص غاضبة من الاستبداد والضيق الذي عاشه سيد قطب شخصيًا لأكثر من عشر سنوات في السجن؟ وهو ما يمكن تقسيمه إلى عدة أسئلة فرعية أهمها: ما أبرز كتابات سيد قطب؟ وما المحطات التاريخية والفكرية التي مرَّ بها؟ وكيف حكمه السياق التاريخي؟ وما مفهومه عن الدين والأمة والمجتمع ونموذج الدولة؟ وهل قدَّم قطب في كتاباته منهجا يمكن وصفه بالثوريّْ؟

من هو سيد قطب؟

وُلد سيد قطب في أكتوبر 1906 بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، وتربَّى في أسرة محافظة متديِّنة، وحفظ القرآن في سن صغيرة، وارتحل بعد ذلك ليستكمل دراسته في "دار العلوم" بمحافظة القاهرة. وقد بدأ حياته أديبا روائيا مال إلى تبني المناهج الاشتراكية ومنها ما كتبه في مراحله الأولى مثل "كُتب وشخصيات"، ولمع نجمه في الأدب بعد كتاباته الأدبية والشعرية المتنوعة ومنها "الشاطئ المجهول" عام 1935. ارتحل "قطب" إلى الولايات المتحدة عام 1948 من أجل بعثة لدراسة المناهج الأمريكية، واستنباط محاسن التجربة إلى مصر. وقد مثّل تلقيه لنبأ مقتل "حسن البنا"، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، في فبراير/ شباط 1949 وهو في الولايات المتحدة، نقطة تحوُّل مهمة في إعادة بلورة أفكاره، فعاد بعدها إلى مصر وبدأ في التفاعل مع شباب الإخوان فكريا وأدبيا وتنظيميا، حتى انضم إليهم ورأس تحرير جريدتهم الأولى بعد انقلاب "الحركة المباركة" 23 يوليو/ تموز 1952، بالإضافة إلى علاقته الوثيقة بتنظيم "الضباط الأحرار" قبل إسقاطهم النظام الملكي، وهي علاقة سرعان ما انقلبت إلى خريف بعد اتهام "عبد الناصر" للإخوان بمحاولة اغتياله عام 1954، فقضى قُطب على إثرها 10 سنوات في المعتقل، حتى توسَّط للإفراج عنه الرئيس العراقي "عبد السلام عارف" عام 1964 بعفو صحي.

انتهج قطب بعدئذ تحولا آخرا نحو الكتابات الثورية التي نظَّرت للتحرُّر من الاستبداد وتأسيس "العصبة المؤمنة" لتغيير المجتمع الجاهلي نحو التحرر الإسلامي المبني على التوحيد. ففي كتابه الأشهر والأكثر إثارة للجدل "معالم في الطريق"، وتفسيره للقرآن "في ظلال القرآن" الذي استكمله قبل إعدامه، بدأ قطب مرحلة جديدة وأخيرة من حياته بعد أن أعيد اعتقاله مرة أخرى عام 1965 بزعم محاولة قلب نظام الحكم عبر تنظيم سري من داخل الإخوان المسلمين عُرف إعلاميًا باسم "تنظيم 1965". وقد حوكم على إثرها في محاكمة استثنائية انتهت بالحكم عليه بالإعدام، وكتابته لنصوص "لماذا أعدموني؟" المثيرة والتي شكك البعض في صدقها، حيث ردَّ فيها على أسئلة المحققين بشأن أفكاره. وقد نُفِّذ حكم الإعدام في سيد قطب يوم 29 أغسطس/آب 1969.

امتد تأثير سيد قطب في الأوساط الإسلامية الثورية إلى حد لم يعرفه أديب ومفكر مثله، وتجاذبته أطراف عدَّة تبنَّى بعضها منهجا ثوريا جهاديا ساعيا لإسقاط الحكم "الجاهلي" وإقامة ما يسمى بـ "الحكم الإسلامي"، وكانت طليعتها تنظيم "الفنية العسكرية" الذي حاول الانقلاب على الرئيس أنور السادات عام 1974 بزعم عدم تطبيقه للحكم الإسلامي، وجماعات إسلامية إصلاحية أبرزها جماعة الإخوان المسلمين بعد تأسيسها الثاني في السبعينيات، إذ حاولت تبرئة قطب من تهم الدعوة إلى تكفير المجتمعات واستخدام العنف وسيلة للتغيير، علاوة على مشايخ وفقهاء انقسموا أدان بعضهم قطب بتهم التكفير، مثل الشيخ "يوسف القرضاوي"، في حين حاول آخرون تبرئته.

(مواقع التواصل الاجتماعي)

 

الرحلة إلى أمريكا ونقد الحداثة الغربية

لعلَّ ما يمكن التوقف عنده في منهج قطب التحرري هو رؤيته للحداثة الغربية وجوهرها، وذلك في كتاباته عن "أميركا" التي رأى، ومراسلاته لأصدقائه الأدباء من هناك التي نشرتها آنذاك مجلة "الرسالة"، وأعاد كتابتها في "أميركا التي رأيت". وقد رأى قطب أن الحضارة الغربية تحتضر بسبب النزعة المادية الموغلة التي باتت فيها، ولم ينبهر بها كأقران عصره، مثل "طه حسين"، بل اعتقد بحتمية انهيارها كجزء من سيرورة التاريخ. ويمكن القول إن قطب قد بدأ في بلورة فكرته الأصولية ومنهجه الإسلامي عبر انتقاده للحداثة الغربية، ولم يكن هذا المنهج جديدًا، فقد فعل الماركسيون الشيء نفسه مع الرأسمالية، وفعل إسلاميون قبله ذلك. إلا أن قطب تميَّز بحِدته في نقد الحضارة الغربية، وميله إلى التبشير بزوالها بسبب فشلها في عالم القيم.

فقد قال قطب في مقدمة كتابه الأشهر "معالم في الطريق": "إن قيادة الرجل الأبيض للبشرية قد أوشكت على الزوال.. لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية.. ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره، لأنه لم يعد يملك رصيدًا من القيم لا يسمح له بالقيادة". وقبل ذلك أشار في رسالته إلى الأديب المصري "توفيق الحكيم" قائلا: " تزخر أمريكا بكل شيء، إلا أن هناك شيء واحد ينقص هؤلاء الأمريكان، هو الروح، وهو شيء لا قيمة له عندهم"، ويقول في موضع آخر: "ما أحوجني هنا إلى من أبادله حديثا بحديث، في موضوع غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. حديثًا في شؤون الإنسان والفكر والروح".

يجادل قطب بأن استمرارية الحضارة الإنسانية تكمن في مقدار ما تقدِّمه من قيم إنسانية، ورأى أن الولايات المتحدة بكل ما قدمته من منتجات مادية لم تضف شيئا في ميزان القيم الإنسانية، وهو يُنبِّه على خشيته من غياب التناسب بين عظمة الحضارة المادية التي أنتجها الغرب -ورآها في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية- وبين عظمة الإنسان الذي هو مُنشئ هذه الحضارة، مما دعاه إلى الخشية من استمرار الحضارة الغربية دون أن تصل إلى مرحلة تضيف فيها رصيدا إلى القيم الإنسانية، أو القيم التي تُفرِّق بين الإنسان والحيوان والشيء . وقد جادل " أستاذ علم الاجتماع السياسي د. سعود المولى بأن قطب تأثر في فكرته عن أمريكا بالمفكرين الغربيين أمثال "أرنولد توينبي" و"برتراند راسل" و"أوزالد شبِنغلر"، الذين تنبَّأوا بنهاية عصر "الرجل الأبيض" قبل قطب ذاته. هذا ورأى قطب أن الاعتماد على مبادئ الثورة الفرنسية هو ما جعل الحضارة الأمريكية قائمة إلى وقته.

سيد قطب، ونقده للشيوعية، ورؤيته لانطلاق الحضارة الإسلامية

انطلاقا من جدلية قطب بأن استمرار الحضارات يعني قدرتها على العطاء في مجال القيم الإنسانية، فإنه انتقد الشيوعية -التي راجت أسهمها في ذلك الوقت- قائلا إنها تحتل في عالم المبادئ مساحة أوسع من المساحة التي انتهت إليها مبادئ الثورة الفرنسية لكنها "النهاية الطبيعية لحضارة خالية من الروح، خاوية من المُثل، ومتجرِّدة من الأحلام". وتنبأ قطب كذلك بانهيار الشيوعية في العالم الشرقي، مشيرا إلى أنها ستقع في ورطة، ولن تستطيع سدَّ جوع الإنسان والانتهاء به إلى هدف إنساني أكبر، وإلى علاقة أشمل وأعم بالكون، وإلى عقيدة تصب في ميدان القيم الإنسانية.

بعد أن انتقد قطب الأيديولوجيات والحضارات الرائجة في عصره، وتنبأ كذلك بأفول الشيوعية، حاول تقديم مفهوم إنساني جامع أسماه "القيم الإنسانية"، ومن هنا شرع قطب بالبحث عن حضارة تستطيع أن تحمل هذه القيم وتقود البشرية. وقد قدم قطب "الإسلام" بوصفه الدين الذي يستطيع أن يكوِّن حضارة وارثة للقيم الإنسانية جمعاء، وكان هذا التصور للإسلام غير قاصر على رؤيته كحدود تطبق على الناس، أو عبادات روحية تُمارس يوميًا وحسب، بل بوصفه الحضارة التي قادت العالم لقرون، وسقطت حضارته بعد أن سلّمت القيادة لغيرها، وتخلّت عن تحكيم هذه القيم، واتبعت مناهج دخيلة عليها، مما أسقطها في فخ التبعية، ومن ثمَّ راحت قيادتها.

(مواقع التواصل الاجتماعي)

قال قطب إن الإسلام يتفرَّد بامتلاكه مخزونا من القيم الإنسانية يستند إلى الوحي، وقال إن الإسلام لو لم يكن موجودا، لبَحثت عنه الإنسانية وتحوَّلت إليه. وهنا قال "سعود المولى" إن هذا هو المعنى الذي استدعاه الإسلاميون على هيئة شعار "الإسلام هو الحل" وبدأ في الظهور مع الصحوة الإسلامية في نهايات القرن الماضي، وانهار مع فشل الموجة الأولى من الربيع العربي، التي أوصلت الإسلاميين في أكبر البلاد العربية إلى السلطة. وقد وضع قطب عودة الإسلام بداية بالعودة إلى التراث، واتضح ذلك جليا في رسالته إلى صديقه الأديب "توفيق الحكيم": "استوح ميراثك تُبدع".

الاتجاه نحو المنهج الإسلامي

تحوَّل سيد قطب إذن من نقده للحداثة والحضارة الغربية إلى تبني المنهج الإسلامي". ويجدر بنا هنا التوقف عند السياق الذي بدأ فيه قطب الحديث عن المنهج الإسلامي ومعالمه، وهو الحرب العالمية الثانية، التي أحالت العالم إلى دمارٍ كبير، تحدث عنه قطب ووصفه بـ "موت القيم الإنسانية وهلاك الروح البشرية"، مما دعاه إلى البحث عن منهج يقي العالم من شرور المادية. وبعد عودته من الولايات المتحدة إلى مصر عام 1950، وعزمه الانضمام إلى جماعة الإخوان، كتب قطب رسالته إلى صديقه الأديب "أنور المعداوي" قائلا: "سأعود ببرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين" ثم نشر كتابه الذي تلقّاه الإخوان المسلمون في مصر بحفاوة بالغة وظنوا أنه توجه به إليهم إثر كتابته في الإهداء: "إلى الفتية الذين كنت ألمحهم بعين الخيال قادمين؛ فوجدتهم في واقع الحياة قائمين.. يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، مؤمنين في قرارة نفوسهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين".

ورغم أنه لم يكن يقصد الإخوان المسلمين كجماعة في الإهداء سالف الذكر، لكنه اقترب منهم بعد عودته من الغرب بشكل كبير، كما ذكر فريد عبد الخالق في شهادته، واقترب قطب كذلك من الضباط الأحرار واقتربوا هم منه. وخلاصة القول هنا: إن منهج قطب الإسلامي تبلور في بداية العقد الخامس من القرن الماضي، وإن اقترابه من الإخوان بعد مقتل البنا عمَّق وضع "الحركة والتنظيم" في منهجه، وأشار إلى هذا الأمر بوضوح في كلماته الأخير "لماذا أعدموني"، فقال إن تقرُّبه من الإخوان حدث نتيجة رؤية الغرب لهم بوصفهم القوة المتوقَّع منها أن تقود الإسلام. ودعا قطب إلى استئناف الحياة الإسلامية -أي العودة إلى التراث الإسلامي والاعتماد على النص القرآني- قائلا: " نحن ندعو إلى استئناف حياة إسلامية في مجتمع إسلامي، تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي".

ما الذي يريده الإسلام؟ وما منهاجه التحرري؟

يرى قطب أن مهمة الإسلام هي إنشاؤه "للأمة" التي تقود البشرية، وتحقق منهج الله في الأرض، وعلى هذه الأمة أن تؤمن بـ"حاكمية" المنهج الإسلامي، وأن تكون مهمتها إنقاذ البشرية من الضلالة التي عليها. وقد أنشأ الإسلام هذه الأمة ليكون الإسلام منهاجا يؤهلها لقيادة البشرية، ويعلي من قيمة الإنسان فوق المادة، وينقذها من الجاهلية. ويبدأ هذا المنهج "التحرري" بواسطة جيل تتحقق فيه صفات القيادة، الذي أسماه قطب بالـ"جيل القرآني الفريد". واقتبس قطب ضمنيا القول المشهور للصحابي "ربعي بن عامر": "لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

لذا قسَّم قطب تاريخ الأمة الإسلامية إلى ست مراحل، أولها أن الله بعث الأمة الإسلامية، ومن ثم مرَّت بمرحلة التيه والركام (الدعوة المكية) لمدة 13 عاما، ثم التزمت منهاج الله في إعلاء شأن الإنسان وقادت البشرية، ثم تركت موقع القيادة بعد أن تخلَّت عن النهج الحاكمي (الإسلامي)، واتَّبعت أمما أخرى فتسرَّبت إليها عقيدة التيه. وأتت المرحلة الأخيرة التي حاول قطب التأسيس لها مجددا وهي عودة "قيادة البشرية إلى الأمة المسلمة". ورأى قطب أن ما مرَّ به العالم آنذاك أعاد مهمة الإسلام من جديد، وتتضح هنا رؤية قطب لحركةَ التاريخ بالمفهوم الخلدوني، الذي يشهد صعودا وهبوطا للأمم. وقد وضع قطب منهجه لإعادة بناء الأمة والتحرر من الاستبداد في نقاط خمس:

  • ١. تأسيس "الجيل القرآني الفريد"

تبدأ الأمة عند قطب ببعث/ إنشاء جيل جديد يؤسس لهذه الأمة، وهو يوازي ما بدأ في النشأة الأولى للإسلام من جيل الصحابة، حيث قاد تأسيسَ الدولة الإسلامية جيلٌ من الصحابة التزموا بتعاليم الدين الإسلامي، وخصائص هذا الجيل أنه ينشأ على فهم القرآن، ويستقي منه تعاليمه، وينظر فيه بعمق، ومن ثم يستطيع تكوين الأمة "الإسلامية". وهذه الأمة -بمفهوم قطب- غير موجودة الآن، وانقطعت منذ سنين، لكن من الممكن أن تعود مرة أخرى بعد أن ينشأ هذا الجيل أولًا.

الأمة ليست أرضا بعينها أو قوما مختارين (وهنا يعبُر قطب فوق القومية)، بل جماعة من البشر تنبثق حياتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وموازينهم من المنهج الإسلامي. إذن ما يكوِّن الأمة عند قطب هو المنهاج الإسلامي، وليس العرق أو اللون أو القومية، وهذا المنهاج الذي تتكوَّن معالمه من جيل ينشأ على القرآن. يجادل قطب إن هذه الأمة تُبعث حينما تلتزم بهذا المنهج، مسترشدا بتفسيره لقول الله في القرآن الكريم: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، وتكون مهمتها إخراج الناس بالقوة إلى عبادة الله، ففي هذا تكون الحرية والتحرُّر من عبادة العباد (أي الاستبداد). وقد لاقى هذا التوجه لدى قطب انتقاد الكثيرين ومنهم الشيخ "يوسف القرضاوي" الذي أنكر أن يُخرج الناس إلى عبادة الله ومنهاج الإسلام القويم بالقوة إن أرادوا هم عكس ذلك.

  •  ٢. معالم المنهج الإسلامي

"إننا نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداءً، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا".

هكذا دعا قطب ببساطة إلى الأخذ مباشرة من القرآن الكريم بوصفه وحيًا ونصًا دينيا مقدسا يحتوي على كل مقومات الحياة، وإن إمعان النظر فيه يعتبر الرجوع إلى الأصل الذي سادت به الحضارة الإسلامية البشرية في السابق. ورغم عبارات قطب الأدبية، فإنه لم يُحدِّد أدوات تفسير القرآن وإدراكه، بل ترك هذه الأدوات لخيال المتلقِّي حينما جعل الحلَّ في الرجوع إلى "النشأة الأولى"، وخطَّها في عبارة أخرى جعل فيها علاقة خاصة بين القرآن والمريد استخلاص منهاج منه "إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الروح: روح المعرفة المنشئة للعمل، إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ -وإن كان هذا كله من محتوياته- إنما جاء ليكون منهاج حياة، منهاجا إلهيا خالصا". بهذا يمكن القول أن معالم المنهج بعد تكوين الجيل، هي أن تصورات الحياة قائمة على النظر في القرآن الكريم، والعودة إليه دوما، دون أن تشوبه شائبة، إن القرآن عند قطب بمثابة دستور الدولة القومية الحديثة، يحكم تصورات المنتمين إليه، ويحدد أهداف أمتهم ويحكم تصورات من يؤمنون به.

  • ٣. المجتمع الإسلامي، وخصائصه

بهذا المنهج القائم على النظر في القرآن بدأ قطب صياغة أسس المجتمع الإسلامي، الذي رآه مجتمعا أخرجه الله وأوجده وأعاد بعثه من جديد في الناس، فالمجتمع الإسلامي في منهج قطب صنيعة إلهية لا بشرية، ومجتمعٌ يتَّبع الشرع الإسلامي، أي أن تصوراته ربانية، وتربط بين أفراده العقيدة الدينية "الإسلامية" التي تقوم على التوحيد وإفراد الخالق بالألوهية والربوبية، ويتعامل أفرادُه بلا تفرقة بين الناس فيه على أساس اللون أو الجنس أو القبيلة، فيجمعهم مبدأ التوحيد -وهو حجر أساس في فكر قطب- ومبدأ الحاكمية، التي يُفسِّرها بأنها تطبيق لشريعة الله في أرضه، وأن يقوم الحكم خالصا لله وقوانينه التي جاءت في الشريعة الإسلامية، وليس في القوانين الوضعية التي أقرَّها البشر خلافا للقوانين الربانية.

  • ٤. الوطن والدولة في الإسلام

انطلاقاً من المجتمع أسَّس منهج قطب تصوراته عن "الوطن/ الدولة"، والوطن بمفهوم قطب ليس الوطن/ الدولة بالمفهوم الويستفالي الذي أسَّس لها على الحدود المدوَّنة في المواثيق الدولية بعد اتفاق ويستفاليا 1648، بل هو مفهوم أوسع من ذلك، فالوطن في المفهوم الإسلامي لا حدود تظله، وطالما أن المجتمع المؤسَّس على رابطة العقيدة الإسلامية حاضر، فـ"كل أرض يُظلًّها الإسلام هي وطن الجميع". إذن فدعوة قطب تُختصر في: دولة واحدة، بعقيدة واحدة، لها جنسية واحدة اسمها العقيدة الإسلامية.

يرى قطب أن اللحظة التي يعيشها العالم لحظة جاهلية بسبب غياب "حاكمية" الإسلام، وأن تصوره عن الأمة التي هي أمة إسلامية بالطبع، يستوجب عليها أولا أن ترفض كل ما هو جاهلي. (مواقع التواصل)

الأكثر جدلا في تصور قطب عن الوطن/ الدولة، هو تقسيم العالم بين دارين: دار الإسلام ودار الحرب. فدار الإسلام تهيمن عليها حاكمية الإسلام بمنهاجه، وتنتهي حدودها عندما لا يكون هناك حكم إسلامي، ومن ثمَّ تبدأ من بعدها دار الحرب التي يوصِّف قطب العلاقة معها بعلاقة "قتال" أو "عهد أمان" لا يوجب قتالا، بيد أنه أكَّد على أنه لا ولاء بين أهلها وبين المسلمين. ولا تزال نظرة قطب تثير لجدل محتدم حتى اليوم نحو "الدولة"، حيث نجده يؤطرها بمفهوم عن الدولة مغاير لمفهوم الدولة القومية وإن لم يوضِّحه بالكلية، كما أنها محكومة بشرعة الإسلام، وليست دولة دينية ثيوقراطية على غرار دول القرون الوسطى، فلم يجعل قطب لرجال الدين سلطة على المسلمين، وليس عنده ما يؤسس لذلك من صميم الدين الإسلامي.

رغم ذلك، لم يتضح لدى قطب أي نمط للدولة، بل ولم يُفرِّق بين الدولة في شكلها الحديث القُطري والدولة القديمة غير المحدودة، ولم يقدم نموذجًا واضحًا سهلًا يسهل على المتصوّر للحكم الإسلامي الذهاب نحوه، مما فرّق فكره بين الفرق الإسلامية والجماعات المتناحرة، وبينها جماعات وحركات إسلامية أعادت بناء تصوراتها تمامًا بما يتفق مع الدولة القومية الحديثة، ولم تكلف نفسها بالتفكير في نموذج/ نظام بديل عن التصور الكائن المهيمن، وبين جماعات/ حركات رأت في هدم النموذج الحالي للدولة القومية هدفًا أسمى. بلور الفهم غير الواضح لفكرة قطب عن الدولة نماذج متناقضة من حركات إسلامية ادّعت اتباع نهج سيد قطب، بعضها بدى متماهيًا مع نموذج الدولة القومية، وبعضها عاداها تمامًا.

  • ٥. الجاهلية وولادة مفهوم الأمة 

يرى قطب أن اللحظة التي يعيشها العالم لحظة جاهلية بسبب غياب "حاكمية" الإسلام، وأن تصوره عن الأمة التي هي أمة إسلامية بالطبع، يستوجب عليها أولا أن ترفض كل ما هو جاهلي، والجاهلي عند قطب هو ما لا تحكمه التصورات الإسلامية وما ينزع إلى الاحتكام إلى شرائع بشرية -أي شرائع من صنع البشر وليست شرائع إلهية. ورأى قطب أن الأمة التي تُبعث، لابد أن يمارس أفرادها "عزلة شعورية" عن المجتمع الجاهلي، ولعلَّ مفهوم العزلة الشعورية هو ما لقي عدة تفسيرات منها أن تكون العزلة مادية وجسدية عن المجتمع، فتلقّفته بعض الحركات الإسلامية وابتعدت عن المجتمعات ومارست بحقها التكفير، وظنَّت في نفسها الجيل المرسل الذي لابد أن يمارس عزلته لكي يخرج على الجاهلية ويعلن حكم الإسلام، مثلما فعلت جماعة "التكفير والهجرة" بقيادة "شكري مصطفى"، وجماعات تكفيرية أخرى ظهرت في نهايات القرن الماضي، كان ولازال مفهوم "العزلة الشعورية" غامضًا كغيره من مفاهيم قطب التي تُركت لتفسيرات تراوحت بين عداء المجتمع، وممارسة التفضّل عليه.

جادل قطب كذلك بأن العصر الحالي عصر قيام الأمة الإسلامية، بعد أن فشلت النماذج الأخرى في تقديم ما يمكنها من حفظ الإنسان. ومن ثمّ حدَّد ثلاثة مبادئ تقوم عليها هذه الأمة: أولها، أن تستسلم لحاكمية الله، أي لا تتصالح مع المناهج الأخرى التي وصفها بالجاهلية، وإن كان لابد من إحداث قطيعة مع المجتمعات الغربية، فإن هذه القطيعة تكون في الجانب القيمي والروحي والعقائدي وليس في جانب التطورات المادية، لأنه فرض على الأمة الإسلامية أن تمتلك نفس وسائل التطور المادي والتكنولوجي التي تملكها "العبقرية الأوروبية". وثانيها، أن تُفرِّق الأمة بين الشريعة والفقه، حيث رأى قطب أن على الأمة التفرقة بين شريعة الإسلام الثابتة (ومركزها الأخلاق الإنسانية كما وصفها "وائل حلاق") والفقه الإسلامي ذي المذاهب المتعددة، الذي عادة ما شهد اختلافات في فروع الدين، وهي دعوة ذكية من قطب، الذي عاصر الاستقطاب الفقهي في مصر إبان بدايات القرن الماضي.

(الجزيرة)

أما ثالثهما، فضرورة وجود تجمُّع عضوي حركي، وهو أخطر ما في فكر قطب، فلا تقوم الأمة الإسلامية إلا من خلال تجمُّع "عصبة مؤمنة" تقرُّ بالمنهج الإسلامي وبحاكميته، وتقوم مقام الطليعة التي تقود المجتمع نحو الدولة ثم الأمة الإسلامية التي تقود البشرية. وليست الدعوة إلى تكوين تجمُّع "عضوي" من ابتداع قطب، فهي تماثل التنظيمات الشيوعية التي كوَّنت طلائعها الخاصة آنذاك، بيد أن قطب لم يوضِّح جليا في كتاباته التي غلب عليها الأسلوب الأدبي ماهية هذا التجمُّع، وهل هو حزب أو جماعة كجماعة الإخوان التي أعجب بها، أم أنها نخبة مؤمنة تدور في فلك الفكرة الإسلامية دون أن تكون محدودة بتنظيم عنكبوتي مغلق.

بهذا يمكن القول إن قطب لم يكتب نصوصا ثورية غاضبة فقط، بل حاول -وفق سياقه- أن يؤسس لمنهاج يحوي تصوُّرا للمجتمع والدولة والأمة ويُدشَّن بداية منهجه من نقد الحداثة الغربية، ومن ثمَّ يتفاعل مع السياق العالمي الحاكم آنذاك فيواجه الشيوعية والرأسمالية وينتقد الأحوال الكائنة في بلاد المسلمين. بيد أن لغته الأدبية، ومفاهيمه الواسعة العصية على الوضوح تُركت لتأويلات واسعة تراوحت بين الاستسلام التام لمنظومة الدولة القومية، وبين تنظيمات عادت النظام العالمي تمامًا، ورأت فيه العدو والشيطان الأكبر الذي يوجب قتاله.

أسَّس قطب لهذا المنهج، وخاض معه رحلة أخرى في ميدان السياسة جلبت عليه المصاعب أكثر من غيرها، والتي لاحقته حتى بعد موته وألقت عليه تهما بالإرهاب والتأصيل للعنف، وإن لزم الإنصاف فنصوص قطب الخطيرة، لا سيما كتابه الأبرز "معالم في الطريق"، لم تكتب قبل أن يُعتقل عام 1954 ويلبث في السجن 10 سنوات كاملة، بل كُتبت داخله، وحتى عندما سيق إلى محكمة استثنائية عام 1966 قضت بإعدامه، لم تكن الاتهامات الكبرى فكرية، بل سياسية.

كثير من أفكار قطب التي يعدها بعض نقّاد قطب تهمًا، لم تشهد حوارا جادا حتى في أوساط الحركات الإسلامية التي تدَّعي وراثة قطب، وتلقّى بعضها كتابات قطب بحفاوة بالغة وصلت حد التقديس دون فهم دقيق بالضرورة. ويرجع ذلك لفقر هذه الحركات في جانب المفكرين. ومن جهة أخرى، ثمَّة فِرق إسلامية تجنَّبت ما كتبه قطب حتى لا تجلب على نفسها الاتهامات بالتطرُّف والإرهاب. بناءً على ما سبق يمكن القول إن كتابات قطب أوسع من حصرها في نطاق العنف أو السياق الإسلامي حصرا، بل كانت له كتب وإسهامات في نقد الحداثة الغربية، ووضع تصورات ونصوص نحو صياغة منهج للتحرر من الاستبداد استند على "الاحتكام إلى دين الله" و"الحاكمية ". ولذا، يبدو في الأدبيات باستمرار إنه ثمَّة أكثر من سيد قطب واحد، مما يعني أن الجدال على الأرجح سيظل مُحتدما لوقت طويل بينما يبحث أنصاره وأعداؤه على السواء عمَّا يُعزِّز تصوُّرهم المُسبق عن الرجل، دون تسليط الضوء على تعقيدات حياته وفكره الكاملة.

المصدر : الجزيرة