شعار قسم ميدان

من التنوير إلى التضليل.. رحلة تاريخ الصحافة المصرية

midan - jornal alkhedewi
«يجوز للحكومة في كل الأحوال حجز وضبط جميع الرسومات والنقوشات مهما كان نوعها أو جنسيتها متى وضحت أنها مغايرة للنظام العمومي أو الدين وكل جريدة أو رسالة دورية تشتغل بالمواد السياسية أو الإدارية أو الدينية وتصدر بانتظام فى أيام معلومة أو بدون انتظام؛ لا يجوز نشرها إلا بإذن من الحكومة، كما أن التبليغات التي تصدر من نظارة الداخلية بقصد نشرها يجب أن تكون في صدر أي صحيفة» في صفحة مجلة بالسواد (1).

  (نص قانون مجلس النظار المقيد لحرية الصحافة 1909)

نشر القانون عبر صحيفة "مصر الفتاة"،  إلا أن الرد على القانون المزمع تطبيقه كان ردا قاسيا، فبعد ذلك بيومين اجتاحت القاهرة مظاهرات عارمة شارك فيها حوالي خمس وعشرين ألف مصري يطالبون بحرية الصحافة هاتفين بـ"يعيش كفاح الصحفيين" يتقدمهم أحمد حلمي رئيس تحرير جريدة القطر المصري ومن ثم تم إلقاء القبض عليه والزج به في السجن في مظاهرات هي الأولى من حيث تفرد المطلب(2)، بينما كتب خليل مطران متحديا:

شرِّدُوا أَخْيَارَهَا بَحْراً وَبَرا                             وَاقْتُلوا أَحْرَارهَا حُرّاً فَحُرَّا

 
إِنَّما الصَّالِحُ يَبْقَى صَالِحاً                               آخِرَ الدَّهْرِ وَيَبْقَى الشَّرُّ شَرَّا

 
كَسرُوا الأَقْلامَ هَلْ تَكْسِيرُهَا                           يَمْنَعُ الأَيْدي أَنْ تَنْقُشَ صَخْرَا

 
قَطِّعُوا الأَيْديَ هَلْ تَقْطِيعُها                            يَمنَعُ الأَعْيُنَ أَنْ تَنْظُرَ شَزْرَا

 
أَطْفِئُوا الأَعْيُنَ هَلْ إِطْفَاؤُهَا                           يَمْنَعُ الأَنْفَاسَ أَنْ تصْعَدَ زَفْرَا

 
أَخْمِدُوا الأَنْفَاسَ هَذَا جُهْدُكمْ                             وَبِه مَنْجاتُنَا مِنْكُمْ فَشكْرَا

 

كان كفاح الصحفيين -الذي هتف الشعب بحياته- كفاحا طويلا، فالصحافة المصرية في رحلتها التي نتناولها في هذا التقرير، حوصرت بين احتلاليين، احتلال أنشأها لخدمة أغراضه، وآخر حاول القضاء عليها وردعها وتكميمها لتهديدها مصالحه وأغراضه، فالصحافة التي بدأت مستأنسة لأسباب سياسية لم يدم استئناسها لأسباب سياسية أيضا. فكيف نشأت الصحافة المصرية؟ وكيف استُخدمت؟ وكيف قاومت؟ وكيف حاول النظام السياسي المصري تارة والمحتل تارة أخرى إخضاع الصحافة المصرية لسطوته؟

 

النشأة في ظل السلطة

كان بدء معرفة مصر بالطباعة بقدوم الحملة الفرنسية؛ فقد جاء نابليون وبصحبته المطبعة لترويج وطباعة منشوراته الدعائية التي يعتمد عليها في استمالة الشعب، فكان ما تطبعه المطابع الفرنسية باللغة العربية لا يزيد عن كونه منشورات تطمئن المصريين وتمدحهم وتظهر مزايا الحملة وطيب نواياها، لكن نابليون ورغم إصداره الصحف فقد اقتصرت لغة صحافته على اللغة الفرنسية دون سواها.

    

undefined

  

فأنشا نابليون جريدتين أولهما جريدة "كوربيه دوليجيبت" الصادرة عام 1798 والتي اختصت بنشر أخبار مصر الداخلية في القاهرة والأقاليم للجنود الفرنسيين والجالية الفرنسية (3)، فأتاحت للجالية الفرنسية معرفة حركات الجيش العسكرية وتسجيل معاركه وانتصاراته.

    

وثانيهما هي جريدة "لا ديكاد إيجسبيان" وهي صحيفة علمية تختص برصد شؤون مصر في كافة النواحي الاجتماعية والأدبية والاقتصادية وتسجيل إسهامات الحملة العلمية على هذه الأصعدة، ويرى إبراهيم عبده أنها كانت بمثابة صحيفة رسمية أو سجل لنشاط الحملة العلمي، تصدر في القاهرة للفرنسيين المقيمين فيها الذين تعنيهم شؤون الأدب والاقتصاد، ثم توقف صدور الجريدتين برحيل الحملة الفرنسية عن مصر.

   

رحلت الحملة الفرنسية ورحلت معها صحفها واستمر الحال كذلك حتى تولي محمد علي حكم مصر وبدأ في إصدار الصحف الرسمية عام 1805، وكانت تنسخ بخط اليد، وقد كان جورنال الخديوي الصادر عام 1813 هو أول مولود للصحافة المصرية التي كتبت بخط اليد، وقد تم نشرها باللغتين العربية والتركية بعد بناء المطبعة كملخص أو تقرير عن شؤون الدولة، ولم يكن يسمح للشعب بقراءته أو تداوله؛ بل اقتصر على بعض موظفي الدولة، وكان أسلوبه رسميا إخباريا (4)
  

وفي عام 1819 افتتح محمد علي مطبعة بولاق وتحولت الصحف المصرية إلى مطبوعات، ليعرف الشعب الصحافة لأول مرة، ويرى الصحف المطبوعة التي حظيت بانتشار أوسع من الصحف المخطوطة بخط اليد، وكما استحدث محمد علي نظام الطباعة فقد أعطى نفسه حقا أصيلا بالإشراف على ما تنشره الصحف والرقابة على مضمونها (5).

   

 فكانت الصحافة بذلك مقتصرة على فئة محددة ولغرض معين وهو الإخبار بصفة رسمية، فكانت أقرب إلى النشرات الداخلية للمصالح الحكومية منها إلى الصحف بالمعنى المعروف حاليا.

      

 

ونتيجة لذلك لم يحقق جورنال الخديوي معرفة الشعب بإصلاحات الوالي حيث لم يكن من المتاح لهم الاطلاع عليه، فلجأ إلى إنشاء صحيفة الوقائع التي كانت إخبارية في المقام الأول وانعدمت فيها الفنون الصحفية الأخرى فكانت أشبه ما يكون بالنشرات الإخبارية (6)، فهي بحسب توصيف إبراهيم عبده: سجل للحكومة وصدى لنشاط رجالها.

   

كذلك عنيت الوقائع بنشر جميع أخبار الحكومة عدا أخبار الجيش، فأنشئت جريدة "الجريدة العسكرية" التي اختصت بنشر الجرائم التي تقع في آليات الجيش مع نشر الأحكام التي تصدر ضد مرتكبي هذه الجرائم وهي تعد بذلك أول جريدة متخصصة(7).

    

وظلت تغريدات الصحافة على هذا المنوال كصوت أوحد للمؤسسة الحاكمة يُعلم الناس بما كان وما هو كائن؛ وذلك حتى قدوم كل من الخديوي عباس الأول والخديوي سعيد، فقد أغلقت الصحف أبوابها حيث لم يؤمن كل منهما بجدوى الصحافة؛ بل وصل الأمر إلى حد إهداء المطبعة الأميرية ومرفقاتها إلى صديقه عبد الرحمن رشدي بيك(8).

   

طور الفتوة.. شق عصا الطاعة

وبعد غروب شمس الصحافة في عهد الخديوي سعيد؛ أُذن لشمسها بسطوع جديد، فبعد إنقضاء عهد الخديوي سعيد خلفه الخديوي إسماعيل، فجاء إسماعيل حاملا معه نهضة صحفية شاملة وساعده على ذلك تدفق المبعوثين المصريين الذين ابتعثهم محمد علي إلى الخارج وتوليهم مناصب مرموقة في حكم إسماعيل، فبالإضافة إلى استعادة الصحف الرسمية السابق ذكرها استُحدثت في عهده صحف آخرى؛ كصحيفة روضة المدارس -أول صحيفة مصرية تعتني بالفنون والآداب- وكانت تصدر تحت إشراف رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك (9).

    

صحيفة روضة المدارس (مواقع التواصل الاجتماعي)
صحيفة روضة المدارس (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

ثم أنشئت مجلة "يعسوب الطب" كأول صحيفة طبية يشرف عليها كبير الأطباء، وقد شهدت أول صحافية مصرية وهي السيدة جليلة تمرهان التي نشرت أمورا تختص بصحة الحامل ونصائح تربية الطفل(10)، وزادت الصحف المتخصصة ذات الاهتمامات المتفاوتة بشكل ملحوظ.

   

وتجلى سطوع شمس الصحافة بإنشاء ما يمكن تسميته الصحف الشعبية؛ وهي صحف تصدر دون الخضوع لرقابة الدولة، وقد شجع إسماعيل هذه الصحف تشجيعا بالغا شريطة أن تطلق ألسنتها في نقد الباب العالي نقدا شرسا (11)، فيكون لديه سلاح ضد السلطان العثماني ولكنه سلاح لا يُلام به لعدم خضوع هذه الصحف لرقابته.

  

فصدرت صحيفة "وادي النيل" كأول صحيفة أهلية، وجاء في عددها الافتتاحي أن "إسماعيل استحق أن يلقب بمحيي مصر وإمام العصر وأن حكومته كالطبيب الحاذق والحبيب الموافق، أعدت لكل داء دواء وسدت كل خلل بما يليق في السداد سواء بسواء، وما ذلك إلا بحسن عناية الأصل" (12)، فكانت الصحف الشعبية تمجد حكم إسماعيل الرشيد وتحظى بدعمه وتأييده حتى حدث أول صدام بين صحفية شعبية "نزهة الأفكار" ونظام إسماعيل.

   
صحيفة وادي النيل (مواقع التواصل الإجتماعي)
صحيفة وادي النيل (مواقع التواصل الإجتماعي)

  

ولم يكن بمقدور الخديوي إسماعيل أن يتنبأ أن السيف الذي أراد غرسه في خاصرة الباب العالي سيخرج من غمد الخديوي ويرتد في وجهه حيث راحت الصحيفة تنتقد تصرفات إسماعيل وحفلاته ,وتفرد مقالات لنقد تصرفات الأسرة العلوية سواء بسواء مع الباب العالي العثماني وراحت تطرح تساؤلات حول بذخ إسماعيل رغم تضخم الديون في عهده فصودرت بعد عددها الثاني بحجة أنها "تثير الخواطر وتبعث على الفتن".

   

وكما يرى إبراهيم عبده فإن "الصحافة الأهلية في مصر بدأت لا هي شعبية ولا هي رسمية في وادي النيل ثم تخلت عن رسميتها ومضت على سجيتها شعبية حرة في نزهة الأفكار ووقف دون تقدمها حكم مطلق لا يحول دون بطشه بحرية الرأي حائل".

    

ثم توالى ظهور الصحف الأهلية؛ كصحيفة روضة الأخبار والأهرام وحقيقة الأخبار والوطن، أما عام 1877 فقد شهد صحيفة متفردة من نوعها هي أول صحيفة سياسية ساخرة تعتمد على الرسوم الكاريكاتورية لصاحبها يعقوب صنوع، وكانت صوتا رافضا مدويا فقد عرضت الحقائق السياسية المرة ومضت في تبصير المواطنين بحقوقهم وتشجيعهم على بث شكواهم(13).

   
صحيفة أبو نظارة (مواقع التواصل الإجتماعي)
صحيفة أبو نظارة (مواقع التواصل الإجتماعي)

  

وبدأت جريدة "أبو نظارة" تغرد خارج السرب فتنتقد حكم الخديوي إسماعيل بعبارات جارحة، فأمر بإلغائها وطرد يعقوب من مصر، ولكن يعقوب استمر في إصدار صحيفته من باريس وقد اتخذت أسماء متعددة منها "أبو نضارة زرقا، النضارات المصرية، أبو زمارة،أبو صفارة " (14)

  

ورغم حظر جرائد صنوع ومنعها من التداول؛ فقد انتشرت صحفه وتداولها الناس فكانت تقرأ في القرى والمدن حتى شاع أن الفلاحين يخبئونها تحت طواقيهم لدرجة اضطرت صانعي الصحيفة إلى تصغير حجمها لسهولة تداولها وتهريبها، وقد بدأ صنوع بذلك تاريخ الصحافة المصرية المهاجرة.

   

شكلت الصحافة مصدرا حقيقيا لإزعاج السلطة وتحديها، فتصدى النظام السياسي لانتشار الصحف الشعبية بوضع الصحف وسائر المطبوعات تحت إمارة ناظر الداخلية وأصبح للمشرف على الوقائع المصرية حق الإشراف على الصحف والمطبوعات الأهلية (15)، وأصبح الحال كذلك حتى عزل إسماعيل وتولي ابنه توفيق الحكم بدلا منه فلم تجد الصحافة حرجا من إبداء فرحتها بذلك والبشر بقدوم الوالي الجديد.

  

صحيفة الوقائع المصرية 
صحيفة الوقائع المصرية 
 

لكن الصحافة لم يتسن لها إدراك ما تمنته، وجاءت رياح الخديوي الجديد برغبة واضحة في تحطيم سفن الصحافة، فبدأ توفيق عهده بنفي جمال الدين الأفغاني وإغلاق الصحف مخيبا أمال الصحافة أن تجده نصيرا لها، فأغلق صحيفة "مصر والتجارة" و"مصر الفتاة" و"مرآة الشرق"، وتوالت صدامات توفيق مع الصحافة حتى جاءت الثورة العرابية لتنحاز أغلب الصحف إلى عرابي وثورته إنحيازا مباشرا وعلى رأسهم حسن الشمسي وعبدالله النديم (16).

  

بدت الثورة العرابية حلما تراهن عليه الصحافة بكل ما تملك من قوة وعدد وعتاد، وعرابي هو المخلص الذي تعلق عليه جميع الآمال، فوهب عبد الله النديم نفسه للثورة العرابية وغير اسم جريدته من التنكيت والتبكيت إلى الطائف، وكان أول مراسل ينقل الأحداث من أرض المعركة، فأخذ يروي انتصارات عرابي وجيشه وتقهقر جيش الاحتلال في مواجهتهم حتى وهم الناس أن عرابي بات منتصرا، فتغيب وعي الشعب ولم يفق إلا والاحتلال يغزو البلاد(17).

     
الإحتلال البريطاني والصحافة المقاومة

لم تترك الصحافة لنفسها مخرجا بعد أن فشلت الثورة ورزخت البلاد تحت وطأة الاحتلال، فالصحافة ذابت في الثورة لدرجة أن حتلال بريطانيا للبلاد كان حدثا مقطوع السند، كأن بريطانيا قد قدمت من الفضاء بعد أن انتصر عليها عرابي، خسرت الصحافة مصداقيتها وبدأت في محاولات استجماع ثقة الشعب للعمل على إزاحة ذلك المستعمر القادم؛ لكن الاحتلال لم يترك للصحافة هذه الفرصة فبادرإلى إلغاء جميع الصحف المنحازة للثورة العرابية؛ مثل السفير والطائف والمفيد والنجاح، ونفى كلا من محمد عبده وحسن الشمسي، بينما اختفى النديم لعشر سنوات وبدأ في استمالة صحف مثل الأهرام والمحروسة والوطن وعادت الوقائع صحيفة رسمية(18).

    

 

وفي ظل محاولات الصحافة المستمرة في استعادة سلطتها وثقة الشعب فيها ومحاولات الاستعمار المتنامية في خلق صحافة ترسخ وجوده؛ ظهر نوع جديد من الصحافة حمل لواءه جمال الدين الأفغاني؛ الذي جاء إلى قلب العالم الإسلامي ليعمل على حد قوله على "تنكيس راية بريطانيا في العالم الإسلامي".

  

جاء ذلك النوع من الصحافة مستحضرا تجربة ابن تيمية في الحروب الصليبية، ولكن بدلا من ابن تيمية كان محمد عبده وجمال الدين الأفغاني رَجُلي هذه التجربة في صحيفة "العروة الوثقى"، وتم تصدير قضية يعملون عليها وهي تحرير البلاد الإسلامية من الاحتلال وتكوين وحدة إسلامية جامعة والتماس المنهج القرآني لتربية الأفراد، واستعادة مفهوم الجهاد كوسيلة لمكافحة المستعمر ورد الأمة إلى تراثها الإسلامي، ويمكن تسمية هذا النوع بـ"الصحافة الإسلامية" (19).

     

ويرى عبد اللطيف حمزة أن الأفغاني ومحمد عبده انتقلا من الرغبة في إصلاح مصر دينيا واجتماعيا إلى دائرة أوسع؛ فأصبحا يعملان لخدمة المسلمين كافة، وألا حياة للمسلمين إلا بدينهم "وجراء ذلك منعت السلطات الإنجليزية دخول الجريدة إلى مصر.

    

فأتبع ظهور هذه الجريدة جرائد آخرى تعمل بالأسلوب ذاته وبالروح ذاتها، فتسلمت "المنار" راية "العروة الوثقى" ليدرك الاحتلال أن استمراره في حظر الصحف لن يكون أمرا جديا، وبدأ بمقاومة الصحافة بالصحافة، فعمل على إنشاء صحف ناطقة بالعربية كجريدة "الأعلام" و"المقطم" و"المقتطف"، وفي مواجهة هذا النوع من الصحف أنشأ الشيخ علي يوسف جريدته "المؤيد" كجريدة وطنية تشجع الأصوات الشابة لتلهب حماس الجماهير وتحثهم على الثورة في وجه الاحتلال، وفي مقدمة من شجعتهم مصطفى كامل(20).

  
صحيفة المؤيد التي أنشأها الشيخ علي يوسف
صحيفة المؤيد التي أنشأها الشيخ علي يوسف
  

وفي خضم المعركة الدائرة بين الصحف الداعمة لوجود الإنجليز بمصر والصحف الرافضة لهذا الوجود، بدأت الصحف الثقافية في الانتشار كمحاولة للإصلاح عن طريق خلق وعي شعبي حسب الغرض الذي أعلنه مؤسسوها، وبدأ الاحتلال يدعم وجودها كصحافة وسطية لا تشتري عداوته وإن لم يشتري موالاتها(21)، كصحيفة "الهلال" لصاحبها جرجي زيدان وكانت مجلة تاريخية أدبية.

   

وكاستراحة محارب؛ بدأ ظهور العديد من الصحف الساخرة والدينية وأخذت الصحافة النسائية في الظهور وكانت باكورتها جريدة "الفتاة"، في حين؛ توارت الصحافة السياسية عن الساحة حتى صدرت صحيفة اللواء لمصطفى كامل التي تصفها عواطف عبد الرحمن بأنها البداية الحقيقية لصياغة رأي عام مناهض للاحتلال وبداية صحفية لزعامة مصطفى كامل السياسية.

   

وظلت الصحافة السياسية على هذا الحال تخفي نفسها بركن قصي حتى وقعت حادثة "دنشواي"، فاشتدت لهجة الصحافة حدة وعلت الأصوات ولهجت الأنفاس فأصدر اللورد كرومر قرار العمل بقانون المطبوعات، وقادت التظاهرات السلمية إلى استقالة اللورد كرومر وعقبه اللورد كتشنر الذي فاق سالفه سوءا واستدعى ذات القانون للتضييق على حرية الصحافة مرة آخرى، فهاج الشعب على حكومة بطرس باشا وبدأ في إرسال خطابات التنديد، وتظاهر الشعب لأجل حرية الصحافة لأول مرة في تاريخه (22).

   

نجح الاحتلال في السيطرة على هذه التظاهرات وأودع المشتركين فيها غياهب السجون، وتم تفعيل العمل بقانون المطبوعات فعبثت يد الرقابة بالصحافة وتم تكبيلها، فأغلقت كبريات الصحف أبوابها وعادت الصحافة إلى ما كانت عليه وقت النشأة، وهي أن تكون صوتا أوحد لمن امتلك القوة والحكم(23).

     
undefined

    

وهكذا طويت صفحة من صفحات نضال الصحافة المصرية، طويت هذه المرة وقد انتصر عليها المغتصب لأنه لم يتحمل أن تزعجه تغريداتها، هزمت في معركة لكنها انتصرت في معارك عدة، وإن كانت هزيمتها في المعركة السالف ذكرها مريرة؛ فيكفيها انتصارا أنها جمعت شعبها على كلمة واحدة هي "يعيش كفاح الصحفيين".

   

ومرة بعد مرة تبعث الصحافة من جديد بعد أن بدا عليها الموات، ومرة بعد أخرى، تُحجب الصحف وينفى الصحفيون أو يلقى بهم في غياهب السجون، وما تاريخ الصحافة المصرية إلا صفحة تكرر باختلاف الأسماء والرموز، فالصحف التي نذرت نفسها لعرابي ستنذر نفسها لسعد وثورة الشعب، وتكافح من جديد منشأة موجة صحفية جديدة، وستنذر نفسها لقضية فلسطين وتدين الاحتلال وتكشف أسرار فساد السلاح المصري في حرب 48/ وتساعد الضباط الأحرار دون أن تقصد مساعدتهم لتدور الدائرة على الصحافة وتؤمم الصحف، ويتحول صحفيوها إلى موظفين حكوميين؛ فقد يستيقظ أحدهم ليكتشف أنه قد تم نقله من صحفي إلى موظف بالسكك الحديدية أو غيرها من منشآت الدولة(24)

  

ظلت الصحافة حتى يومنا هذا تفر حينا وتواجه حينا، ولكنها تقلق في كل حين! وظلت الأنظمة تغلب الصحافة بالسلطة والقوة، وبقيت الصحافة لا تملك سوى الحيلة والمراوغة ومحاولة التسرب، وأن تظل غير قابلة للإسكات.