شعار قسم ميدان

مسلمون وأقباط ويهود.. هُويَّة مصر في دراما أنور عكاشة

ميدان - أسامة أنور عكاشة

تتصل مسألة الهُويَّة اتصالا عميقا بمسألة السياسيّ، وبخلاف التصورات الليبرالية والماركسية التي تشترك في تقديم السياسي كصراع على موارد القوة والسلطة والهيمنة داخل مجتمع أو جماعة سياسية ما، فإن التعرض لمسألة الهُويَّة يقدم لنا تصورا أوليا عن تلك الجماعة السياسية التي يدور في إطارها ذلك الصراع بما يكشف لنا عن رؤيتها الكونية وتصوراتها عن ثنائية "العدو/الصديق" التي تشكَّل مفهوم السياسي بحسب كارل شميت، وما ينبني على ذلك من وضع لأطر تلك الصراعات الاقتصادية والاجتماعية داخلها.

 

في هذا التقرير نستكشف محاولات طرح هذا السؤال الشائك والإجابة عنه في بعض أعمال أحد كبار كتاب الدراما المصريين المعاصرين وهو أسامة أنور عكاشة. ولد عكاشة في مدينة طنطا في 27 (يوليو/تموز) 1941 وتوفي في 28 (مايو/أيار) 2010، حصل على ليسانس الآداب من قسم الدراسات النفسية والاجتماعية بجامعة عين شمس عام 1962، وعمل بعد تخرجه أخصائيا اجتماعيا في مؤسسة لرعاية الأحداث، ثم عمل مدرسا في مدرسة بمحافظة أسيوط وذلك بالفترة من عام 1963 إلى عام 1964، ثم انتقل للعمل بإدارة العلاقات العامة بديوان محافظة كفر الشيخ وذلك بالفترة من عام 1964 إلى عام 1966، انتقل بعدها للعمل كأخصائي اجتماعي في رعاية الشباب بجامعة الأزهر وذلك من عام 1966 إلى عام 1982 عندما قدم استقالته ليتفرغ للكتابة والتأليف.

 

كان له مقال أسبوعي في جريدة الأهرام، واشتهر كونه كاتب أكثر المسلسلات شعبية في مصر والشرق الأوسط مثل "ليالي الحلمية" و"الشهد والدموع". آخر أعماله التليفزيونية كان مسلسل "المصراوية"، وقد حاز على جائزة أفضل عمل عن الجزء الأول منه الذي عرض في (سبتمبر/أيلول) من عام 2007. عُرف عنه أنه ناصري التوجه، لكنه لم يعد يؤمن بالفكر الناصري، وطالب بحل جامعة الدول العربية وإنشاء منظومة كومنولث للدول الناطقة بالعربية مبنية على أساس التعاون الاقتصادي. ويُعرف عنه عشقه الشديد لمدينة الإسكندرية رغم أنه لا ينتمي إليها، لكنه كان يقيم بها بصورة شبه متواصلة وينجز بها أهم أعماله.(1)

 

طرح السؤال
undefined
  
إذا كان سؤال الهُويَّة يتصل بطبيعة الجماعة السياسية -وهو سؤال قبلي يُطرح قبل التساؤل عن طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي- فلا بد أن يُطرح في شكل علامة استفهام حول طبيعة العلاقة بين هذه الجماعة وتاريخها من جانب، وطبيعة العلاقة بين الجماعات الفرعية المكونة لها من جانب آخر، ويمكن القول إن أعمال أسامة أنور عكاشة المطروحة للبحث في هذا المقال وبعض الأعمال الأدبية لجمال الغيطاني الذي يشترك مع عكاشة في غالب عناصر المكون الفكري والأيديولوجي كـ "متون الأهرام" التي حاولت أن تختلق هوية شاملة لمصر تمتد من الأبد إلى الأبد ولا تغفل المكون الإسلامي فيها بقدر ما تحاول استدخاله في هذه الهُويَّة بشكل لا يتعارض مع أبديتها. ولسنا هنا بصدد عرض للعلاقة بين الأدب وتكوين هويات الأمم الحديثة، إذ يمكن الرجوع في ذلك لعمل بندكت أندرسن الرائد "الجماعات المتخيلة"(6)، لكن يمكن القول -اختصارا- إن الأدب هو الوسيلة الأساسية التي تستخدمها الأمة الحديثة لتتخيل ماضيها كأمة واحدة وسيدة في مقابل الأمم الأخرى، حتى لو خالف ذلك التخيل الواقع التاريخي المجرد، لكن هذا التخيل يؤدي وظيفة سياسية أساسية في خلق هذه الأمة وتوحيدها، وهذا هو ما حاول عكاشة طرحه في أعماله محل النقاش هنا.

 

يمكن اعتبار مسلسل "أرابيسك – 1994" المحاولة الحقيقية الأولى التي طرح من خلالها عكاشة سؤال هوية مصر. ويمكن هنا أن يبرز اعتراض أن عكاشة طرح السؤال من قبل في مسلسل "الراية البيضا – 1988" الذي يروي قصة تاجرة سمك سكندرية من نمط أثرياء الانفتاح الساداتي -كما يظهرون في الأعمال الفنية ناصرية التوجه- تحاول شراء قصر دبلوماسي مصري سابق، وهو ما رفضه هذا الدبلوماسي الذي يمثل هنا دور المثقف المصري نقي التوجه الذي يدافع عن قصره، ويجمع حوله عددا من المثقفين المصريين الأنقياء (محام وصحفية وفنان تشكيلي) الذين يناضلون معه ذلك القبح الذي استشرى في المجتمع بعد الانفتاح الساداتي، ونكتشف أن للقصر أهمية تاريخية لمشاركته في أحداث ثورة 1919 التي هي منبت الوطنية المصرية الحديثة، وينتهي المسلسل باصطفاف المدافعين عن هوية القصر وضرورة عدم هدمه في مقابل جرافة الانفتاح التي تريد هدمه لاستغلال موقعه ومساحته لبناء ناطحة سحاب عصرية لا هوية لها. لكن هذا الاعتراض يمكن الرد عليه بأن طرح سؤال الهُويَّة هنا كان طرحا ناصريا بالأساس يغلُب عليه طابع النقد الاقتصادي ويتوقف عند نقد المثقفين الناصريين للانفتاح الساداتي وأثره على المجتمع.

 

أما طرح سؤال الهُويَّة في مسلسل "أرابيسك" فقد كان مختلفا وأكثر دقة وتركيزا، يروي المسلسل قصة حسن أرابيسك (صلاح السعدني) صانع الأرابيسك المصري الذي يمتد نسبه لأحد صناع الأرابيسك الذين نقلهم العثمانيون إلى إسطنبول مع الفتح العثماني لمصر ليبنوها (لا تذكر تلك السردية لهوية مصر أبدا أن هؤلاء الفنانين والصناع قد خُيِّروا بعد فترة قصيرة من وصولهم إلى إسطنبول بين البقاء فيها أو العودة إلى مصر، وأن من اختاروا العودة قد عادوا بالفعل).

  

 

ويعيش حسن أرابيسك في حي شعبي من أحياء القاهرة الفاطمية (خان دوادار) في مصر في العقد الأخير من القرن العشرين مع أمه (هدى سلطان) وأخيه حسني (هشام سليم)، وأخته التي نعلم أنها تزوجت من أحد تجار الموبيليا الذين هم أيضا أحد ثمار قبح الانفتاح الساداتي الذي يواجهه أرابيسك. يُعاني أرابيسك من آثار هذا الانفتاح الذي أفقد فن الأرابيسك الأصيل قيمته ضمن القيم التي فُقدت، ومن ضمنها قيم الحارة المصرية والتضامن الأهلي واحترام الكبير… إلخ. ويصور لنا المسلسل حياة هذا الفنان الذي عانى من قبح الانفتاح في كل تفاصيل حياته بداية من عمله إلى حياته الشخصية حيث اضطر لتطليق زوجته لرغبتها في الزواج من أحد تجار الانفتاح الجدد الذين يعملون في الخليج.

 

إلى أن يأتي "فتح الانطلاقة" كما سمَّاه أرابيسك حين يتعرف على الدكتور برهان صدقي (كرم مطاوع)، وهو عالم فيزياء نووية مصري كان يعيش في الولايات المتحدة الأميركية ثم قرر العودة إلى مصر والاستقرار فيها وتعديل ديكور مسكنه في الحي البرجوازي ليتم تصوير تاريخ مصر بالكامل (فرعوني وبطلمي يوناني وروماني مسيحي وعربي إسلامي) على جدرانها. ووسط المسلسل يضطر الدكتور برهان صدقي للاختباء في خان دوادار محل إقامة أرابيسك هربا من تهديدات إسرائيلية (كانت إسرائيل لا تزال هي العدو في الخطاب الوطني المصري) باغتياله لاطلاعه على أسرار عسكرية خطيرة أثناء عمله في الولايات المتحدة.

 

ويمتد خط آخر لنقاش مسألة الهُويَّة في المسلسل من خلال زوجة الدكتور برهان صدقي الدكتورة ممتاز محل أستاذ اللغات في إحدى الجامعات الأميركية والتي عادت مع زوجها إلى مصر وقررت البدء في صنع قاموس معاصر للغة المصرية ومفرداتها عن طريق تأجير شقة في خان دوادار والاستماع إلى الشعبيين لتكوين ذلك القاموس، وهو ما سيعترض عليه عكاشة في آخر حلقة من المسلسل عن طريق المثقف المصري الأستاذ وفائي الذي بيَّن لها عوار تلك الطريقة ولا علميتها. الأستاذ وفائي هو مثقف مصري وموظف سابق في وزارة الثقافة لكنه كذلك فنان تشكيلي، وقد وقع الاختيار عليه لاختباء الدكتور برهان صدقي لديه، وقد دارت بينهما الحوارات الأساسية التي طرح من خلالها عكاشة سؤاله عن هوية مصر.

 

في أحد حوارات المسلسل بين د. برهان صدقي والأستاذ وفائي حين سأل الأول عن كُنه "الهُويَّة المصرية" فاستخدم الثاني صورة مجازية عضوية تنتمي لعالم الجسد، حيث شبّه مصر بمعدة عظيمة دخلتها أنواع مختلفة من الأطعمة (كناية عن الحضارات المختلفة) فخلطتها تلك المعدة وصبّت عليها من إنزيماتها ما حولّها إلى كيان متماسك واحد هو هوية مصر. لم يكن ذلك تعريفا بقدر ما كان وصفا مجازيا عضويا لما يسمى "هوية مصر" ينتمي بوضوح لعالم الحداثة ويفترض هوية موحدة وجدت على هذه الأرض منذ الأزل وستبقى إلى الأزل.

  

  إحدى مشاهد مسلسل "أرابيسك"

 

كان الأستاذ وفائي هنا يؤدي دور المثقف العلماني (أتصور أن عكاشة كان يرى نفسه الأستاذ وفائي) الذي لا يُعادي الإسلام، بل على العكس يقدره لكنه يستدخله في تصور عام متخيل لهوية مصرية واحدة. إذا كانت التيمة الأساسية في هذا العمل هي تصوير هوية مصر كقطعة أرابيسك مشغولة بعناية عبر التاريخ فإن صناعة الأرابيسك هو عمل فني إنساني خاضع للإرادة الإنسانية الحرة، وللتبدل والتغير بحسب ما يعن لروح الفنان وما يتصوره، وهذا يناقض الصورة الحتمية التي تنبتها الصور المجازية العضوية المستقاة من عالم الطبيعة المادي والمستخدمة دوما في التعبير عن هذه الهُويَّة مجازيا. كان الخطأ من البداية ليس في الإجابة ولكن في سؤال برهان صدقي نفسه، وأقصد بالخطأ هنا أن سؤال برهان قاد بالضرورة إلى تصور للهوية كجوهر واحد مقدس فوق التاريخ، أي أن طرح السؤال بهذه الصورة قاد بالضرورة إلى هذه الإجابة، فضاعت روحية قطعة الأرابيسك وتحولت إلى الصورة المجازية الباردة للمعدة.

 

في نهاية المسلسل صحَّح عكاشة سؤال برهان صدقي عن طريق عمل حسن أرابيسك نفسه الذي دمر الفيلا رافضا تصور الهُويَّة البارد كمعدة، وهو ما تضمن الإشارة إلى أن حساسية الفنان لأسئلة الهُويَّة قد تكون أكبر من حساسية العالم الذي يبتغي الوصول إلى أجوبة رياضية محددة وقطعية. ويطرح المشهد الأخير(2) من المسلسل سؤال الهُويَّة على لسان حسن أرابيسك بوضوح يصل إلى حد الخطابية، إذ يرفض حسن أرابيسك ما يسميه "البزرميط" في تعريف الهُويَّة، ويؤكد ضرورة الإجابة الواضحة عن سؤال الهُويَّة قبل أي تحرك نحو المستقبل.

  

محاولة الإجابة
إذا كان عكاشة قد طرح سؤال الهُويَّة بوضوح في مسلسل "أرابيسك" فإنه قد حاول الإجابة عنه بوضوح أيضا في مسلسل "زيزينيا" الذي عُرض على جزئين في 1995 و1997، وكان من المفترض أن يكون له جزء ثالث لكن لم يظهر للأسف.
     

undefined

 

في مسلسل "زيزينيا" يعود عكاشة إلى الإسكندرية الكوزموبوليتانية في الأربعينيات من خلال عدد من الشخصيات متعددة الخلفيات الطبقية والاجتماعية والهوياتية، لكنها تعاني جميعا خللا في الهُويَّة، فمن بطل المسلسل بشر عامر عبد الظاهر (يحيى الفخراني) المصري أبا والإيطالي أما، إلى عايدة (آثار الحكيم في الجزء الأول وهالة صدقي في الجزء الثاني) التي تمثل حالة التيه التي عانتها الطبقة البرجوازية المصرية المتصلة بالعمل السياسي في مرحلة ما بعد معاهدة 1936 التي أنهت ظاهريا العداء الوطني المصري الرسمي تجاه الاحتلال الإنجليزي، إلى الشيخ عبد الفتاح الضرغامي المدرس الإلزامي الذي تحول بخدعة ابتدعها بشر عبد الظاهر إلى ولي. الوحيدون الذين لم يُعانوا من وطأة سؤال الهُويَّة كانوا صنفين: الأول هو المصريون أبناء البلد التجَّار، وهم في المسلسل الحاج عامر عبد الظاهر وابنيه خميس والمرشدي إخوة بشر عبد الظاهر، وهم لا يعانون من هواجس هوية لكنهم كذلك يُعانون من كل الأمراض الاجتماعية المصرية، والثاني سكان شارع زنانيري المنخرطون في مواجهة الاستعمار الإنجليزي بعد إعادة احتلال المدن المصرية الكبرى أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

ويقدم عكاشة إجابته لسؤال الهُويَّة من خلال نقل غالب أبطال المسلسل -باستثناء التجار- من خلفياتهم الشخصية والطبقية والهوياتية وإدماجهم في العمل الوطني في شارع زنانيري، وهو ما يُلاحظ من خلال تحسُّن شخصياتهم وغياب هواجس الهُويَّة لديهم أثناء اندماجهم في الكفاح الوطني ضد الاحتلال. ففي أحد مشاهد الجزء الأول من المسلسل يتم الاتفاق على خطة لتحرير شارع زنانيري من احتلال كتيبة الجيش الإنجليزي وأسر قائدها كذلك.

 

تقضي الخطة بأن تدخل الشارع مظاهرة سياسية مكونة من الأفندية وأولاد البلد يقودها محترف المظاهرات "شنّو" منددة بالاحتلال الإنجليزي وداعمة للتقدم الألماني باتجاه الإسكندرية، ومن الناحية الأخرى للشارع يدخل موكب الطريقة الضرغامية الصوفية يقوده شيخها عبد الفتاح الضرغامي على حصانه مرتديا بردته الخضراء وحوله منشدو الطريقة وأتباعه ومريدوه. وفي المعمعة نجح "الفداوية" في أسر الضابط الإنجليزي الكبير ومساعده.

  undefined

 من مقدمة مسلسل "زيزينيا"

 
أرى
أن هذه هي الصورة التي أراد بها أسامة أنور عكاشة تقديم حل لمشكلة هوية مصر التي يدور حولها المسلسل من خلال الالتقاء بين شكل الاحتجاج الحديث المتمثل في المظاهرة السياسية والتقليد الاجتماعي الديني القديم المتمثل في الموكب الصوفي على هدف عملي واضح هو مواجهة الاحتلال الأجنبي. إن أسامة أنور عكاشة بهذه الطريقة يهرب من التعريف السكوني للهوية باعتبارها جوهرا وأيديولوجيا ثابتة خارج التاريخ وفوقه وتتسلط على الإنسان إلى تعريف يعيدها إلى التاريخ كشيء يكتسبه الإنسان فقط بعمله وما يمكنه أن يموت حرا في سبيله. فقد جدّل "العمل الوطني" هنا الخلاف بين أشكال الاجتماع الحديثة والموروثة في جديلة واحدة دون تعارض ظاهر وأكسبهما دلالة جديدة، بل وحوّل شكل الاجتماع السكوني القديم (الموكب الصوفي) الذي قد يوصف في سياقات أخرى بالجهل والتخلف وانعدام الفاعلية إلى الثورية بدخوله في العمل الوطني الحاضر وفاعليته فيه.

 

إن ما أراد عكاشة قوله هنا هو أن إجابة السؤال لا تكمن في تحديد جوهر للهُويّة مقدس ومتعال على التاريخ، بل الهُويَّة هي عمل دائب ودائم لتحصيلها، إن هويتك هي ما تعمل في سبيله. لكن بعد خروج الاحتلال الإنجليزي من الإسكندرية عادت هواجس الهُويَّة مرة أخرى إلى أبطال المسلسل، وهي أزمة الهُويَّة العلمانية التقليدية التي وعاها عكاشة بوضوح لكنه لم يستطع إيجاد حل لها، وكان مدركا عدم استطاعته تقديم حل لها، إذ إن الهُويَّة العلمانية يمكن أن تبدأ من ضد لها تعرِّف نفسها من خلالها لكن لا يمكنها الاستمرار هكذا، إذ مع غياب هذا الضد تنتفي أهميتها وينتفي وجودها. يمكن القول إذن أن تلك كانت محاولة جيدة للإجابة لكنها كذلك أقصى ما يمكن للخطاب العلماني حول الهُويَّة الوصول إليه، ولذلك ظلَّت المشكلة قائمة بلا حل.

   

مسلمون وأقباط ويهود
في محاولة أسامة أنور عكاشة للإجابة عن سؤال هُويَّةِ مصر الذي طرحه بوضوح في مسلسل "أرابيسك"، وحاول الإجابة عنه في مسلسل "زيزينيا" عن طريق الكفاح الوطني لم يتعرض عكاشة لطبيعة العلاقة بين المكونات الدينية للشعب المصري، وتطرح عودته لإسكندرية الأربعينيات الكوزموبوليتانية وتركيزه على العلاقات بين المصريين والجاليات الأجنبية والأجانب المتمصرين أسئلة حول رؤية عكاشة للمكونات الدينية الداخلية للمصريين محل البحث عن الهُويَّة، فالمصريون في ذلك الوقت واقعا مكونون من أغلبية دينية مسلمة وأقلية مسيحية وأقلية أصغر منها يهودية، ومع أن تركيزه على الإسكندرية الكوزموبوليتانية لم يمنعه من الإشارة إلى وجود مصريين آخرين ممثلين في شخصية رفاعي (نبيل الحلفاوي) الصعيدي الذي قدم إلى الإسكندرية للبحث عن الرزق، وتزوج منها.

 

فما العلاقة التي تصورها عكاشة بين المكونات الدينية الأساسية للمصريين؟

الإجابة المثيرة هنا هي أن الدور الوحيد الذي رسمه عكاشة للمسيحيين المصريين كان دور "الجماعة الوظيفية" الموالية لكبار رجال الجاليات الأجنبية المتمصرة الأغنياء التي تحاول أن ترفع نفسها  لمستواهم بالعمل معهم والزواج منهم وتتأمر لحسابهم على بني جلدتها من المصريين. الشخصيتان المسيحيتان في المسلسل كانتا نسيما (شوقي شامخ) وأخاه ناروز الذي ظهر في الجزء الثاني.

  

في ليالي الحلمية سمح عكاشة لشخصية مسيحية هي كمال خلة (شوقي شامخ) ضابط الشرطة الفدائي في السويس عام 1951 (مع إشارة شديدة الضآلة لدور الإخوان المسلمين في هذا العمل الوطني بما يخالف الحقيقة التاريخية المجردة)
في ليالي الحلمية سمح عكاشة لشخصية مسيحية هي كمال خلة (شوقي شامخ) ضابط الشرطة الفدائي في السويس عام 1951 (مع إشارة شديدة الضآلة لدور الإخوان المسلمين في هذا العمل الوطني بما يخالف الحقيقة التاريخية المجردة)
  

ويمكن أن نتصور هنا أن الشخصيتين المسيحيتين في المسلسل لم تكونا أرثوذكسيتين، ويمثلان أقلية دينية داخل الأقلية الدينية المسيحية المصرية التي تغلب عليها الأرثوذكسية، إذ يتزوج نسيم في الجزء الثاني من المسلسل من الإيطالية المتمصرة فرانشيسكا ديلورينزي والدة بشر عبد الظاهر وشقيقة جيوفاني ديلوزينزي عميد الجالية الإيطالية في الإسكندرية، لكن هذا لا يجيب عن علامة الاستفهام الأساسية بقدر ما يضيف لها علامة استفهام أخرى أشد خطورة: إذا كانت الشخصيتان القبطيتان الوحيدتان في المسلسل ليستا من الأرثوذكس الذين هم غالبية الأقباط المصريين، فما دور الأقباط في تكوين هوية مصر الحديثة؟

 

يضع اختيار عكاشة للمرحلة الزمنية التي تدور فيها أحداث المسلسل علامة استفهام أخرى حول هذه القضية، فقد اختار عكاشة الأربعينيات، ولو عاد قليلا إلى ثورة 1919 مثلا لأمكنه التعاطي مع المكونات الدينية للمصريين بجدية أكبر، وبالطبع لم يكن يمكنه العودة إلى ما قبل ذلك إذ كانت الوطنية المصرية في غالب تشكلاتها الأولى إسلامية عثمانية التوجه.(*)

 

ويقدم لنا عمل المؤرخ المصري الكبير طارق البشري "المصريون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" إجابة محتملة لعلامات الاستفهام تلك، إذ يرى البشري أن الكنيسة القبطية المصرية لم تكن قط كنيسة دولة منذ أن انفصلت عن كنيسة بيزنطة، وكانت الكنيسة في عهد حكم الروم مؤسسة دينية للشعب المحكوم، وفي عهد الممالك الإسلامية مؤسسة دينية لطائفة محكومة، وتراكمت تقاليدها الوظيفية والتنظيمية على هذا الأساس. ويدلل البشري ضمن ما يدلل على غياب أي دور سياسي للمسيحية المصرية بحسبانها دينا في نفس المرحلة الزمنية التي يعالجها مسلسل "زيزينيا" بحادثة انشقاق مكرم عبيد باشا عن حزب الوفد، إذ كان انشقاقا سياسيا محضا لاختلافه مع سلوكيات قيادة مصطفى النحاس باشا للوفد ولم تشبه شائبة دينية، كما أن جهود المسيحيين المصريين في هذا الوقت قد تضامنت مع جهود نظرائهم من المسلمين لمواجهة خطر التبشير الذي بدا خطرا مشتركا على الهُويَّة المصرية بمكوناتها الدينية المستقرة. ومن هنا يمكن أن نفسر غياب التعبير السياسي للمسيحية المصرية في مسلسل "زيزينيا" كتمثيل لغيابه في الواقع في المرحلة الزمنية التي يعالجها المسلسل.(3)

 

شخصية اليهودي المصري أيضا لم تكن أكثر حظا عند أسامة أنور عكاشة من المسيحي المصري فضلا عن اليهودي ذي الأصول غير المصرية. الشخصية اليهودية المتمصرة مثَّلها في "زيزينيا" الأخوان مزراحي وهما تاجران يهوديان لعل أجدادهما وفدا إلى مصر مع جحافل الأجانب الذين وفدوا إليها بداية من عصر الخديوي إسماعيل، وقد كانا يحاولان الهروب من مصر مع اقتراب روميل من الإسكندرية عام 1942. أما شخصية اليهودي المصري فيمثِّلها داوود أفندي الموظف المسؤول عن الحسابات في مصنع سليم باشا البدري في مسلسل "ليالي الحلمية" الذي عُرِض في خمسة أجزاء من 1987 إلى 1995.كُتب مسلسل "ليالي الحلمية" من خلال خطوط تقسيم طبقي شديدة الوضوح، ورُسمت شخصياته وأبعادها النفسية والجوانية في الأجزاء الأولى من المسلسل بناء على أوضاعها الطبقية كما حلّلها عكاشة.

     undefined

 

داوود أفندي ذو شخصية يهودية تقليدية كما يصورها الخطاب الشعبوي الناصري المتأثر بشدة بالخطاب القومي الأوروبي عن اليهود في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. شخصية خبيثة ولها أكثر من وجه وذات علاقة واضحة بالمال حيث يؤدي دور محاسب المصنع. سيختلس داوود أفندي أموال المصنع ويهاجر إلى إسرائيل في نهاية الجزء الأول من المسلسل وسيعود للظهور مرة أخرى في الجزء الرابع مع ابنه كرجل أعمال إسرائيلي يرغب في الاستثمار في مصر بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

 

في "ليالي الحلمية" ولأن سؤال الهُويَّة لم يكن مربط الفرس بقدر ما كان تقديم نوع معين من السردية اليسارية التاريخية التقليدية لمصر القائمة على أولوية الصراع الطبقي مع دمجه بالصراع الوطني مع الإنجليز -وهي السردية التي تبدأ غالبا من حدود عام ١٩٤٠- سمح أسامة أنور لشخصية مسيحية هي كمال خلة (أدى دورها كالمعتاد شوقي شامخ) ضابط الشرطة المصري الفدائي في السويس عام 1951 (مع إشارة شديدة الضآلة لدور الإخوان المسلمين في هذا العمل الوطني بما يخالف الحقيقة التاريخية المجردة) وضابط المخابرات بعد يوليو 1952 ثم رجل الأعمال في السبعينيات ككثير من ضباط ورجال دولة يوليو، تماما كنظرائه من المسلمين.

 

ما نخلص إليه هنا أنه كلما ابتعد عكاشة عن سؤال الهُويَّة في ذاته سمح أكثر للعوامل الطبقية والاجتماعية المادية بالظهور والتي يتساوى عندها جميع المصريين عدا اليهود لأنهم خارج هذه السردية (الشهد والدموع وليالي الحلمية)، وكلما اقترب منه خَفَتَ ظهور العوامل الطبقية لصالح عوامل أكثر روحية ورمزية كالدين والفن (أرابيسك وزيزينيا والمصراوية).

 

المصريون وأعداؤهم: من هم المصريون؟

إذا كان البحث في موضوع الهُويَّة يتضمن البحث في مكوناتها الذاتية فإنه لا بد أن يتضمن أيضا البحث في خصومها. إن وجود جماعة سياسية ينبني -كما يؤكد كارل شميت(4)– على تصورها عن نفسها وعن تصورها عن علاقتها بالآخرين في ثنائية "العدو/الصديق".

 

فمن هم أعداء المصريين كما صوّرتهم دراما عكاشة؟
يظهر الوطنيون الأنقياء كطه السماحي في مسلسل
يظهر الوطنيون الأنقياء كطه السماحي في مسلسل "ليالي الحلمية" حرفيا كملائكة لا تفعل شيئا سوى القتال في سبيل الوطن مع بعض الديباجات التحليلية المستقاة من أدبيات اليسار
  

إذا كان البحث عن هوية مصر هو الخيط الفكري الناظم لمسلسل أرابيسك فإن هذا لم يتناقض مع الجمالية الواضحة لكتابة هذا المسلسل. هذا المستوى الفني البديع يطرح أسئلة عن العلاقة بين الفن والأيديولوجيا، والأيديولوجيا هنا هي المكون الفكري الذي يتدخل لتحديد ماهية الجماعة السياسية وماهية أعدائها.

 

لا يطرح الأدب أو الفن الأسئلة الأيديولوجية الجافة بشكل مباشر، وإنما يصوغها من خلال صناعته لصورة تمثل شبكة علاقات أقرب للواقع من وجهة نظر الأيديولوجيا المحركة، وكلما كانت تلك الصورة غنية بالتفاصيل الإنسانية العميقة كانت أقدر على تمثيل الواقع بشكل أقرب لما حدث في نفوس شخوصه كما في واقعها البراني، وكانت أقرب للحقيقة وأكثر ابتعادا عن الأيديولوجيا، أو كانت الأيديولوجيا بذلك أكثر قدرة على التخفي في رداء الفن.

 

يظهر الجانب الأيديولوجي بوضوح في تعامل الأديب مع تمثيلات خصومه الأيديولوجيين الواقعيين في كتابته، فبينما التزم عكاشة ببناء شخصيات شديدة الغنى لكل أبطال أرابيسك أصر في المقابل على إظهار أبناء الجماعات الإسلامية في التسعينيات كنبت شيطاني، شر مطلق مصمت لا جذور له في الواقع، ولا يحق له أن يُمثِّل نفسه أو أن يُمثَّل بنفس القدر من تركيبية وغنى تفاصيل بقية شخوصه. ما يثير الانتباه حقا في هذا الإطار هو غلبة الجانب الفني على النظري الأيديولوجي لدى المؤلف، فحتى مع التزامه الصارم بمعالجة موضوعه النظري طوال حلقات المسلسل -وبشكل لا يخلو من المباشرة أحيانا- فإن هذا لم يمنعه من التفلُّت من صرامة الأيديولوجيا إلى رحابة التركيبية الإنسانية أثناء عملية بنائه لشخوص روايته، وهنا تحديدا يظهر التناقض الحقيقي بين الفن والأيديولوجيا.

ينبني على كل ذلك أن المصري عند عكاشة هو مسلم الديانة بالضرورة أو بنسبة ٩٩% على الأقل، لكنه الإسلام الشعبي المتعبِّد في محراب الزعماء السياسيين العلمانيين من سعد زغلول إلى جمال عبد الناصر (السادات لا)، وهو معاد بطبيعته لإسرائيل وحركات الإسلام السياسي التي إما يتجاهلها عكاشة في تأريخه للأربعينيات، أويشيطنها في تأريخه للسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. وهذا المصري اكتشف "مصريته" في ظرف تاريخي مجهول لا نعرفه على الحقيقة لأنه اكتشاف تم خارج التاريخ ربما، بالضبط كما يروي الداروينيون قصة الحياة بعد الخلية الأولى، ويظهر الوطنيون الأنقياء كطه السماحي في مسلسل "ليالي الحلمية" حرفيا كملائكة لا تفعل شيئا سوى القتال في سبيل الوطن مع بعض الديباجات التحليلية المستقاة من أدبيات اليسار.

  

 

هذا المصري لا يُعادي المسيحيين المصريين بالضرورة لكنه يتعامل معهم كحلفاء مقربين في معارك الاستقلال الوطني والديمقراطية والعدالة الاجتماعية (شخصية كمال خلة في مسلسل "ليالي الحلمية")، غير أنه لا يعترف لهم بدور أصيل في تكوين هويته كمصري، بل ربما يتشكك في علاقاتهم الزائدة بالأجانب (شخصيتي نسيم ونيروز في مسلسل "زيزينيا"). وهذا المصري تتشكَّل شخصيته وتوجهاته غالبا بسبب وضعه الطبقي وتوجهه الحزبي قبل يوليو 1952، وعبادته لناصر وكرهه للسادات بعد يوليو.

وفي مسلسل "المصراوية" يقدم عكاشة مقاربة لقضية هوية مصر تتخلى تماما عن ديباجات الخطاب التحليلي اليساري وتقترب بشدة من مقاربة كارل شميت لمفهوم السياسي، إذ يعود بها إلى قضية العلاقة بين دين الجماعة السياسية ورؤيتها المعرفية ونظامها السياسي (لذلك تجد في المسلسل نموذجين للشيخ: الشيخ الذي يشرعن للسلطة والشيخ الذي يقاومها)، ويقدِّم عكاشة مقاربته تلك من خلال شخصية فتح الله الحسيني العمدة الذي يحكم أرضا في ظل الملكية والاحتلال الإنجليزي، ورغم ذلك يصوره عكاشةكحاكم مصري مستقل يخوض السلطة بمعاركها وانتصاراتها وهزائمها ومراواغاتها مع خصومه الداخليين والخارجيين.(5)

 

أما قطعة الأرابيسك الحقيقية -إن جاز لنا عقد هذه المقارنة- فقد نحتها نجيب محفوظ في الحرافيش، ولم يتعرض محفوظ لهوية مصر، بل كان اهتمامه منصبا على تجربة الإنسان في هذا العالم. وإذا كان الزمن عنصرا غائبا أيضا في حارة نجيب محفوظ فإنه يغيب كعنصر فيزيائي فقط، ويبقى الإنسان في النهاية صانعا لهويته بأفعاله واختياراته الأخلاقية الحرة.

 

______________________________

 
(*): لمزيد
 من التفاصيل حول سجالات الهوية في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين يُرجى مراجعة: "هوية مصر بين العرب والإسلام 1900 – 1930″، إسرائيل جرشوني و ج. جانكوفسكي، ترجمة: بدر الرفاعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2013.

المصدر : الجزيرة