شعار قسم ميدان

مسرح شكسبير.. الإنسان التائه وعذاب اللايقين

ميدان - شكسبير

عادة ما يكون للمسرح دور مهم في تقييم التجربة الجمالية والفكرية في زمن ما، السبب في ذلك أن المسرحي يكون أشبه بالمُفكر الأيديولوجي والفيلسوف، فما وصل له العالم ورأي المسرحي فيه يظهر في شكل ممارسة مسرحية تفكك أو تُعلي من قيمة أي سياسات ثقافية مفروضة أو مآلات وجودية تنتظر الفرد والمجتمع.

تقييم التجربة الجمالية والفكرية ذاك يظهر في شكل ربط بين البيئة الشخصية للأفراد في عصر ما والهياكل الفلسفية أو الأيديولوجية الحزبية وصيرورة المجتمع والعالم في الآن ذاته، فيكون المسرحي هنا -بوصفه صاحب مجال خطابي ناطق- انعكاسا فاعلا للسياسة والفلسفة والمجتمع وتعقيداته ومآلاته الاقتصادية والطبقيّة.

ومسألة تناول المسرح لتخوم التجربة الإنسانية أكثر ما تظهر واضحة جليّة -منذ عصر النهضة وحتى اليوم- في مسرح الشاعر والأديب والمسرحي الإنجليزي العالمي ويليام شكسبير (26 (أبريل/نيسان) 1564 – 23 (أبريل/نيسان) 1616)، وهو الذي كتب ثماني وثلاثين مسرحية تُرجمت جميعها إلى كل لُغات العالم، ويعد مسرحه اليوم واحدا من أهم المسارح في تاريخ الإنسانية.

 

يمكن تناول مسرح شكسبير في سياق رئيس مركزي، وهو
يمكن تناول مسرح شكسبير في سياق رئيس مركزي، وهو "المعرفة والشك" فطبيعة النفس البشرية التي كان شكسبير يضعها في اختبار أخلاقي حقيقي كحبكة رئيسة يدور حولها العمل
  

لطالما كان مسرح شكسبير عالميا، فغير أنه تفوّق على أقرانه فإنه لا يزال معاصرا مهما مرّ عليه الزمن، والعديد من مسرحياته لا تزال تُدرّس حتّى اليوم، ويُعاد تفسيرها في سياقات سياسية وفلسفية مُختلفة بحكم ما وقفت عليه من قضايا إنسانية ووجودية.[1]

ويمكن تناول مسرح شكسبير في سياق رئيس مركزي، ذاك السياق هو "المعرفة والشك"، فالفلسفة الشكية في مسرحه كانت مُخيّمة على عصر النهضة وطوال القرن السابع عشر ككل. وفي أفق فلسفة الشك تدور المسرحيات ما بين طرحين: "طبيعة النفس البشرية" التي كان شكسبير يضعها في اختبار أخلاقي حقيقي كحبكة رئيسة يدور حولها العمل، والطرح الثاني "السببية والقدر"، هل نحن من نصنع أقدارنا أم أقدارنا هي التي تحكم مصائرنا؟[2]

    

الشك كفلسفة مركزية في مسرحه
"شكسبير كان فيلسوفا جيّدا بقدر ما كان شاعرا جيدا"[3]

(الناقد الإنجليزي وليام هازلت)

الشك كمبحث إبستيمولوجي يطرح سؤالا بسيطا: هل الوقوف على معرفة يقينية بشأن أي شيء أمر ممكن؟ فصورتنا عن العالم والأشخاص والأشياء فيه هي نتاج تصورنا نحن واستقبالنا النسبي له الذي يختلف من آن لآن ومن شخص لشخص وليس بالضرورة تلك هي حقيقة العالم كما هو. [4]

"انعدام الثقة في وجود معرفة يقينية" هذا هو جوهر فلسفة الشك، وهو في الوقت ذاته ما اعتبر تتويجا لعقلانية عصر النهضة أن " لا وجود لحقيقة مُطلقة"، وأن الأمور كلها تبنى على حجج عقلانية، وهو ما مِن شأنه أن يجعل العالم أكثر تسامحا وأقل عنفا.[5]

  

يُركز شكسبير على فكرة فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، وهو مبحث متكرر في مسرحياته، وهذا الخطأ الهوياتي هو ما يُحرك الأحداث في المسرحية (رويترز)
يُركز شكسبير على فكرة فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، وهو مبحث متكرر في مسرحياته، وهذا الخطأ الهوياتي هو ما يُحرك الأحداث في المسرحية (رويترز)

  

نزعة الشّك تلك التي ميّزت عصر النهضة لم تكن حديثة عليه بقدر ما كان العصر نفسه هو أوج انتصارها، فلسفة الشك موجودة منذ محادثات سقراط مع أهل أثينا حول ماهية الجميل والقبيح والطيب والخبيث، حتى أعلن سقراط نفسه "أنه يعرف شيئا واحدا: أنه لا يعرف".[6]

ويمكن القول إن مبدأ "الشك في كل معرفة إنسانية" هو فلسفة شكسبير المركزية في جميع مسرحياته، فحياتنا بشكل ما وهم لا يقين فيها، وكل ما يُشكل رأينا في الآخرين وفي العالم قد يكون محض خطأ. هذا ما يُعلنه شكسبير على لسان بروسبيرو بطل أحد أهم مسرحياته "العاصفة" حيث يقول: "العالم خواء في خواء. فراغ سديمي لا نهاية له".[7]

لقد استرعى التقاطع بين مسرحيات شكسبير والشك الأبستمولوجي العديد من النقاد لمدى مركزية فلسفة الشك عنده، فمثلا في مسرحيته "حلم ليلة صيف" (A Midsummer Night Dream) يُركز شكسبير على فكرة فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، وهو مبحث متكرر في مسرحياته، وهذا الخطأ الهوياتي هو ما يُحرك الأحداث في المسرحية.[8]

نفس المبحث يستعرضه شكسبير في "هاملت" (Hamlet) الذي يُنظَّر له باعتباره شخصية فلسفية مُتشككة ووجودية، على سبيل المثال يقول هاملت لروسنكرانتر في المسرحية: "لا يوجد شيء سيئ أو شيء جيد، التفكير هو ما يجعل الأشياء كذلك"،[9]وهو ما يردنا مرة أخرى إلى الشك الأرسطي، فكرة أن الأشياء تبدو لنا هكذا لما نكسوه بها من ظن ووهم واعتقاد.

 

عدد كبير من مسرحيات شكسبير مليئة بالشخصيات التي تسيء فهم بعضها البعض، وقد استطاع بمهارة المسرحي توظيف سوء الفهم ذاك في مسرحياته لتأخذ طابع الكوميديا ( الأوروبية)
عدد كبير من مسرحيات شكسبير مليئة بالشخصيات التي تسيء فهم بعضها البعض، وقد استطاع بمهارة المسرحي توظيف سوء الفهم ذاك في مسرحياته لتأخذ طابع الكوميديا ( الأوروبية)

 
نفس المبحث يظهر في "حكاية شتاء" (The Winter’s Tale) التي يفرض اسمها على المشاهد أنّه بصدد عمل يخلط بين الواقع والخيال، ففي مطلع الفصل الثاني المشهد الأول يرد ماميليوس على أمه حين تطلب منه أن يحكي حكاية قائلا: "الحكايات الحزينة جميلة للشتاء، لدي واحدة عن العفاريت والجنّ".[10]

يستمر شكسبير في استعراض حالة اللايقين الدرامية والمأساوية في "ماكبث"، حيث يقدم مذهب الشك مرة أخرى عندما نرى البطل الشعبي ماكبث الذي حقق انتصارا ضخما لتوه يخطط لقتل الملك، وهو ما يتنافى مع طبيعة البطل التي تظهر في الفصل الأول من المسرحية! هل كان ماكبث مجرما ودور البطولة هو الاستثناء العابر؟ أم بطلا ودور المجرم هو الاستثناء العابر؟ لا ندري، وماكبث نفسه في الفصل الخامس في المشهد الخامس يردد:

"الحياة ما هي إلا ظل يسير باستمرار، لاعب بائس
متغطرس ومضطرب على خشبة المسرح،
ثم لا يعود يُسمع. الحياة حكاية،
يرويها أحمق، بعلو صوته وحنقه، دون أن يوضح شيء"[11]

ومقارنة ببقية مسرحياته تبدو "العاصفة" (The Tempest)- وهي مسرحيته الأخيرة وفصل الختام- ذات نهاية سعيدة مقارنة ببقية مسرحياته، فبطل المسرحية بروسبيرو يسترد عرشه في ميلانو، آرييل يُطلق سراحه، كاليبان يدرك أنّ مَن ظنه إلها ما هو إلا رجل مخمور، ألونزو -ملك نابولي- يستعيد ابنه ويندم على خيانته السابقة، فيما ينصرف العاشقان الصغيران ميراندا وفرديناند للعب الشطرنج.

ورغم النهاية السعيدة تلك فإنه لا يزال يتردد اللايقين في صدى "العاصفة" هي الأخرى، خاصة عندما يقول بروسبيرو: "نحن صُنعنا من طينة الأحلام نفسها، هذه الأحلام"،[12] هذه كانت كلمة النهاية وفصل الختام في آخر مسرحياته، إننا -نحن الجنس البشري الموجوع ككل- كالأحلام، محض خيال! اسم المسرحية نفسه يفرض نوعا من التسليم بطبيعة الحياة على أنها عاصفة، لا شيء فيها يقيني، فمن نظنه إلها قد يكون سكيرا، ومن نظنه أخا قد يكون عدوا، والحياة نفسها ما هي إلا "خواء في خواء" كما يقول برسبيرو.

 

القلق الفلسفي الحاضر في مسرحيات شكسبير كان حاضرا في أقوال سقراط وكتابات أفلاطون، لذلك نستطيع اعتبار مسرحيات شكسبير استعراضا للشك السقراطي القديم ومقدمة للايقين الأبستمولوجي الحديث
القلق الفلسفي الحاضر في مسرحيات شكسبير كان حاضرا في أقوال سقراط وكتابات أفلاطون، لذلك نستطيع اعتبار مسرحيات شكسبير استعراضا للشك السقراطي القديم ومقدمة للايقين الأبستمولوجي الحديث
  

إن ما يخلص إليه شكسبير -في "العاصفة" وغيرها من مسرحياته الثمانية والثلاثين كلهن- هو نوع من المعرفة المُرة بأننا لا نعرف شيئا كما قال سقراط. هذا التركيز على حالة اللايقين المعرفي والخلط بين الحقيقة والخيال في مسرحياته كان بمنزلة مناقشة أدبية مبكرة لمذهب الشك عبر استعراض قضايا سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية هي الأكثر إثارة للجدل في عصر النهضة وحتى اليوم.[13]

ففكرة الوصول إلى ما هو صحيح وجيد ومفيد معيارية جدا، والاعتقاد والظن والحواس كقاعدة لتكوين الرأي قد تكون مضللة في كثير من الأحيان، كذلك الاعتماد على الآخرين في تكوين أي معرفة يقينية قد يكون خطأ، سواء كان الآخرون مؤسسة أو أفرادا أو كتبا مقدسة أو غيره. هذا القلق الفلسفي الحاضر في مسرحيات شكسبير كان حاضرا في أقوال سقراط وكتابات أفلاطون، لذلك نستطيع اعتبار مسرحيات شكسبير استعراضا للشك السقراطي القديم ومقدمة للايقين الأبستمولوجي الحديث. [14]

وبالإضافة إلى ذلك يُفصّل شكسبير نفسه فكرة أن "معرفة ما يُفكر فيه الآخرون أمر صعب جدا"، وعدد كبير من مسرحياته مليئة بالشخصيات التي تسيء فهم بعضها البعض، وقد استطاع هو بمهارة المسرحي توظيف سوء الفهم ذاك في مسرحياته لتأخذ طابع الكوميديا.[15]

الشاهد أنه تماما كما صار المسرحي الإيرلندي صامويل بيكت (1906 – 1989) رائدا لمسرح العبث فإن شكسبير هو رائد مسرح الشك بلا منازع، يُشكك ويناقش الفرق بين الحقيقة والخيال، بين الواقع واليوتوبيا، بين الإنسان والطبيعة، محاولا الوقوف على نقطة مركزية: هل هناك حقيقة؟

المصدر : الجزيرة