شعار قسم ميدان

صراع الهامش والمركز.. لماذا تشن الدولة المصرية حربا على المهرجانات؟

ميدان - موسيقى المهرجانات مصر
اضغط للاستماع

      

وجد مطرب المهرجانات حمو بيكا نفسه عاجزا تماما عن فعل أي شيء، ثماني ساعات كاملة قد مرت عليه في نقابة الموسيقيين دون أن يلتفت إليه وإلى طلباته أحد. لم يطرق بيكا هذا المكان بإرادته، فقد أرغمه تضييق أجهزة الدولة عليه على هذا؛ فبسبب فرض الدولة ضرورة وجود تصاريح لإقامة أي حفل غنائي والتضييق بشكل خاص على مَن يغنون ذلك اللون من الموسيقى، لم يجد أمامه مفرا من المجيء إلى النقابة ليطلب التصريح. وبعد ثماني ساعات من التجاهل، جاءت النتيجة التي أفقدته أعصابه: لن يُسمح له بإقامة حفلات. حينها، وجّه حديثه لكاميرا الموبايل وسجل فيديو يهاجم فيه النقابة. انتشر الفيديو بقوة على منصات التواصل الاجتماعي وتبعه جدل إعلامي كبير، ليعود مرة أخرى فتيل السجال بين مطربي أغاني المهرجانات وبين الدولة في الاشتعال، وتضعه منصات الإعلام الرسمي مجددا في بؤرة الضوء.

     

   

لهذا السجال بين الدولة ومؤسساتها وبين أغاني المهرجانات والقائمين عليها تاريخ طويل، يعود لبداية ذلك النوع من الغناء، ما يجعلنا نقف أمام حالة رفض مؤسساتية لذلك اللون الموسيقيّ واستنكار من الدولة وممثليها لوجود ذلك الغناء من الأساس. تتبدى حالة الاستنكار تلك في اللغة التي تستخدمها الصحافة الرسمية في تناولها للمهرجانات، فتجعل من انتشارها دليلا على ما تسميه بـ "انحدار" الذوق العام،[1] وترى فيها "خطرا" يجب أن تشن عليه الدولة "حربا".[2] وهو ما حدث بالفعل، ففي يوليو/تموز الماضي، أصدر مجلس النقابة الموسيقية قرارا بمنع إحياء حفلات أغاني المهرجانات بمدينة الساحل الشمالي،[3] القرار الذي سرعان ما عممه بعدها بشهر واحد نقيب الموسيقيين هاني شاكر وجعل من التعامل مع مغني المهرجانات من غير أعضاء نقابة الموسيقيين جريمة عقوبتها قد تصل للسجن ثلاثة أشهر.[4]

   

تجعلنا تلك الحالة من العداء لنوع غنائي هو في النهاية غير ذي ضرر حقيقي على أرض الواقع نتساءل: لماذا تحارب الدولة ومؤسساتها موسيقى المهرجانات بكل تلك القسوة؟ ولكي نستطيع الإجابة عن هذا السؤال سيكون علينا أن نعود إلى الوراء خمسة عشر عاما، تحديدا إلى 2004، حين بدأت أول فصول القصة.

   

صخب آتٍ من أطراف المدينة
 
 "عمرو حاحا" أشهر ملحني وموزعي المهرجانات (مواقع التواصل)

    

اعتمد المراهق عمرو ابن منطقة عين شمس في كسب رزقه على العمل في متجر صغير لصيانة أجهزة المحمول والحاسوب، وكنشاط جانبي منتشر في كل متاجر المحمول في ذلك الوقت، اعتاد عمرو على تحويل الأغاني الشهيرة إلى نبضات يدخلها إلى أجهزة الموبايل ويبيعها كرنّات. وفي أحد الأيام، بدلا من اللعب بألحان معروفة، قرر عمرو أن يبتكر لحنه الخاص. لاقى لحنه رواجا كبيرا في المنطقة، حتى وجد عمرو مغنيا شعبيا في أحد الأيام يعرض عليه أن يشتريه منه ويحوّله إلى أغنية شعبية؛ ومن هنا، ولد المهرجان، وولد معه عمرو من جديد، ليتحول من شاب عادي إلى "الدكتور عمرو حاحا"، كما لقب نفسه، واحد من أشهر ملحني وموزعي المهرجانات إلى يومنا هذا.[5]

   

ككل ألوان الموسيقى الشعبية الأخرى، لا تملك المهرجانات قصة نشأة واضحة متفقا عليها. كانت القصة السابقة واحدة من بضع قصص أخرى تحاول التأريخ لنشأة المهرجانات. تختلف تلك القصص فيما بينها فيمن يعود إليه الفضل في ابتكار ذلك اللون الموسيقيّ، ولا تتفق بالضرورة حول مصدر تلك النشأة. فبينما تعيده القصة السابقة إلى "رنّات موبايل" انطلقت من متجر في حي عين شمس، نجد في قصص أخرى أن أول مهرجان غُنِّيَ في فرح شعبي بمدينة السلام.[6]

  

على ما نجده بين تلك القصص من اختلافات، نلحظ فيها كلها ملامح واحدة: المهرجان جاء إلى الوجود على يد مراهقين من مناطق عشوائية، أتاح لهم انتشار أشكال رخيصة من التقنية من حواسيب وهواتف محمولة وسهولة الحصول على برامج هندسة صوتية مقرصنة أن يخلقوا موسيقاهم الخاصة. وكانت تلك التقنية نفسها هي ما سهّل انتشار تلك الموسيقى، ففي بادئ الأمر وزعتها متاجر المحمول في المناطق العشوائية على الهواتف المحمولة، وبعدها بعدة سنوات، وجدت تلك الأغاني طريقها للإنترنت حيث صارت متاحة لعدد غير محدود من الأشخاص.

    

سلبت المهرجانات من الدولة ومؤسساتها قدرتها على التحكم والسيطرة على المنتج الموسيقيّ النهائي، فخرج إلى الوجود وانتشر نوع من الغناء والكلمات لم تعطهما صك الموافقة
سلبت المهرجانات من الدولة ومؤسساتها قدرتها على التحكم والسيطرة على المنتج الموسيقيّ النهائي، فخرج إلى الوجود وانتشر نوع من الغناء والكلمات لم تعطهما صك الموافقة
   

تُحيلنا تلك الملامح لنقطة مهمة: المهرجانات في نشأتها وانتشارها تلافت وتحايلت على كل المراحل المعتادة لصناعة الموسيقى، والتي يعتمد فيها تسجيل وتوزيع أي أغنية على وجود رأس مال كبير، وعلى الحصول على موافقة الجهات الرقابية. وفي تحايل المهرجانات على تلك المراحل، تحايلت بالضرورة أيضا على الدولة ومؤسساتها. فعلى عكس الأغاني الأخرى، لم تعتمد المهرجانات في توزيعها على القنوات المعتادة الرسمية وغير الرسمية للدولة من محطات إذاعة وتليفزيون.

 

سلب هذا التحايل الدولة ومؤسساتها قدرتها على التحكم والسيطرة على المنتج الموسيقيّ النهائي، فخرج إلى الوجود وانتشر نوع من الغناء والكلمات لم تعطهما صك الموافقة، من مناطق وأحياء هامشية مغضوب عليها لم تر فيها الدولة يوما سوى مرتع لمجرمين محتملين وأشخاص غير مرغوب فيهم في المطلق. ومن هنا، وُلد واحد من أهم أسباب عداوة الدولة لذلك النوع من الموسيقى، فالسلطة تكره بالضرورة كل ما تعجز عن الهيمنة عليه.

 

إلى هذا ذهب المثقف المصري محمد نعيم في حواره مع "ميدان" حيث قال: "تتحسس الدولة بشكل عام من أي مصنف فني لا تمتلك القدرة للسيطرة عليه، أو على رقابته، أو على منعه، أو على منح القائمين عليه مكانة بحيث تصير هي من ترفعهم درجات أو تخسف بهم الأرض درجات. ينبع هذا من تعريف الدولة الحديثة عموما لمفهوم الفن الملائم، حيث ترى نفسها الوصية على الذوق العام للناس وعلى ترقيته. فالجماهير لا تفهم، وهي مَن ستصنع لهم غناء أصيلا، غناء مهذبا، غناء راقيا على مستوى الجماليات الموسيقية. وحتى فترة قريبة، كانت تمتلك بالفعل الأدوات التي تساعدها على لعب هذا الدور. فقد كانت تمتلك الإذاعة، ولستين عاما تقريبا، كانت الإذاعة هي المساحة الوحيدة التي يُعرَف عبرها المطربون، ولحق بها السينما ثم التلفاز". لكن كل هذا ما لبث أن تغير بعنف، فقد "شكّل ظهور الكاسيت أول تهديد لتلك السيطرة. فبظهوره، صار لدى المغنين الشعبيين أو مغني المناطق الذين لا يمتلكون إجازات وموافقات رسمية القدرة على توزيع شرائط خارج المصنفات، أو توزيع شرائط بعد رشوة المصنفات، ومن هنا بدأت ظاهرة الحديث عن الغناء الهابط. ومع ظهور الإنترنت ويوتيوب، خرج الأمر تماما عن السيطرة".

    

  
كما خلق هذا ما أسماه الباحث أدهم حافظ "انشقاقا في إمبراطورية الصوت" حدث حين "واجهت الدولة التي تتباهى بقطاع صناعة موسيقية ضخم كجزء من موقعها "الرمزي" في المنطقة الناطقة باللغة العربية منتجا ثقافيا متغيرا: موسيقى المهرجانات. انشقاق في "الإمبراطورية الصوتية" المتجانسة التي تفتخر بامتلاك منتجات موسيقى البوب المربحة، أو الأعمال الشرقية الكلاسيكية التي تتسم بالحنين وتشير إلى أيام ولّت، أو حتى إلى الموسيقى السرية الصارمة والرائجة جدا".[7]

 

بحدوث هذا الانشقاق الذي سبّبته المهرجانات، خرج إلى الوجود نوع موسيقيّ يعطي أصحابه الحرية التامة في التعبير عن أفكارهم وأحلامهم ومخاوفهم وهواجسهم وكل ما يمر في حياتهم اليومية من مواقف. خرجت هذه الحرية بأغنية المهرجانات بعيدا عن حيّز الكلمات المعلّبة والقوالب الجاهزة التي يصب فيها تيار البوب التجاري أغنياته منذ عقود، وابتعدت بها عن اللغة المنمقة المهذبة التي لا تزعج أحدا، لتُضفي عليها قدرا من الصدق الوقح والحرية غير المحدودة التي تمقتها السلطة.

  

السلطة، كما نعرف جميعا، تكره الحرية وترى فيها تهديدا مباشرا لسلطتها، ومن هنا، نجدها تعادي أي فن لا يمجدها بشكل عام، وهو ما قال عنه نعيم: "أرى أن الدولة في طورها الحالي تعادي الفنون أصلا، فأي ما تشتم منه رائحة الحرية والتعبير الحر تعامله باعتباره خصما. وتنسحب تلك الرؤية على أشياء كثيرة، من المهرجانات وحتى السينما المستقلة". وبينما تنسحب تلك العداوة بالفعل على الفن بشكل عام مثلما أردف نعيم، نراها تختص المهرجانات بنوع خاص من العداوة طبقي في أصله.

  

يمتلك مغنّو المهرجانات وعيا كبيرا أن غناءهم يُمثّل طبقة معدمة لم يكن لها من قبل صوت على الساحة الفنية ولم يكن يُمثّلها أحد
يمتلك مغنّو المهرجانات وعيا كبيرا أن غناءهم يُمثّل طبقة معدمة لم يكن لها من قبل صوت على الساحة الفنية ولم يكن يُمثّلها أحد
  

يحمل الكاتب المصري أحمد جمال سعد الدين تلك الرؤية، فصرّح لنا في حواره مع "ميدان": "من الطبيعي أن ينتج كل شخص موسيقى تعكس بيئته المَعيشة، ومن الطبيعي أيضا أن تجذب تلك الموسيقى أبناء تلك البيئة أنفسهم. فغالبا لن يختار سائق الميكروباص في عمله اليومي بالشوارع أن يستمع إلى هاني شاكر. فهذا النوع من الفن والغناء مرتبط بشدة بالسياق الثقافي الذي ينتجه، سياق ثقافي مغلق ومرهق ماديا واقتصاديا، ومن ثم سيختار أبناء هذا السياق الاستماع إلى الموسيقى التي تعبر عن بيئتهم ومشاكلهم".

 

وأردف جمال: "ومن هنا، فلا يعد إنكار الدولة لموسيقى المهرجانات سوى نتيجة مباشرة لنبذ الدولة لما تنتجه تلك الطبقة من موسيقى. فلا أحد في السلطة يود أن يستمع لما يقوله هؤلاء ولا أن يعطيهم حقهم في التمثيل، فهم يرفضون الاستماع إلى هذا النوع من الغناء باعتباره معبرا عن لحظة معينة وطريقة معينة في الحياة هم ينكرونها أصلا".

  

ويمتلك مغنّو المهرجانات وعيا كبيرا بالنقاط التي تحدّث عنها جمال، فهم يعرفون أن غناءهم يُمثّل طبقة معدمة لم يكن لها من قبل صوت على الساحة الفنية ولم يكن يُمثّلها أحد، ويدركون أن غناءهم بحرية لا يحدها سقف عن كل ما يُمثّل طبقتهم يُشكِّل صداعا في رأس السلطة. إلى هذا المعنى ذهب المغنيان أوكا وأورتيجا في حوارهما في الفيلم التسجيلي "اللي يحب ربنا يرفع إيده فوق" الذي يوثق نشأة ذلك النوع من الموسيقى وانتشاره حين قالا: "احنا من المطرية، من المناطق الشعبية، وبنتكلم عن اللي احنا شايفينه وحسينه. حد زي عمرو دياب مثلا هيقولك أنا أصلا من منطقة شعبية، أنت كنت من منطقة شعبية، بس أنت مش عايش دلوقتي في منطقة شعبية، كبيرك أوي تتكلم عن الحب، عن الجرح. عندنا أربع طبقات، اللي أفقر من الفقر، والطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة والطبقة العليا، إحنا عايزين نبقى من اللي تحت الفقر دي بس بنعمل اللي احنا عايزينه".[8]

   

   

وهو ما ذهب إليه علاء فيفتي نفسه، مغني المهرجانات الشهير وواحد من أوائل مَن غنّوا ذلك النوع الموسيقيّ، في حوار له قال فيه: "أنا كنت بخاف. زيي زي أي حد. أي شاب شعبي أيام حسني مبارك كان بيشوف أمين الشرطة يقول: "يا نهار أسود" ويبقى مش عامل حاجة. كان يشوف الحكومة يبقى عايز يحفر في الأرض ويمشي فيها. مع إنه ولا معاه حاجة غلط ولا عامل حاجة غلط ولا عمره دخل القسم، ومعرفتش آخد حريتي إلا في الأغنية".[9]

    

     

جاء إذن هذا العداء من الدولة وسنّها لقوانين تجعل من إقامة حفلات لهذا النوع الموسيقيّ جريمة يعاقب عليها القانون محاولة منها لاسترداد دورها السلطوي الأبوي الذي هزته المهرجانات لحظة جاءت إلى الوجود. لكن يبدو في كثير من الأحيان أن الدولة محكوم عليها بالهزيمة في تلك الحرب التي شنتها على المهرجانات. فاليوم، أكثر من أي وقت مضى، تجد تلك الموسيقى انتشارا غير مسبوق صعدت به من أصولها المتواضعة في الأحياء الشعبية إلى سيارات أبناء الطبقة الوسطى وحفلات الأثرياء الصاخبة، وهو ما يُشكّل في حدّ ذاته لغزا بالنسبة للكثيرين.

    

إيقاع لا يبالي بأحد

ليست المهرجانات الشعبية النوع الموسيقيّ الوحيد الذي نجح في التحايل على قنوات الإنتاج المعتادة ليخلق إبداعه الخاص؛ رافقته في هذا أيضا موسيقى الأندرجراوند التي أعطاها هذا التحايل القدر نفسه من الحرية الذي تتمتع به المهرجانات. ومثلما فعلت المهرجانات، استغلت موسيقى الأندرجراوند حريتها في الذهاب لمناطق غير مطروقة من التعبير، لكنها بالرغم من هذا لم تنجح في أن تجد القدر نفسه من الانتشار والذيوع الذي وجدته موسيقى المهرجانات. يحيلنا هذا لأحد أهم أسباب انتشار موسيقى المهرجانات مقارنة بأنواع الغناء البديل الأخرى: اللغة. فبينما تعتمد موسيقى الأندرجراوند في كلماتها على القصائد العامية، أو حتى الفصحى أحيانا ما يفترض في المتلقي قدرا معينا من الثقافة، تذهب المهرجانات للنقيض التام، وتصوغ أغنياتها باستخدام اللغة المحكية.

  

يقول علاء فيفتي عن هذا: "مثلا لو جيت أكلم واحد صاحبي مقولوش مثلا "إيه، يا صاحبي"، بقوله "يالا". فأنا حطيت ده في الأغنية. مكانش موجود. لو جيت أقول لوحدة: يا جميلة يا حبيبتي ما بقولهاش "يا حلوة" بقولها "يا بِتّ، إيه الحلاوة دي". وده كلامكم. وده كلامي؟ صح ولا لأ؟ وهو ده اللي حصل، إني أنا جبتلهم كلام الشارع، مشيتلهم في أغنية، وما زينتش في الكلام، ولما تكلمت تكلمت بصراحة، يعني مثلا ما قولتش "قلبي ومشاعري وأحاسيسي"، لأ، ما بقولش كده! ما بقولش كده خالص، بتكلم بلسان اللي قدامي، فبيحسها".[10] وبسبب هذا، تحمل المهرجانات درجة عالية من الصدق، صدق خالٍ من الطبقات الشعرية المتكلفة للأغنية التقليدية، ما يضعها في منزلة قريبة من الجميع.

   

   

كما تتميز أغاني المهرجانات بموسيقى ذات إيقاعات خاطفة تدور في رأسك ما إن تستمع إليها ولا تهجرها بسهولة، ما ساهم أيضا في سهولة انتشارها، وهو ما ذهب إليه المؤلف والموزع الموسيقيّ "أحمد يونس" حين تحدثنا إليه في "ميدان" حيث قال: "من أهم الأسباب التي جعلت موسيقى المهرجانات تصل لكل الطبقات هو كونها تحتوي بالفعل على جماليات كثيرة، أهمها خامات الإيقاعات الخشنة والمميزة جدا التي يستخدمها موزعو المهرجانات وبينظموها على الإيقاعات الشرقية الدارجة في مصر مثل المقسوم مع زيادة التيمبو ومع فواصل إيقاعية متقنة للغاية.

  

تجعل كل تلك العناصر الناس تتمايل على إيقاعات المهرجانات وتتفاعل معها، هذا بالإضافة إلى استخدامها بعض الألحان الخاطفة والأصوات الجميلة، ما يظهر بالذات في "المهرجان السكندري". يفسر استخدام المهرجانات للغة المحكية وتوظيفها للإيقاعات الخاطفة انتشارها من الناحية الفنية، لكن يقف وراء هذا الانتشار أيضا جانب اجتماعي/سياسي مهم. فبخلاف أُطر المواقف اليومية المعتادة التي تلعب فيها موسيقى المهرجانات عادة، من رؤية فتاة جميلة ومغازلتها إلى الشكوى من غدر الصديق، تذهب المهرجانات إلى منطقة أخرى تعبر فيها عن نوع من الحنق على النظام الاجتماعي والسياسي، ما ساعد في أن تلقى صدى عند مستمعيها من المتضررين من تلك الأنظمة.

  

ذهب بن هابور، الصحفي في النيويورك تايمز، إلى هذا التفسير في مقاله عن المهرجانات المنشور عام 2013 حيث كتب: "يعكس الانتشار السريع لهذا النوع من الموسيقى، من أحياء القاهرة المهمشة إلى مسجلات السيارات وحفلات الزفاف الراقية وحتى الإعلانات التجارية المتلفزة، التحولات العميقة التي ضربت المجتمع المصري منذ الثورة. فيبحث عدد متزايد من الأشخاص عن نقاشات مفتوحة عن القضايا المجتمعية، وهو مستعد في هذا أن يعبر الحواجز الطبقية ليجدها. فمثل الثورة، جاءت تلك الموسيقى من شباب نظروا إلى حياتهم ولم يجدوا شيئا يتطلعون إليه، فصنعوا ضجيجا ونشروا أفكارهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتفاجئهم النتيجة".[11]

   

مغني المهرجانات الشهير السادات (مواقع التواصل)
مغني المهرجانات الشهير السادات (مواقع التواصل)

    

وهو ما ذهب إليه مغني المهرجانات الشهير السادات نفسه في حواره مع هابور: "ممكن أتكلم في المهرجان شعبي ورقص، وأكون داسس على الحالة اللي احنا فيها والحاجة اللي بنحسها. مش لازم السياسة تبقى عن المرشحين والكرسي والكلام ده. الحالة الاجتماعية دي مش سياسة؟ إني أوصف حالة الناس في الشارع دي سياسة؟"، وفي هذا بالطبع نجد سببا آخر يجعل الدولة تعادي المهرجانات بكل تلك الضراوة. [12]

  

لكن الانتشار الجارف الذي وجدته المهرجانات جعل الدولة والمؤسسات الرأسمالية وصناع الفن التجاري يذهبون مؤخرا في اتجاه آخر بعيد عن لغة الازدراء والمنع والحجب الذي طالما واجهوا به هذا النوع من الموسيقى. فبعد أن فرضت المهرجانات نفسها كضجة تبناها الجميع ولن تختفي في أي وقت قريب، بات الثلاثة يحاولون استيعابها وتطويعها لأغراضهم وذلك بالطبع بعد قص ريشها وتقليم أظافرها لتناسبهم.

     

  

فصرنا نسمع إيقاعات المهرجانات بشكل متزايد في الأغاني "الوطنية"، وتستخدم شركات الاتصالات الآن وشتى المؤسسات الرأسمالية مطربي المهرجانات في حملاتهم الإعلانية رغبة في استقطاب شريحة أوسع من المستهلكين ستروق لهم تلك الأنغام. والآن، يقوم فنان محسوب على التيار العام التجاري مثل محمد رمضان باستخدام موزعي وملحني المهرجانات مثل علاء فيفتي والباور العالي والمدفعجية ورامي المصري في صنع أغنياته.[13]

  

قد تجعلنا القراءة السطحية للموقف نرى في هذا انتصارا لتلك القوى على المهرجانات، لكن بالنظر لما حدث بشكل أعمق، سنرى أن كل تلك المؤسسات الضخمة لم تقدر على منع شباب الأحياء الذين طالما همّشتهم وتجاهلتهم من صنع صوتهم الخاص، لم تستطع أن تكتمهم بعد أن صار صوتهم يدوي في كل مكان، فما كان منها في النهاية سوى أن استعارت ذلك الصوت مرغمة في اعتراف ضمني بهزيمة طرب السلطة المنمق أمام صخب المهرجانات العالي. ستظل الدولة تجرّم وتحارب ذلك الصوت من الناحية الأخرى حفاظا على هيبتها، لكن تلك حرب لن تستمر إلى الأبد، ونتائجها معروفة للجميع سابقا.[14]

المصدر : الجزيرة