شعار قسم ميدان

ابن الإنسان.. لماذا أثارت تفاحة غامضة إحباط المشاهدين؟

هي واحدة من اللوحات الأكثر غموضا في تاريخ الفن رغم بساطة محتواها، والرسّام نفسه، وهو رينيه ماغريت، كان يعتبر نفسه مُفكِّرا لا رسّاما، كما جمعته بالفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو صداقة قوية، وكتب الأخير كتابا كاملا بعنوان "الكلمات والأشياء" لفكّ وشرح الأفكار التي يوظفها ماغريت وغيره من الرسّامين في لوحاتهم. فمَن هو رينيه ماغريت؟ وما قصة لوحته المُحبطة والمثيرة للجدل في آنٍ واحد؟(1)

 

كان رينيه فرانسوا غِزلان ماغريت (1898-1967) رسّاما سرياليا بلجيكيا، اشتهر برسم لوحات بسيطة من حيث عدد العناصر الموجود في كل لوحة؛ فتارة يرسم تفاحة ورجلا، وتارة يرسم طائرا في السماء، لكن لوحاته البسيطة تلك كانت الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفنون التشكيلية.(2)

 

والسبب هو موقع تلك العناصر في اللوحة، فالتفاحة تغطي وجه الرجل فلا يكاد يظهر منه غير جزء بسيط، فيما يطير العصفور في السماء لكن ليس بجناحين من الريش، بل من السحاب. فالهدف من اللوحات لم يكن رسم تفاحة أو طائر من الأساس، بل زعزعة أبسط المفاهيم والتصورات عما هو واقع أو حقيقي أو حتى متفق عليه.(3)

René Magritte
رينيه ماغريت مع إحدى لوحاته الغامضة

"كل شيء نراه يكتنفه شيء غامض لا نراه، ونحن بدورنا نريد معرفة ذاك الذي لا نستطيع رؤيته".

(رينيه ماغريت)(4)

رسم ماغريت لوحة "ابن الإنسان" عام 1946، وتُعَدُّ اللوحة اليوم واحدة من أكثر لوحات السريالية شهرة وغموضا، فاللوحة الغامضة من حيث المحتوى أُطلق عليها اسم أكثر غموضا. ما الذي يستطيع المشاهد فهمه من إنسان يرتدي معطفا وقبعة مستديرة يقف أمام جدار منخفض خلفه البحر والسماء الملبدة بالغيوم وتحجب معظم وجهه تفاحة؟ وما علاقة هذا الإنسان بابن الإنسان؟ ومَن هو ابن الإنسان أولا؟

 

"ابن الإنسان" هو لقب أطلقه يسوع على نفسه، وورد ذكره في الأناجيل نحو 83 مرة، واستخدمت العبارة نفسها في سِفْرَيْ أشعياء والمزامير للدلالة على فقر الإنسان وضعفه أمام نفسه، وقد استخدمها المسيح في عدة مواضع مُشيرا إلى طبيعته البشرية بوصفه إنسانا ضعيفا.

"يا رَبُّ أَيُّ شَيْء هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَعْرِفَهُ أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَكِرَ بِهِ؟" (مز144: 3).

 

عنوان ميدان

لوحة ابن الانسان

في اللوحة، يستخدم ماغريت عناصر واقعية لخلق مشهد مجازي لابن الإنسان، ذاك اللقب التوراتي الذي أطلقه يسوع على نفسه. فإذا كنا بصدد تفسير توراتي لعناصر اللوحة، فمما لا شك فيه أن التفاحة أيضا أحد أشهر الرموز التوراتية، وقد احتلّت صدارة القصص التوراتية بوصفها الثمرة التي أغوى بها الشيطان آدم وحواء للأكل من الشجرة المقدسة.

 

وحسبما يرى فوكو، فإن المفارقات والتناقض بين عناصر اللوحات عميق ومتجذر بشكل لا نهائي في لوحات ماغريت، وهو ما ركّز عليه الأول في مقالته الشهيرة "هذا ليس غليونا"، التي تناولت لوحة ماغريت التي تحمل الاسم نفسه، على الرغم من أن المقالة تناولت نقدا وتحليلا واسعا لمفاهيم ماغريت الفنية كافة.(5)

لوحة "هذا ليس غليونا"
لوحة "هذا ليس غليونا"

ويعتمد طرح فوكو على نقطة رئيسية هي أن ماغريت قطع أي طريق على المشاهد، وأكّد له سلفا أن تلك الرموز الواقعية لا تحمل المعنى نفسه الذي تُمثِّله في العالم الطبيعي، فأي تشابه مع العالم الحقيقي يُخرَّب من خلال الجمع بين عناصر متباينة واستخدامها بوصفها تورية للتعبير عن أفكار وحقائق غير مُرحَّب بها في العالم الواقعي.(6)

 

فالإنسان الذي يرتدي ثيابا حديثة ويقف أمام المشاهد محجوب الوجه بفعل التفاحة هو نفسه "ابن الإنسان" بمفهومه التوراتي، النفس البشرية نفسها الفقيرة بضعفها، والتفاحة هي التفاحة التوراتية نفسها، رمز الفتنة والرغبة التي تُعمي صاحبها. هذا هو الإنسان وابنه، من يوم آدم إلى اليوم ما فارقت التفاحة عينيه، تسوقه رغباته ويجري وراء شهواته ولا يكاد يرى غيرها إلا بمقدار ما يرى الشخص الموجود في اللوحة، حيث يظهر جزء طفيف من عينه اليسرى بعدما غطّت التفاحة معظم وجهه.

 

عنوان ميدان

في كتابه "فوكو والسريالية"، يرى أستاذ الفلسفة ريمي ماكيرو أن السريالية، وبطريقة غير مسبوقة، أعطت الفن التشكيلي قوة خطابية كالتي تمتلكها اللغة، كما استطاعت تفكيك الواقع التجريبي، وهو شغل فوكو الشاغل الذي دارت حوله معظم فلسفته، وهو أيضا ما دفعه للتعليق مرارا وتكرارا على معظم لوحات ماغريت. فقد استطاعت السريالية التشكيك في المفاهيم المنتشرة حول التجربة الإنسانية وخلخلة معظم أساطيرها.(7)

 

وحسبما يرى ماكيرو، كان فوكو مدركا أن ماغريت ينتقد بشدة، بل ويُفكك، كل المفاهيم المريحة والمقبولة حول سيادة العقل في القرن العشرين، حيث يُلخص ماغريت عبر صورة لإنسان تغطي وجهه تفاحة أن الرغبة أو الشهوة هما ما يقودان إنسان العصر الحديث وليس العقل.(8)

"بصفته سرياليا في تناوله للحقيقة، فإن فوكو مثل ماغريت، يؤسس لأفكار متقاربة ومتناقضة، وهي أن "الحقيقة" كثيرا ما تكون لعبة خيالية تؤثر بل وتُوجِّه ممارساتنا الاجتماعية".

(ماكيرو، فوكو والسريالية)(9)

 

عنوان ميدان

بالنسبة لميشيل فوكو فإن صور ماغريت السريالية، وعلى الرغم من بساطة عناصرها وتعقيد محتواها، تظل فرصة عظيمة لإعادة فهم أكثر المفاهيم الكونية انتشارا حول سيادة العقل أو غيابه في قرن مُكلَّل بالحروب العالمية والحروب النووية، وهو بدوره ما يسمح بنقد الممارسات الاجتماعية الحالية للفرد والسلطة، بل وإعادة صياغة المفاهيم الكبرى مثل الحرية التي تتوقف عليها معايير وحدود المشاركة في الحياة الاجتماعية.

René Magritte

وهذا ما يعتبره فوكو، في المراسلات التي دارت بينه وماغريت، دور المثقف. فالمثقف ليس الشخص الذي يُخبِر الآخرين بما يتعيّن عليهم القيام به، عمل المثقف ليس تشكيل الإرادة السياسية للآخرين أساسا، إنه مَعنِيٌّ فقط بطرح الأسئلة واستجواب المقبول بوصفه حقائق ومسلمات، عليه إزعاج العقول المرتاحة فيما هي عليه، عليه دفع تلك العقول لإعادة اعتبار الأشياء والتفكير فيها عبر تبديد ما هو مألوف ومقبول.(10)

 

فعالم الحداثة الذي أعلن سيادة العقل، هو بالنسبة لماغريت، شديد العداء للعقل والمنطق، وبالطبع لن يلعب هو فيه دور السلطات التي انتقدها نفسه بأن يُملي على الناس ما يجب عليهم اعتباره أو قبوله، بل عبر لوحاته، حيث استخدم الطلاء لتوصيل أفكاره بدلا من الكلمات، فقد قرأ ماغريت على نطاق واسع في الفلسفة، وأدرج بين مؤلفيه المفضلين هيجل ومارتن هايدجر وجان بول سارتر وميشيل فوكو.(11)

"بأي معنى تُطرح العلاقة التمثيلية – ما إذا كانت اللوحة محطمة للعالم المرئي من حولها، أو ما إذا كانت تؤسس بشكل مستقل عالما غير مرئي يشبه نفسه".

(فوكو عن لوحات ماغريت)

واليوم، بعدما صارت الكلمات والمفاهيم ذات جوهر صوفي يمنح الكاتب مكانة جديدة باعتباره وريثا للرؤية الدينية والبطل الملحمي، حلّت سلطة المفاهيم والمصطلحات محل سلطة الكنيسة في أوروبا المسيحية قبيل عصر النهضة.(13)

 

وتلك هي المشكلة الأكثر تعقيدا، أن الإنسان قد يظن أنه يتمتع بقدر وافر من الحرية، وأنه يُعلن آراءه بشجاعة وبصراحة، بينما هو في واقع الأمر غارق كليا في ضلالات يُراد له أن يؤمن بها أو يُصدِّقها. وفي النهاية يؤكد فوكو أن ما يخدعنا حقا هي "حتمية" صحة أفكارنا، تلك الهالة من القداسة التي نعطيها لآرائنا هي الفخ الحقيقي الذي أُريد لنا السقوط فيه.(14)

——————————————————————————————————

المصادر

  1.  Philosophical Paint – The New York Times
  2.  René Magritte | Beaux Arts
  3.  المصدر السابق.
  4.  Rene Magritte – Art Theory and Art Critics
  5.  Foucault, M. 1983: This Is Not A Pipe, University of California Press.
  6.  المصدر السابق.
  7.  Foucault and Surrealism of the Truth by Raymie McKerrow
  8.  المصدر السابق.
  9.  المصدر السابق.
  10.  René Magritte letters to Michel Foucault 
  11.  Foucault, Michel. Les mots et les choses, 1966, page 3.
  12.  المصدر السابق.
  13.  المصدر السابق.
  14.  المصدر السابق.
المصدر : الجزيرة