شعار قسم ميدان

حركة تحرير أزواد.. ماذا نعرف عن "الطوارق" في الصحراء الكبرى؟

"أريد أن أقول لكم إنني مستعد لبذل دمي كله للدفاع عن الصحراء الكبرى، وأريد أن تتوحَّد جميع القبائل: العرب والتوبو والصنغاي والبمباره، وخاصة الطوارق".

بهذه الكلمات توجَّه الرئيس الليبي الراحل "مُعمَّر القذافي" إلى عدد من الرؤساء والمسؤولين السياسيين والدينيين الأفارقة في أحد أيام إبريل/نيسان 2006، مُعربا عن شغفه بهذا الشعب الأمازيغي الأفريقي. ولم يأتِ شغف الرئيس الليبي المخلوع من فراغ، فقد علم القذافي أن حلمه بزعامة أفريقيا لن يتم له دون الجماعة التي تنتشر في الصحراء الكبرى وتنتمي "جغرافيًّا" إلى عدد من الدول في المنطقة، منها الجزائر ومالي والنيجر وليبيا. في الأخير، رحل القذافي، لكن أفكاره عن الطوارق لم تفقد جدواها، فقد لعبوا دورا سياسيا كبيرا في غرب أفريقيا، وشاركوا في كتابة تصور لموازين القوى في المنطقة حتى الآن.

آمال فرنسا.. وطموحات القذافي

لم تحضر فكرة الحدود الجغرافية في أذهان الكثيرين قبل حقبة الاستعمار، ولعلها كانت أكثر إبهاما في صفوف القبائل المترحِّلة التي انتشرت في شتى أنحاء العالم من أتراك آسيا الوسطى إلى طوارق الصحراء الأفريقية. فعند البدو دون غيرهم، تتلاشى الحدود الصلبة للأمكنة والبلدان، وتقتصر الخرائط على المعرفة الدقيقة بالمواقع المهمة ومخالطة الرجال للرمال وترويضهم لقسوة الطبيعة حفاظا على حيواتهم.

وفق قوانين هذا العالم المفتوح عاش "الطوارق"، وهم جماعة بشرية أمازيغية انتشرت من جنوب ليبيا والجزائر إلى شمال مالي والنيجر، مع وجود محدود في بوركينا فاسو. وقد اختلف المؤرخون والباحثون حول سبب تسميتهم بالطوارق، فهنالك من قال إن أصل التسمية جاء من كلمة "تاركة" التي تعني الأرض الغنية بالمياه، في إشارة إلى واحات "فزَّان" الليبية، فيما نسب آخرون الطوارق إلى "طارق بن زياد"، القائد العربي المسلم الشهير، ورأى فريق ثالث أن كلمة "الطوارق" جاءت بسبب طَرْقِهم أبواب الصحراء الكبرى مترامية الأطراف.

حضر الطوارق خصوما أشداء للاستعمار الفرنسي، وأعاقوا تقدُّم قواته في عدد من الدول الأفريقية، إذ استطاعوا الانتشار في مساحة جغرافية شاسعة. (وكالة الأنباء الأوروبية)

من الصعب الحصول على إحصاءات دقيقة عن أعداد الطوارق، بيد أن بعض التقديرات أفادت بأن عددهم يقترب من 3.5 ملايين نسمة، وأن غالبيتهم تستوطن مناطق شمالي مالي والنيجر. وقد فرض هذا التوزيع الجغرافي الواسع على الطوارق طموحا سياسيا واجتماعيا رغم عددهم الصغير، مما جعل الدخول في بعض المواجهات مع عدد من الدول أمرا حتميا. ففي وقت تعيش فيه هذه الجماعة بهدوء داخل ليبيا، تتَّسِم علاقاتها بالصدام المستمر مع النظم السياسية في مالي والنيجر منذ استقلال البلدين عن فرنسا، وذلك بعد سنوات طويلة من المقاومة شارك فيها الطوارق أنفسهم. فقد حضر الطوارق خصوما أشداء للاستعمار الفرنسي، وأعاقوا تقدُّم قواته في عدد من الدول الأفريقية، إذ استطاعوا الانتشار في مساحة جغرافية شاسعة امتدت من مدينة "غات" (على الحدود الليبية-الجزائرية) إلى "طاسيلي ناجر" (طاسيلي-ن-آجر) وجبال "الهقَّار" غربا، ومن "هَرْقْلَة" الجزائرية شمالا إلى حدود النيجر جنوبا. وجد الطوارق أنفسهم إذن في مواجهة الأطماع الفرنسية وسط تطاحُن استعماري عالمي مع بريطانيا وإيطاليا وألمانيا، إذ حاول جميعهم الحصول على نصيب من كعكة ثروات المنطقة.

عملت فرنسا بجهد كبير على إبعاد أطماع باقي الدول الأوروبية التي كادت تعرقل خطواتها في السيطرة على العديد من المناطق الأفريقية عبر إبرام العديد من الاتفاقيات لتحديد نصيب كل طرف من غنائم الدول المستعمَرة، ثم بدأت مع مطلع الخمسينيات من القرن التاسع عشر إرسال البعثات الاستكشافية إلى الصحراء. وقد انطلقت الاتصالات بين فرنسا والطوارق خلال هذه البعثات، إذ حاولت باريس لعب دور الصديق الذي أراد بذل الخدمات لسكان المنطقة، في حين وارت هدفها الحقيقي وهو التجسُّس وحيازة معلومات عن ثروات المنطقة وسكانها. وساعدت الهدايا والتقريبات ومنح المناصب المهمة لأعيان القبائل فرنسا في تحقيق أهدافها، وتوِّجت مجهوداتها بإبرام معاهدة "غَدَامِس" في فبراير/شباط 1862 مع زعيم الطوارق حينها الشيخ "إخنوخن"، التي نصَّت على فتح طرق التجارة للفرنسيين نحو بلاد السودان مع التعهد بإصلاح الطريق.

لم يتأخر ظهور النِّيات الحقيقية للوجود الفرنسي، التي تكشَّفت مع وصول أول فرقة عسكرية إلى منطقة "الهقَّار" سنة 1880 بقيادة المقدم "فلاترس". ولذا، اجتمع الطوارق سريعا آتين من شتى أنحاء المنطقة، وأجمعوا على ضرورة مواجهة الأطماع الفرنسية. وقد حاولت حملة "فلاترس" بدء عملية استكشافية هدفها مدُّ الطريق من الجزائر إلى النيجر وصولا إلى تشاد، لكن المقدم الفرنسي ارتكب خطأ إستراتيجيا هو الإصرار على تنفيذ العملية الاستكشافية برفقة فرقة عسكرية تسهر على تأمين البعثة، مما أثار ريبة طوارق "الهقَّار"، الذين هاجموا الحملة وقتلوا 36 فرنسيا من بينهم "فلاترس". لم تتأخر الجولة الثانية من المواجهة، إذ انطلقت بتتبُّع الفلول الناجين من الكمين الأول، فقتل الطوارق ملازما أول فرنسيا يدعى "ديانوس"، كان قائد القوة العسكرية. ولم ينجُ من هذه المطاردة سوى عدد قليل من الفرنسيين الذين فرُّوا بعد أن أسر الطوارق مَن فشلوا في الهرب ولم يسعفهم الموت.

واصلت القوات الاستعمارية محاولات التغلغل، لكنها اصطدمت مرارا بمقاومة الطوارق الذين حاصروا تنقُّلات الجيش الفرنسي مرات ومرات، فلم يفلح أحد منهم في الإفلات إلا بعد الاستعانة ببعض السكان المحليين. (مواقع التواصل)

لم تنتهِ المواجهات عند هذا الحد، بل أدت الواقعة إلى تفجُّر ظاهرة العداء تجاه كل ما هو أوروبي (وفرنسي خصوصا) في صفوف الطوارق. ومن ثمَّ توالت اغتيالات الأوروبيين في منطقة الصحراء، فيما حاولت فرنسا تجنب المرور عبر الأراضي التي سكنها الطوارق. لكن الواقع تغيَّر بعض الشيء بعد وفود الراهب "ميشال دو فوكو" بمنطقة "الهقَّار"، الذي لعب دور الجاسوس ومدَّ باريس بالمعلومات حول أوضاع المنطقة وسكانها لمساعدة قوات بلاده على تطوير إستراتيجية متكاملة لإخضاع السكان.

ورغم ذلك، لم تتوقف المواجهات العسكرية ضد الفرنسيين، وأبرزها معركة "تيت" سنة 1902، التي أبرمت بعدها السلطات الفرنسية معاهدة هُدنة مع قبائل الطوارق. بدورها، لم تُنهِ المعاهدة الأطماع الفرنسية في المنطقة، وواصلت القوات الاستعمارية محاولات التغلغل، لكنها اصطدمت مرارا بمقاومة الطوارق الذين حاصروا تنقُّلات الجيش الفرنسي مرات ومرات، فلم يفلح أحد منهم في الإفلات إلا بعد الاستعانة ببعض السكان المحليين عن طريق الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، حيث أجبر بعضهم على الانخراط مع الجيش الفرنسي. في نهاية المطاف، استتبت الأمور لفرنسا نسبيا بحلول عام 1920.

مع بدء موجات التحرر من الاحتلال في العالم الثالث، انسحب الاستعمار الفرنسي من بلدان أفريقية عديدة، مُخلِّفا وراءه حدودا لا تاريخ لها أبقت على النزاعات بين شعوب المنطقة. فقد عرفت المناطق التي عاش فيها الطوارق أحداثا ومواجهات لم تساعدهم في الاستقرار كما اعتادوا قديما. وزادت الأوضاع صعوبة بعد أن ضرب الجفاف بعض مناطق شمال مالي في السبعينيات والثمانينيات، فرحل العديد منهم إلى الجارة الشرقية ليبيا تحت حُكم زعيمها حينئذ "معمر القذافي". وقد تلقَّى بعض الطوارق تدريبات عسكرية من طرف الجيش الليبي الذي استعان بهم في حروب عِدة، ثم عاد بعضهم إلى بلدانهم الأصلية وحملوا السلاح على حكوماتها، لا سيما مالي والنيجر، عن طريق الانضمام إلى الجماعات المسلحة، في حين بقي البعض في ليبيا على وفائه للقذافي. هذا ووصل بعض الطوارق إلى مناصب مرموقة في صفوف الجيش الليبي مثل الضابط "سيدي الأمين" الذي حارب أثناء التسعينيات في "الجيش الثوري لتحرير أزواد". (1)

ذكرت بعض المصادر أن نحو 600 من أبناء الطوارق أعانوا القذافي على التخفي والفرار من الثوار داخل الصحراء الليبية، وقدَّموا الحماية للزعيم الليبي وساعدوه في حمل بعض المال والذهب. (الفرنسية)

حين اندلعت الثورة الليبية عام 2011، لم يكن مفاجئا أن يستعين القذافي بالطوارق لمواجهة الثوار، إذ جنَّد "الجنرال" العديد من الشباب لقتال الثوار الليبيين، وهو أمر تسبَّب في تعقيد علاقة المجلس الانتقالي الليبي الجديد بالطوارق الذين تمرَّدوا على النظام الثوري الجديد. علاوة على ذلك، ونتيجة لولائهم "المنطقي" للقذافي، ذكرت بعض المصادر أن نحو 600 من أبناء الطوارق أعانوا القذافي على التخفي والفرار من الثوار داخل الصحراء الليبية، وقدَّموا الحماية للزعيم الليبي وساعدوه في حمل بعض المال والذهب. ورغم ذلك، لم يدِن جميع الطوارق بالإخلاص للقذافي حتى آخر رمق، فهنالك مَن أعلن تبرُّؤه من نظامه والولاء للمجلس الانتقالي الثوري، مثل "موسى كوني"، قنصل طرابلس السابق في مالي، وأحد الناطقين باسم الجماعة في نظام ما بعد القذافي. ولم يكن البقاء في ليبيا الاختيار الوحيد للطوارق، بل عاد بعضهم إلى البلدان التي قدموا منها، ففتحوا بذلك بابا جديدا من تاريخهم يركز هذه المرة على "المطالبة بوطن قومي". (1)

الطوارق بعد الثورات العربية

في يناير/كانون الثاني 2012، تمكَّن متمردون طوارق من اجتياح بلدية "أجويلهوك" شمالي مالي مستعينين بأسلحة ثقيلة نُهِبَت من الترسانة العسكرية لجيش القذافي. لم يكن السلاح الشيء الوحيد الذي عاد به المتمردون الطوارق من ليبيا، بل الخبرة القتالية أيضا، فقد تمكنوا خلال العملية من تطويق قاعدة لجيش مالي بمركبات رباعية الدفع ثبَّتوا عليها مجموعة من الأسلحة الآلية، كما استطاعوا تدمير منشآت الاتصال بالجيش المحلي، وحالوا دون التواصل بين أبراج الهاتف المحمول. في غضون ذلك، قطع المتمردون أيضا إمدادات المياه، ونصبوا الكمائن لقوى الجيش، وأظهروا بشهادة الجنود الماليين أنفسهم تفوقهم العسكري واللوجيستي بما لا يدع مجالا للشك بأنهم سيكونون شوكة صعبة في حلق "باماكو".

لم تكن هذه الحلقة الأولى في مسلسل التمرد الذي قاده طوارق الشمال المالي، فقد عاشت "أزواد" و"باماكو" حلقات متشابهة بدأت عام 1960 بعد خروج المستعمر الفرنسي، وظل الوضع بين مد وجزر حتى سنة 2008، لكن المعطيات تغيرت بعد 2011، إذ جاء التمرد هذه المرة مسلحا بصواريخ "إس إيه 7″ و"إس إيه 24" ونظام صواريخ "ميلان" المحمولة. وأثنى هذا التجهيز العسكري الجيد المتمردين عن الفرار إلى الصحراء كما حدث في مرات سابقة، ففتحوا النار على الجيش في ثلاث جبهات، وتمكنوا من مقاومته بشراسة، مما دفع مسؤولين بوزارة الدفاع المالية إلى الخروج بتصريحات تقول إن المتمردين الطوارق يمتلكون إمكانيات عسكرية تضاهي الجيش الليبي، إذ تضم ترسانتهم رشاشات ثقيلة ومركبات رباعية الدفع وصواريخ مضادة للدبابات والطائرات دون نسيان الأسلحة الخفيفة، على حد قول مسؤول بوزارة الدفاع المالية في حوار له مع وكالة "رويترز".

عرَّف البيانُ التأسيسي "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" بأنها تنظيم سياسي أزوادي يُمثِّل النهج السلمي "للوصول إلى الأهداف المشروعة واسترجاع كُل الحقوق التاريخية المغتصبة لأمة الطوارق". (رويترز)

ساهمت الثورة الليبية مباشرة في إعادة الطموح العسكري للطوارق، وهو طموح ليس بجديد. فقد تبلورت رغبة هذه القبائل في الحضور بوصفها وحدة سياسية بالإعلان عن مطالبها سنة 1963 في مالي، إذ طالبوا بحق امتلاك الأراضي للحفاظ على خصوصيتهم الثقافية واللغوية. وواجهت "باماكو" هذه المطالب بالقمع، وزجَّت برموز المعارضة في السجون. وكانت المطالبة "بالاستقلال" السبيل الوحيد للطوارق لتسجيل حضورهم السياسي، حيث لا تضم صفوفهم عددا كبيرا من حاملي الشهادات العليا الذين يمكنهم تبُّوء مناصب عليا سياسية أو إدارية في الدول التي يوجدون فيها، حيث يتركزون عادة في مناطق شبه نائية وبعيدة عن المدن المركزية.

هدأت الأوضاع في مالي لمدة عقدين تقريبا، ثم عادت للاشتعال في سنوات التسعينيات مع تجدُّد التمرد، لكن الحكومات المالية واجهت المطالب بالقمع مرة أخرى، أما في النيجر فاختلف الوضع تماما، إذ حمل طوارق البلاد السلاح عن طريق إنشاء حركة مسلحة باسم "حركة النيجر من أجل العدالة"، واستهدفت الحركة الشركات الأجنبية والعاملين فيها احتجاجا على عدم استفادتهم من عائدات الثروات الطبيعية للبلاد، وعلى رأسها "اليورانيوم"، بجانب تضرر أراضيهم من الصناعات التعدينية.

استهدفت الحركة أيضا الجيش النيجري وقتلت العشرات في صفوفه، كما سجَّلت البلاد أضرارا طالت المنشآت الحكومية التي هوجمت من قِبَل الحركة. وسرعان ما انتقلت عدوى التمرد إلى الجارة الغربية مالي مُجددا، التي أعلن فيها الطوارق عن إستراتيجية جديدة شملت اختطاف بعض الجنود في المناطق النائية شمالي البلاد. ولم تكُن تلك العمليات سوى بداية بسيطة لما حدث بعد ذلك. فحين تأسَّست "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" المطالبة بحق الشعب الأمازيغي في تقرير مصيره، عرَّف البيانُ التأسيسي الذي أُعلن عنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 الحركةَ بأنها تنظيم سياسي أزوادي يُمثِّل النهج السلمي "للوصول إلى الأهداف المشروعة واسترجاع كُل الحقوق التاريخية المغتصبة لأمة الطوارق". وتطالب الحركة بالاعتراف بها ممثلا دوليا للشعب "الأزوادي" الذي يسكن ولايات "تمبُكتو" و"غاو" و"كيدال" في شمال مالي.

بعد أن وضعت "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" يدها في يد حركة "أنصار الدين"، ما لبث الاتفاق أن تحوَّل إلى اقتتال داخلي مع الحركات الإسلامية التي انقلبت على "الطوارق". (رويترز)

لم تتأخر الحركة في تنظيم هجمات منظمة على الحكومة المالية التي واجهت التمرد بواسطة القوة الجوية، لكن المعركة لم تكن بالسهولة التي تمنَّتها باماكو، وخصوصا بعد انشقاق عدد من طوارق الجيش المالي، وتعزيز صفوف المتمردين بمقاتلين عملوا لصالح القذافي. ولذا، تزايدت عمليات خطف وقتل الجنود الماليين في الشمال، مما أثار مخاوف بإمكانية فقدان المنطقة نهائيا في ظل العجز العسكري الواضح. وقد تسبَّبت هذه الأحداث جزئيا في انقلاب 22 مارس/آذار 2012، الذي جاء حسب "المنقلبين" لحماية وحدة مالي التي فشلت الحكومة في الدفاع عنها. ولم تتحسن الأمور بالنسبة لمالي رغم تغيير النظام السياسي، فقد أعلن الطوارق استقلال منطقة "أزواد" في 6 إبريل/نيسان 2012، ومن ثمَّ لم يعد الحديث عن ثورة أو تمرد، بل عن دولة جديدة منفصلة عن مالي تحاذي الجزائر جنوبا، وتمتد على مساحة تصل إلى 827 ألف كيلومتر مربع (أكثر من نصف مساحة مالي) حاملة شعار "الوحدة، العدل، الحرية".

حاول الطوارق لعب ورقة "حق الشعوب في تقرير المصير" لنيل الاعتراف الدولي، لكنهم لم يفلحوا، فقد رفضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "سيدياو" خطوتهم، وهدَّدت بالتدخل عسكريا إن لزم الأمر للحفاظ على وحدة مالي. وبالمثل أعلن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وفرنسا عن مساعدة باماكو في استرداد الشمال، مدفوعين جزئيا بشرعية "الحرب على الإرهاب" بعد أن وضعت "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" يدها في يد حركة "أنصار الدين"، إذ عقد الطرفان اتفاقا نصَّ على تطبيق الشريعة الإسلامية في شمال مالي، واندماج "أنصار الدين" في "دولة أزواد". وما لبث الاتفاق أن تحوَّل إلى اقتتال داخلي مع الحركات الإسلامية التي انقلبت على "الطوارق" وأعلنت سيطرتها على شمال مالي قبل أن تتدخل فرنسا عام 2013 وتعيد الكفة لصالح الحكومة المركزية في "باماكو"، ولذا تبخَّر سريعا حلم "أزواد" في زخم الثورة الليبية وما لحقها من تفشي الجماعات المسلحة في الصحراء الكبرى.

فرنسا.. مرة أخرى

تحضر فرنسا باستمرار في معظم نزاعات القارة الأفريقية، ومن ثمَّ لا يمكن الحديث عن صراع في غرب أفريقيا تحديدا (الذي استعمرته فرنسا بنفسها سابقا) دون البحث عن دور باريس. في مطلع الألفية الجديدة، حاولت الدبلوماسية الفرنسية الحفاظ على العلاقات الجيدة مع دول الساحل، لكنها عملت بالتوازي مع الاستخبارات الفرنسية على مد خيوط التواصل مع الحركات الانفصالية التي حملت السلاح بدءا من سنوات التسعينيات في مالي والنيجر، وأسفرت هذه العلاقات أحيانا عن دعم فرنسي مباشر لهذه الحركات.

رغم عدائها التاريخي معهم، احتفظت باريس بنوع من الاحترام للطوارق، بسبب شجاعتهم وصبرهم الكبير وأدائهم الحربي الجدير بالاهتمام. وفي الوقت الذي كان فيه "نيكولا ساركوزي"، الرئيس الفرنسي السابق، يُقنِع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بالتدخل ضد معمر القذافي، عكفت الاستخبارات الفرنسية على إقناع الطوارق بالتخلي عن الزعيم الليبي المخلوع والعودة إلى بلدانهم. حتى إن بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين في مالي أكَّدوا أن باريس أوعزت إلى الطوارق بتأسيس "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، وأنها تعهَّدت لهم بأنها ستدعمهم في مطالبهم بالاستقلال إن هُم تركوا ليبيا، وهو ما ألقى بظلاله السلبية على العلاقات بين مالي وفرنسا في هذه الفترة.

بعد دخول فرنسا إلى مالي عسكريا "لمساعدة" الحكومة على إعادة إحكام السيطرة على الشمال، أبدى الفرنسيون حذرا كبيرا في التعامل والتمييز بين "الجهاديين" و"الطوارق"، ومن ثمَّ وفَّروا نوعا من الحماية للقبائل الأمازيغية. (رويترز)

اقتنع الماليون بأن العودة القوية لطوارق ليبيا كانت مدعومة من فرنسا، بعد أن مُنح المقاتلون الماليون حرية الخروج من التراب الليبي مُدجَّجين بالسلاح والعتاد، كما أن باريس -حسب رواية "باماكو"- أكَّدت للمنشقين عن القذافي أنهم لن يكونوا أبدا هدفا لقنابل حلف الشمال الأطلسي "الناتو". وأفادت مصادر عسكرية مالية في هذا الصدد بأن ما بين 500-600 رجل وصلوا إلى شمال مالي في يناير/كانون الثاني 2012 على متن 20 شاحنة محملة بالأسلحة. واستغربت السلطات المالية عدم إشعارها من طرف السلطات الجزائرية ولا النيجرية ولا حتى الفرنسية بهذا الكم من "المقاتلين"، علما أن مالي لا تملك أي حدود مباشرة مع ليبيا.

بعد دخول فرنسا إلى مالي عسكريا "لمساعدة" الحكومة على إعادة إحكام السيطرة على الشمال، أبدى الفرنسيون حذرا كبيرا في التعامل والتمييز بين "الجهاديين" و"الطوارق"، ومن ثمَّ وفَّروا نوعا من الحماية للقبائل الأمازيغية، حيث علمت باريس يقينا أنها ستكون في حاجة ماسة إليهم من أجل تتبُّع الجماعات الجهادية ومقاومتها، لا سيما أن تلك الجماعات قد صارت خصما صريحا لحركة تحرير أوزاد بعد أن استولت على منطقة الشمال عقب الانقلاب على الحكومة في شمالي مالي، وبالأخص بعد أن بدا جليا تعاون الحركة مع فرنسا. غير أن الشراكة التكتيكية بين فرنسا والطوارق لم تستمر كثيرا، فقد علم المقاتلون المحليون أن الجيش الفرنسي يستعملهم ليس إلا من أجل الوصول إلى أهدافه دون تعريض أفراده الفرنسيين للخطر، حيث إن الرصاصة الأولى في معظم المعارك غالبا ما أصابت أحد الطوارق لا الفرنسيين، ولذا انسحب الكثير من الأمازيغ من المشروع العسكري الفرنسي للحفاظ على حياتهم وحياة أقاربهم.

تمكَّن المتمردون بعد ذلك من الوصول إلى اتفاق تاريخي لـ"تنسيقية حركات أزواد" مع "باماكو"، الذي هدف إلى تنفيس الاحتقان في شمال مالي ووضع حدٍّ لسنوات طويلة من النزاع العسكري بين الطرفين. وقد نصَّ الاتفاق على منح المجالس المحلية صلاحية واسعة عن طريق تعيين مجالس منتخبة بالاقتراع العام والمباشر، في مقابل عدم رفع أي مطالب باستقلال ذاتي أو نظام اتحادي، إلى جانب اعتراف "باماكو" بتسمية "أزواد" التي يطلقها الطوارق على شمالي البلاد.

لقي الاتفاق ترحيبا دوليا واسعا، لكنه ظل هشا لعدد من الأسباب، منها الانسحاب الفرنسي من مالي الذي أخلَّ بموازين القوى في المنطقة، وانتهاء بالخطر "الجهادي" الذي ما زال يتهدَّد المنطقة ومصالح "أزواد" و"باماكو" معا. في الوقت نفسه، بدأت حبال الثقة تهتز من جديد بين الطرفين بسبب تعثُّر تطبيق اتفاق 2015، وهو ما يُحوِّل المنطقة إلى قنبلة موقوتة، قد تنفجر وتبعثر أوراق الجميع في أي لحظة، وتضع مسألة الطوارق في بؤرة الضوء بشكل غير مسبوق في منطقة يهيمن الحديث عنها بوصفها معقلا للجماعات الجهادية، دون نظر إلى الجماعات الأخرى التي تحمل على أكتافها طموحات وتاريخا وتشابكات قبلية واجتماعية أكثر عمقا ورسوخا.

المصدر : الجزيرة