شعار قسم ميدان

الغربة في الأغنية العربية.. محاولات رسم الصورة الكاملة

midan اغاني الغربة
اضغط للاستماع

   

كانت ولا تزال "الأغنية هي أكثر الأشكال الفنية انتشارا وتأثيرًا"(1)، ولا يزال الغناء هو النشاط الإنساني الأكثر تماسّا مع الناس في كافة أوقاتهم الممتعة والعصيبة، فالناس تغني في أفراحها وأحزانها، كما أنها تغني أثناء قضاء أشغالها مواويلا تخفف عناء الكد وتدفع للتقدم وتخفف وطأة الشقاء، وربما يكون ذلك هو السبب أن فعل الغناء هو مغامرة في حد ذاته، فأن تحترف الغناء هو أشبه بأن تبيع المياه "ف حارة السقايين" ولذلك فالأغنية تراهن أكثر ما تراهن على صدقها، ومدى تعبيرها عن الناس ومعيشتهم، فإن كان صادقة كفاية في تعبيرها عن الناس ومتماسة مع مشاعرهم الحقيقية، حازت القبول وإلا راحت أدراج الرياح في أقرب هبوب لتيارات غنائية طارئة.

 

كان هناك نوع من الأغاني التي راهنت على تماسها مع الناس في لحظة حرجة من لحظاتهم وهي لحظة الغربة والبعد عن الديار، أغان لم تكتفِ بالحديث العابر والسطحي عن أعراض الغربة مثل الشوق والوجد والولع، وإنما حاولت بشكل ما، تقديم جزء من الصورة الكاملة للغربة وتطرقت لأبعاد منسية عن الخلفيات الاقتصادية وربما السياسية كأسباب للغربة، كما تناولت أبعادا اجتماعية تتجاوز فكرة الشوق المشتعل بين الحبيب والحبيبة، لتتناول البعد الاجتماعي بين صديقين أو أب وابن أو زوج وزوجة تشاركا هموم الحياة، أو بين المغترب والمجتمع بشكل عام، إننا هنا بصدد أغان تشعبت بأطرافها كي تشمل المنسي والمهمش في البشر وعلاقاتهم لتتحول إلى أغان تجاوزية تتجاوز الزمان والمكان وتستطيع الصمود لتتناقلها الأجيال وتتغنى بها الأصوات المختلفة بل وعلى ألسنة الناس أنفسهم في كثير من الأحيان.

undefined

في البدء كان درويش

يعد سيد درويش أبا الموسيقى الشرقية فهو الذي انتقل بالغناء من التطريب وإبراز مساحات المغني الصوتية، إلى التعبير عن معاني الكلمات والمضمون(2). لم يطلق عليه فنان الشعب عبثا، لكنّ الشيخ سيد درويش لم يكن يغني فقط للشعب، بقدر ما كان يغني منهم وبينهم، كان يلتقط أغانيه وثيماته وجمله الموسيقية من أفواههم ومن إيقاع معيشتهم، فيحوّل أغنية شعبية على ألسنة ممارسات الدعارة المقننة إلى أغنية خالدة.

 

ربما لا يعلم الكثيرون أن "سالمة يا سلامة" كانت في الأصل أغنية قصيرة تغنيها فتيات الدعارة بشكل جماعي على عربات الكارو عقب خروجهن سالمات من الكشف الطبي حاصلات على رخصة استمرار مزاولة المهنة (3)، فيلتقطها سيد درويش كي يعبر بها عن فريق آخر من الكادحين والصنايعية المعتمدين على "العين والعافية" لكنه يبعث برسالة أمل وتفاؤل، رسالة العودة والسلامة فيقول للصنايعي المسافر الذي أينما راح أثبت أنه "ذو تُفنن" دعك من الغربة وطول البعاد "دي المركب اللي بتجيب أحسن من اللي بتودّي"، كما تتضح الخلفية السياسية للأغنية التي دفعت هؤلاء الصنايعية للسفر ربما للحرب، حيث يشاع عن الأغنية أنها كانت للعائدين من الحرب العالمية الأولى "شفنا الحرب وشفنا الضرب وشفنا الديناميت بعنينا". لحنها سيد درويش من كلمات بديع خيري لرواية "قولوله" 1919 (لحن عودة عمال السلطة)(4)


سلسال الغربة

أما حمزة نمرة -والذي قدّم ريمكس لأغنية جدّه درويش- فيلعب على تنويعات ثيمة التغريبة ليكوّن منها سلسلة كاملة امتدت حتى الآن لثلاثة أجزاء، و "ربك هو العالم" إلى أي جزء تمتد تغريبة نمرة، لكن الجزء الثاني منها كان أروعها وأكثرها تماسّا مع الغريب الذي يلعن طموحه الذي كان "آخره" أن "شاف له كفيل".

يلعب الشاعر محمد السيد بوضوح على فكرة الغربة الجبرية المُرة المدموغة بطعم البعاد الصبّار والشكل الباهت لليل، والتي دفع إليها دفعا، ذلك الوضع الاقتصادي المزري الذي كفّر الجوع "ما أنا جوعي كان كفران"  كما يقول الشاعر المصري أيمن ثابت يقول "وأنتَ أنتَ أيا مسافر، إن يسألوك فقل لهم الجوع كافر" لكنّ محمد السيد أبدا لا يقلق لأن "تذكرته رايح جاي".

 

الجبر والتردّي الاقتصادي ومُر الغربة لا يقتلون الطمأنينة لأن الأمل ما زال موجودا لكن أمل نفسه – أمل دنقل- كان له رأي آخر حين قال "الناس سواسية في الذل كأسنان المشط، ينكسرون كأسنان المشط، في لحية شيخ النفط" (5) ومات دنقل كما نتصور على عقيدته في أوج اغتراب المصريين ميمّمين وجوههم نحو شيوخ النفط، ليأتي حفيده ويتساءل مستنكرا "لمـّوا الأماني أزاي، حطوها ع الباسبور؟" لكنه أبدا لا يقلق لأن "تذكرته رايح جاي".. لحنها وغناها حمزة نمرة من كلمات محمد السيد.

 

أنغام طرحت سؤالها الاستنكاري في خضم الزحف "لسه ناوي ع الرحيل؟" وتردف "تفتكر مالوش بديل" وتستكمل أسئلتها التي لن تنتهي حيث الغربة اللامنتهية، الحبل المستطرد والكأس الدائر. موسم هجرة متنامي، كان لابد من التوقف أمامه بالسؤال ولو كان "سؤال مهزوم بيترجى الجواب".. "شنطة سفر" أغنية استمرت وعاشت في أرواح كل من عايش هذه التجربة المريرة التي كانت ظاهرة في كل بيت مصري في الثمانينات بسفر أحد أفراد الأسرة.

 

الخلفية الاجتماعية الواضحة تدعمها أيضا صورة فيديو كليب الأغنية من إخراج مخرج الواقعية الرائع عاطف الطيب، والذي يصوّر لحظات إنهاء الإجراءات والتجهيز للسفر لينتهي بلحظة الوداع في المطار، فيتجدد الأمل من جديد، ويتخلى المهاجر عن فكرة السفر، ولو اكتمل قرار السفر فدائما سيبقى "هنا" حتى ولو طال البعاد. لحنها الموسيقار محمد علي سليمان من كلمات فاطمة جعفر، ألبوم إلا أنا 199.


"خدت حسّك من بيوتنا"

"العديد هر حزن بلا مصب.. يجرى منذ آلاف السنين.. ولن يجف أبدا"(6). مثلما هي الغربة وجع بلا مصب، يجري وسيجري ولن يجف أبدا لذا استلهم "الصعيدي" الرائع وجيه عزيز -صاحب الأسلوب الفريد- من روح العدّودة المصرية أيقونة الوجع في الصعيد ليقدم لنا رائعته "لو تروح" مفتتحا بصوت جيهان مغاوري دون موسيقى، وكأنه يصفّي الوجع حتى آخر لحظة عبر الآداء "العديدي" فقط، طارحا الأسئلة الموجعة "لو تروح وتقول مسافر.. مين يسأل علينا مين؟" ثمّ وبداية من جملة موسيقية أشبه بلحظة قيام قطار السفر، يطرح الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية لتلك الغربة فيبين أنّ "طوقين الغوايش" لن يربتا قلبا، ولا الحرير الــ "بايش" من الدموع في لحظات الغياب، إنه الفقر ومحاولة اغتياله ولكن عبر باب له أنيابه التي تهتك العمر فلا ندري "عمرنا مات ولا عايش".

كما أنّ وجيه عبر وجود صوت ذكري يشارك في الأغنية (صوت وجيه نفسه) بإعادة نفس كلمات الأنثى يشير إلى أن وجع البعاد لم يشمل الحبيبة أو الزوجة فقط، لكن هناك ربما صديقا أو أخا يتألم ويبكي مثلما بكت الحبيبة تماما، إنه بعد اجتماعي آخر يغطي جزءً من الصورة الكاملة. ثم يشترك الصوتان الذكري والأنثوي بعد "خدت حسّك من بيوتنا، مين يقول انك تفوتنا، قلنا لما انبح صوتنا" ويتساءلا سويا "مين يسأل علينا مين؟".. لحنها وجيه عزيز من كلمات علي سلامة – غناء وجيه عزيز وجيهان مغاوري 2004.

الجزائري البديع دحمان الحراشي والمتوفي عام 1980 في رائعته التي كتبها ولحنها وأدّاها "يا الرايح وين مسافر" يسأل صديقه والذي كتب له الأغنية خصيصا، مستنكرا، يبدو أن ثيمة السؤال كانت هي الأقرب في التنبيه لدى عدد من الشعراء لإيقاظ الغافل حيث يصفهم الشاعر نفسه بذلك ويقول أنهم "ندموا قبلك وقبلي" ولكنها تحصر سبب الهجرة في الفقر وعدم دوام خير الصبا فلولا الفقر ما فارقوا ولا هجروا حتى أنهم "خاب سعدهم" لكن الأمل دائما يبقى موجودا حتى ولو اشتد الحال الآن فالشدة لن تدوم ثم يختمها بالنصيحة "شوف ما يصلح بيك قبل ما تبيع وما تشري" وإن كانت لن تجدي فالقدر سيجري بما كتبه "سبحانه العالي".

 

أغنية قد تتسلل بكل بساطة إليك وتدمنها، وقد لا تملّ أبدا من تكرارها خاصة مع صوت الحراشي، الدافئ والذي كأنه يمسح على روحك. أغنية عابرة للأجيال ومازال الجزائريون يتغنون بها للآن حتى أنها كانت بوابة الشهرة للشاب طه المغني الجزائري ذائع الصيت المتوفي قبل أشهر قليلة، وغناها اللبناني علاء زلزلي، والعديد من المغنين الأمريكيين والبرازيليين. (7)

 

وَجد صوفي

"ناس الغيوان كانوا في المقدمة ولا زالوا لأن الشعب المغربي رأى نفسه في أغانيهم وصارت أعمال ناس الغيوان مرآة له ولبيئته وللمشاكل التي يقابلها يوميا" (8)

ناس الغيوان هي فرقة لسان الفقراء، كانت منهم وعانت معاناتهم وخرجت من بينهم حتى وصلوا بأغنياتهم لحالة من الصوفية الرائقة التي تجعلهم يعزفون آلام البسطاء بطريقتهم الصوفية البديعة فيطرحون الأسئلة التي تدور في نفس الفلك "فين غادي بيا خويا؟"

انطلاقها من الأصالة والتراث المغربي الأصيل وصل بها للعالمية، وعبر حالة صوفية رائقة، تتكئ على الرمز العابر للأزمنة والقادر على حمل وتكثيف كافة المعاني المطالَب بحملها، يغني ناس الغيوان أغنيتهم ويلقون باللوم على السلطة والقمع في حبس تلك الطيور الجموحة التواقة للرفرفة، "يامن هو باز في القفاز" ثم بعبارات مباشرة "لا تلومونا في الغربة" الوليعة والتي لم ننسى فيها أبدا بلادنا "ما هْمْنِي وْلاَ رَشَّانـِي غير فراق الصحبة"، "أنا ما نسيت البنديـــر أنا ما نسيت القصبــة أنا ما نسيت الموسـم والخيل سربة سربــة أنا ما نسيت البوب ولا مجمع الطلبـــــــة أنا ما نسيت دواري يــا بــلاد القصبــــــة أنا ما نسيت لعشيـرة ولا گمـــــح الرحبـــة أنا ما نسيت حياتـــي يــــا نـــاس المحبـــة أنا ما نسيت ناســــي خَايْتْ هَدِي نَكْبَــــــــة" إنها نكبة الغربة والتي اضطرنا لها قمع أجسادنا التي تمنعنا من التحليق ولكننا سنحلق بأرواحنا، لذلك يستخدمون أسلوبهم الصوفي الروحاني لنقل تلك الحالة. غناء فرقة ناس الغيوان من كلمات العربي باطما 1973. (9)


شطارة وهران

ربما يظن الكثيرون أنّ "وهران وهران" هي أغنية أصيلة للشاب خالد، لكنها في الأساس أغنية الفنان أحمد وهبي والذي ينافس الفنان بلاوي الهواري على لقب عميد الأغنية الوهرانية (10). يعد وهبي صاحب مدرسة اعتمدت على إحياء التراث الوهراني ونقله للمشرق العربي، كما كانت الأغنية بداية انطلاقته وتسجيلاته، سجّل فيها لتجربة أبيه في الغربة، مصوّرا الزحف نحو الغربة وهجرة "الناس الشطارة". الصنايعية وعماد البلد من جديد يهاجرون، لذلك وجب التنبيه، يتباكى فيها على "دوح شبابه" وهران، أرضه وأرض أجداده، والإصرار على العودة للأهل والأحباب في حالة تداعي للأماكن والسياقات الاجتماعية المفتقدة بالغربة.

أغنية كانت محط اهتمام العديد من الفنانين غير الشاب خالد مثل الفنانة أسماء المنور في آداء أشبه بـ "العديد" الوهراني والفنانة رنا خوري.


"سلّم لي ع الزغاليل"

يقول عمار الشريعي أنّ صلاح جاهين وصديقه سيد مكاوي "ساندين على كتف التراث" في أغنية "يا حمام الغية" (11).. فمنذ الــ "آه بعد آه" مرورا بـ "بلاد الله" المستلهمة من مثل بلاد الله لخلق الله، والاعتماد على الجملة الموسيقية الشعبية للكورال خلف رشدي في "حبيبي" والمستمدة من فلكلور "هيلا هيلا"، ثم تكملة ذلك بآداء رشدي الشعبي البديع.

"أمانة تقولها إني بصرّ المهر شهر بشهر ويا الشبكة في المنديل" إنها الغربة الجبرية التي فرضها واقع اقتصادي منع حبيبا أن يوفر مَهر وشبكة حبيبته، ولكنّ الذي يبعث السلام عبر حمام الغية لحبيبته يوسع دائرة السلام لكل "الزغاليل" معبرا عن حالة اجتماعية أكثر اتساعا ورحابة.

اللجوء للأسلوب المواويلي المتباكي في لحظة التباكي على البعد والغربة، ثم تدريجيا يتسارع الإيقاع ليتشبع خطوة بخطوة بالأمل وقت رحيل حمام الغية ليلقي بالسلام على الزغاليل، يتناقل مكاوي بين الأسلوبين حيث يتجاوران دائما وأبدا في الغربة والحياة عامة والأغنية أيضا.

عبر لحن وكلمات مشبعة بالشعبية اللطيفة، تأتي "سلامات" نادية مصطفى لحبيبها "البلديات"، والذي سافر وسط زحف الجموع منتصف الثمانينات، لكنه دون غيره هو "اللي وحشها بالذات".. البعد الاجتماعي للهجرة الجماعية لم تكن هي الإشارة الوحيدة في السلامات، إنما بعدا اقتصاديا يبدو صارخا بمقارنة إغراءات المال مع الضنى الذي يخلّفه بل ويتجرّعه المغترب في "ده ان لقيت في الغربة المال فين حتلاقي راحة البال"، "هجرة إيه دي اللي تخليك، تضني ناس بيدوبوا فيك".

أغنية غارقة في اللطافة وخفة الإيقاع وكأنها وصية حانية لحبيبها "نور العين" وربتة يد خفيفة على كتف "ابن بلدها" المهاجر أكسبتها شعبية طاغية وقبول جماهيري واسع كان بوابة الشهرة لنادية مصطفى (12) لحَّنها طه العجيل وغنّتها نادية مصطفى 1985.


ختام عزيز

"يا عزيز عيني وانا بدّي أروّح بلدي .. بلدي بلدي والسلطة خدت ولدي" في تعبير صريح ومباشر عن قمع السلطة الجبرية التي سرقت الشباب نحو التجنيد الجبري، لا يقف درويش عاجزا أمام أية سلطة حتى لو تغنّت بأن ذلك واجبا وطنيا، كي يلتقط الكثير من بعده الثيمة نفسها وينسجون على منوالها مثل شادية ونغم صالح ومحمد منير ومريم صالح.. إلخ. لحنها سيد درويش وغناها من كلمات الشيخ يونس القاضي.

استلهام التراث والاتكاء على الموروث الشعبي لأنهما الأقرب إلى الناس في التعبير عن حالة شديدة الخصوصية كالغربة، وأغنيات تعبر في غالبيتها عن حالة عتاب واستنكار جماعية لفكرة الهجرة لكنها أبدا لا تخلو من حالة دفاع مضادة عبر تأكيد فكرة الجبر والاضطرار لهذه الغربة المقيتة، وما بين مرارة الفقر أو القمع، الذي دفع نحو مرارة أقسى كالغربة والبُعد، يظل الإنسان متشبثا دائما بالأمل في العودة للديار ولعالمه الذي فقده مضطرا، ويظل يدندن مع درويش، "وانا بدّي أروّح بلدي".