شعار قسم ميدان

"جلسات الطرب".. رحلة شيقة بأروقة الغناء العربي الأصيل

ميدان - أم كلثوم

بدأ تسجيل المطربين لأغانيهم بداية من القرن العشرين، وشكل نجوم الصف الثاني الشريحة التي بدأت بالتسجيل، ثم تبعهم نجوم الصف الأول، وقد شكل التسجيل عاملا مهما لحفظ صوت هذه الفترة في تاريخ الغناء المصري، وهي فترة عصر النهضة، أو كما يطلق عليها أيضا عصر الموسيقى الفصحى.

 

لا نملك أي تسجيل للغناء الحي في تلك الفترة المهمة، حيث كان المطرب في تلك الفترة هو البطل الرئيس للعمل، قادرا على الارتجال بكل أشكاله، إن كان ارتجالا محددا كما هو في الأدوار، كجزء "الآهات والهنك والرنك"، أو ارتجالا كإضافة على اللحن، لكن بالنظر إلى تسجيلات تلك الفترة، نرى جزءا كبيرا من الارتجال المخطط له، من قبل المطرب والتخت، رغم تحجيم المطرب بوقت محدد، هو وقت الأسطوانة، وتقسيم الأغنية الواحدة على وجهين للأسطوانة.

 

الغناء كلما كان حرا طليقا، كلما كان أكثر جمالا وارتجالا، والارتجال الصحيح من جماليات الغناء، لذلك فإنه لا يقوم جميع المطربين بالارتجال، إذ يجب أن يكون صاحب قدرة وعلم وموهبة، لذلك نسمع في أغلب التسجيلات الأولى للغناء في مصر، كلمات تتردد في أوقات مختلفة من التسجيل، كالنداء للمطرب، أو الثناء على صوته، كنوع من أنواع تعويض الجمهور. فالمطرب يُطرِب الجمهور، ويُطرَب هو بثنائهم وتفاعلهم، مثل طلب الإعادة أو الرد بالآهات أو ما شابه ذلك تأكيدا على نجاح المطرب في إيصال أحاسيسه بالكلام واللحن إلى المستمع، بينما أصبح المطرب في عصر التسجيل يغني وحيدا هو وفرقته أمام مهندسي الصوت والعمال، الذين ينصب كل تركيزهم في عملهم، بعكس الجمهور، الذي يصب كل تركيزه مع المطرب بأدائه وصوته وتفاعله مع الغناء.

 

الست وعبد الوهاب وحليم
لا يوجد تسجيل لأم كلثوم في جلسات خاصة، أو نوادر غنائية خارج إطار ما تغنيه، باستثناء تسجيل أغنية حب إيه من جلسة خاصة يرافقها عازف الكمان أنور منسي، وبحضور العديد من الفنانين في ذلك الوقت مثل محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، والملحن كمال الطويل.

 

قلة تسجيلات أم كلثوم الخاصة، كان ذكاءً منها، فهي بالطبع تعلم أهمية الغناء الحر والارتجال، لذلك فإنها قدمت كل حفلاتها بهذا الأسلوب المتمثل في شكل الغناء الحر والارتجالي كما كان سابقا في عصر عبده الحامولي ومحمد عثمان، لذلك تعد أم كلثوم هي المطربة الوحيدة في تلك الفترة أو ربما في تاريخ الغناء العربي، التي يختار الناس فيها حفلة محددة بتاريخ محدد لسماع أغنية، فتجد مثلا أغنية "يا ظالمني" هي أكثر الأغاني التي غنتها أم كلثوم في مسيرتها، وتجد حفلة الأزبكية أبريل 1955، أو فات المعاد من حفلة المغرب، أو غلبت أصالح في روحي حفلة نادى هليوليدو عام 1954، وغيرها الكثير والكثير من الأغاني التي نجد اختلافا كبيرا بين أدائها في حفلة عن أخرى.

    

    

لذلك فإن الناس يختارون حفلات معينة لسماعها، وأصبحت أم كلثوم هي أكثر مطرب يمتلك تسجيلات حرة مثل جلسات السمر، ترتجل وتعيد وتزيد بكامل حريتها، ويتفاعل معها الجمهور كما كان سابقا قبل ظهور الأسطوانات.

 

 ذكاء وقوة وثقة من أم كلثوم، ومتعة خالدة للمستمعين حتى وقتنا هذا. كان الموقف مختلفا مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والذي قرر اعتزال الغناء في الحفلات العامة في نهاية الثلاثينات، ثم توقف عن الغناء مع بداية الستينات، لكنه ترك صوته يتحرك بكل حرية في الجلسات والبروفات، فعبد الوهاب يمتلك أكبر رصيد تسجيلات خاصة بين مطربي وملحني وقته.

 

يغني عبد الوهاب في جلسات خاصة على عوده، يترك صوته يختلط مع العود فقط، وأحيانا يشاركه عازف الكمان أنور منسي كأغنية "مضناك"، فالغناء في الجلسات يظهر حلاوة الصوت وحلاوة اللحن، ويجعل المطرب أكثر راحة، إذ لا يحمل عبء التفكير بتسجيل ونشر الجلسة، فتتحرك الأحبال الصوتية بكل حرية وأمان وإبداع.

 

أيضا كان عبد الوهاب يغني أغلب ألحانه للمطربين، في جلسة خاصة أو في تسجيلات البروفات، ربما كان أغلب هذه التسجيلات أكثر جمالا من التسجيلات الأصلية. ويرجع ذلك لتمكن عبد الوهاب من أداء ألحانه بالطبع أكثر من المطرب، وثانيا لأنها تكون ضمن النوادر فذلك يعطيها سحرا خاصا، وأخيرا لأنها تكون في الأغلب على العود فقط، وذلك يجعلك تتذوق اللحن بعمق. من غنائه للأغاني التي لحنها لأم كلثوم، إلى تسجيل تحفيظ وردة أغنية "لولا الملامة"، وتسجيلات بروفات ألحانه لعبد الحليم حافظ، ونهاية بجلسة توزيع لحن أغنية "كرم الهوى" لصباح، بصحبة عازف الكمان عبود عبد العال.

   

   

ميزة هذه التسجيلات والنوادر، أنها تجعلك أقرب من المطرب، ترى مهاراته الموسيقية، في الغناء أو العزف، فتقترب أكثر من اللحن، ومنه أيضا، ويمكنك من خلالها أن ترى شخصيته بعيدا عن رسميات الأستديو أو الحفلات، رغم أن الحفلات تعد أقل رسميةً من الأستديو، وأكثر جمالا وإبداعا، كما نسمع عبد الوهاب يغني "كل ده كان ليه" في أواخر حفلاته عام 1954.

    

   

ومن النوادر الجميلة والجلسات المبهجة، هي جلسة سهرة في منزل الصحفي محمد التابعي عام 1949 بحضور الموسيقار محمد عبد الوهاب وزوجته إقبال نصار وليلى مراد وزوجها أنور وجدي وتحية كاريوكا ونجيب حنكش، ونسمع فيها غناءً وضحكا، فلنتعرف على ليلى مراد خارج الإطار الجاد، فهنا تغني وتلقي النكات وتحاكي أم كلثوم، ونسمع عبد الوهاب يضحك ويغني أيضا.

   

   

كان عبد الحليم الأقل غناءً في الجلسات، ربما لأنه يفتقد الجزء الأهم لهذا الشكل من الغناء، وهو الارتجال، والانفراد بصوته خارج الإطار المرسوم من الملحن، إذ نجد تسجيلات قليلة له، لا تختلف كثيرا عن تسجيلات الأستديو، وأن صوته دون موسيقى يصبح أقل جمالا، لذلك فإننا نجده يغني لأغنية أم كلثوم "دارت الأيام" بمصاحبة فرقة كاملة في حفل خاص.

   

   

فحول الأصوات
كانت مصر تملك أحلى الأصوات التي جاءت في تاريخ الغناء المصري خاصة والعربي عامة، في الفترة من الثلاثينيات إلى نهاية الخمسينات، وكانت التسجيلات في الأستديو للإذاعة أو الأسطوانات، تتم عن طريق تسجيل كامل للأغنية بالفرقة والمطرب، وأي خطأ يستدعي أن يعاد التسجيل من البداية.

 

كان ذلك يحافظ على جزء كبير من روح الأغنية وجمالها، وإتقانها، رغم ذلك فقد كان لمطربي تلك الفترة القدرة على الغناء في الجلسات والارتجال وإدخال المواويل، محمد عبد المطلب صاحب المساحة الأكبر من الجلسات والغناء بكل أريحية وإدخال المواويل في مقدمة ومنتصف الأغنية، حسب ما يأتي على هواه.

 

عندما تسمع أغنية "السبت فات"، لمحمد عبد المطلب، فهي أغنية لا تتعدى الست دقائق، وفي حفلة كانت تصل إلى 12 دقيقة، بينما في جلسة في المغرب، يصل وقت الأغنية إلى 20 دقيقة، بما فيها من تقاسيم عود وقانون، ثم يبدأ طلب بغناء الليالي والموال قبل الأغنية، هذه المساحة من الارتجال والغناء بكل أريحية هي المتعة الحقيقية للغناء والطرب والجمهور أيضا.

   

   

يتمتع طلب بقدرة عظيمة في التحكم بصوته وقوته، هو المذهبجي في فرقة محمد عبد الوهاب في بداياته، حيث يمكنك أن تجد للأغنية الواحدة عدة تسجيلات مختلفة في طولها، فمرة يغني الأغنية في 10 دقائق، ومرة أخرى تجد نفس الأغنية في وقت مضاعف أو أكثر، ومرة يكون الموال في البداية ومرة في منتصف الأغنية، ومن أشهر الأغاني التي فعل معها ذلك، كانت أغنية "بصعب على روحي"، والتي غناها في حفلات بمصر وخارجها، وفي جلسات خاصة، منهم هذا التسجيل الذي تم أخذه من جلسة خاصة، يتسلطن فيه طلب بكل جمال وخفة.

   

   

ومن طلب إلى كارم محمود، كارم أحد الأصوات المهمة جدا في تاريخ الأغنية المصرية، صوت متمكن جدا، وفي الجلسات والحفلات الخاصة، ترى تمكنه وقوة صوته وسيطرته الفعلية على حنجرته، وكلما كان المطرب متمكنا من صوته وواثقا في نفسه، فإنه لا يخاف من الغناء في الجلسات وأمام الناس، بصحبة عوده فقط.

 

فنسمع كارم وهو يغني يا عنابي على عوده، أو "أمانة يا ليل" والتي يبدع فيها بكل سلاسة وجمال، أغمض عينك واترك نفسك مع العود وصوت كارم الساحر،  أو يمكنك سماع "سمرا يا سمرا" على العود أيضا، أو أن تذهب معه بعيدا وتعود إلى الزمن السابق، وتستمع معه لأغاني من الجيل السابق له، كأدوار الشيخ سيد درويش، مثل دور "ياللي قوامك يعجبني"، أو غنائه للدور المشهور "الحلو لما انعطف"، في التسجيلات الخاصة، يصبح من السهل الاشتباك مع الأغاني القديمة، أو حتى مع أغاني لمطربين آخرين معاصرين، وأيضا في الحفلات فلنسمع أغنية "زروني كل سنة مرة"، ونسبح في هذا التناغم العظيم بين الفرقة وكارم والكورس، وكيف يرد الكورس النسائي فقط في أوقات.

   

   

يمكننا أن نسمع تسجيلا نادرا لعبد العزيز محمود وهو يغني أغنية "يا وابور الساعة 12"(1) على العود بصحبة كورس من القوات البرية في الإذاعة. يا وابور الساعة 12

    

الملحن مالك الأغنية والمشاعر
الملحن هو صاحب الأغنية، هو صاحب اللحن، والمشاعر الساكنة فيه، لذلك عندما تسمع تسجيل الملحن للأغنية، إذ ترى هنا كمّا من المشاعر التي تفوق مشاعر المطرب المؤدي لها، حتى وإن كان الملحن ليس بمطرب إنما مؤدٍ جيدٍ فقط.

 

يقف على رأس الملحنين، محمد القصبجي، والذ يعد واحدا من أعمدة الموسيقى في الوطن العربي، تسجيلات قليلة متاحة بصوت القصبجي، الأشهر منها كان غناء الأغنية الأهم في مسيرته مع الست، "رق الحبيب"، وغنائه "مدام تحب بتنكر ليه"، لكن من التسجيلات المهمة للقصبجي، أغنية نادرة لم يغنها أحد غيره، ولم يحاول أحد إعادة غنائها بشكل يدعو للريبة، كيف لحن بهذا الجمال لم يلتفت له أحد، ويعيد تقديمه، الأغنية هي "يا شاغلني في بعدك"، يغنيها القصبجي على العود بكل جمال وإبداع.

   

   

ومن قصب إلى زميله الشيخ زكريا، إذ كان زكريا يحب الغناء، كما يحب التلحين، يهوى جلسات السمر والغناء فيها، وكان حكّاءً عظيما ومبهرا، ويحكي نجيب محفوظ(2) عن الشيخ زكريا أحمد قائلا: "وكثيرا ما كنا نفاجأ به وهو يسرد الحكاية مندمجا منفعلا وفي منتهى التركيز، فإذا به يترك حكايته بدون مقدمات ويمسك عوده ويغني"، لذلك تجد تسجيلات كثيرة للشيخ زكريا أحمد وهو يغني على العود، بمفرده تارة، وبصحبة آخرين تارة أخرى، مثل غنائه مع تلميذته ليلى مراد، أو مع زميله الشيخ محمد النادي.

    

   

بلبل المنصورة، هكذا كان اسمه في فترة صباه، وبسبب مرض أثر على أحباله الصوتية وأضعفها، قرر أن يتجه إلى التلحين، لا نعرف هل خسرت الموسيقى العربية مطربا، أم كانت ستخسر ملحنا لو كان قد استمر في الغناء، إنه الملحن الأهم في مسيرة أم كلثوم، إنه رياض السنباطي، غنى السنباطي الكثير من الأغاني القديمة، وأغانيه الملحنة لأم كلثوم وغير أم كلثوم.

 

فنسمع مثلا هو يغني رائعة سيد درويش "أنا هويت"، أو دور "ضيعت مستقبل حياتي"، أو الرجوع أكثر إلى عبده الحامولي وغناء دور "شربت الصبر"، بجانب العديد من القصائد التي لحنها لنفسه أو للآخرين، مثل أغنية "آه لو تدري بحالي"، وبالطبع لا ننسى غناء الألحان التي قدمها للست أم كلثوم، مثل الأطلال وعودت عيني، والتي يبدع فيها بشكل ساحر وممتع يجعلك تحت تأثيره طوال فترة غنائه.

    

   

والموجي أيضا قدم أغانٍ كثيرة من تلحينه على العود بمصاحبة الفرقة في برامج تلفزيونية، أو بروفات مع عبد الحليم، وغنى بليغ حمدي أغانيه في جلسات وبرامج كثيرة،  بليغ كانت بداياته مطربا قبل أن يتجه إلى التلحين، وكانت الإضافة الدائمة من الملحن أن تسمع اللحن من مخترعه، من صاحب المشاعر نفسه لا من رسول "المطرب"، أيا كانت جودة صوت المطرب، أو تواضع صوت الملحن.

   

   

يمكننا أيضا سماع التسجيل النادر للمطرب والملحن المبهج محمد فوزي وهو يغني "خايف أقول اللي في قلبي"، أو نستمع إلى منير مراد وهو يغني استعراض "قاضي البلاج"، أو وهو يقلد المطربين وطريقة تلحينهم لأغنية "أنا والعذاب وهواك"، كلها نوادر وجلسات، بعيدة عن الأستديو والرسميات، بها جزء كبير من البهجة والمرح.

     

منحة الجلسات والأصوات الجميلة
أيضا منحتنا جلسات السمر لسماع أغاني كان لا يمكن سماعها، مثل غناء الشيخ النقشبندي لرباعيات الخيام في جلسة في سوريا، أو غناء الشيخ محمد عمران للعديد من الأغاني في جلسات، منهم التسجيل الأشهر الذي كان يحضر فيه محمد عبد الوهاب، وقول محمد عمران "إنه يوم بألف يوم" تقديرا لحضور موسيقار الأجيال، أو غنائه لجملة "بقى يقولي وأنا أقوله، وخلصنا الكلام كله" من أغنية أم كلثوم حلم، ومبارزة غنائية بينه وبين الشيخ ممدوح عبد الجليل، وغيرها من النوادر وجلسات السمر والغناء.

   

   

بدايةً من السبعينات، وهو العقد الذي بدأ فيه غياب الشكل الطربي، أصبح الغناء الخفيف هو السائد، إلا قليل القليل، خاصة مع تطور التسجيل وإمكانية الآلات الموسيقية أن تسجل بشكل منفرد، والمطرب بشكل منفرد، وبعدها تطورت أجهزة تحسين الصوت، حتى في الغناء الحي، لذلك فإنه لا يمكن التمييز بدقة بين الصوت الجيد والسيء أو حتى غير المميز إلا في الجلسات والبرامج التلفزيونية، أي أن يغني المطرب وحده بلا أجهزة أو إعادة، وأن يغني أغانٍ قديمة طربية، توضح قوة صوته وتمكنه من الغناء الصحيح، فنجد جورج وسوف وعلي الحجار وعبادي الجوهر، قاموا بغناء الأغاني القديمة بتمكن وجمال، في لحظات طربية جميلة.

   

   

ونجد مساحة كبيرة في حفلات الموسيقى العربية، يغني فيها العديد من المطربين بعيدا عن الغناء التجاري، مثل أنغام ومدحت صالح وعلي الحجار، وصابر الرباعي، ونجد مطربين يحبون الغناء في الجلسات والحفلات، وعلى رأسهم محمد منير، منير في الجلسات والغناء الحي أفضل بكثير من الأستديو، يندمج مع الجمهور والصحبة ويترك صوته يتحرك بكل خفة وجمال مع الإيقاع النوبي.

    

     

في النهاية لن نستطيع حصر كل النوادر والجلسات الخاصة، أو الحديث عن كل المطربين والمطربات، لكنها كانت رحلة لتأكيد فكرة الغناء الأصلية، وهي الصحبة الجميلة، والغناء بكل أريحية وارتجال متقن، وأن الغناء في الأستديو وتسجيلات الشرائط، مهما بلغت حرفتها ودقتها، لا تستطيع تعويض الجزء الأهم من متعة الغناء وسماعه، وهو جزء الجمهور والارتجال.

المصدر : الجزيرة