شعار قسم ميدان

الكوميديا الأمريكية.. من عبقرية الصمت إلى الاصطناع المبتذل

midan - charley chablin

في مقالة بحثية رصينة بعنوان،’ أزهى عصور الكوميديا Comedy’s Greatest Era’، رثى جايمس آجي (James Agee) لحال الكوميديا اليوم وعجزها الواضح عن الدفع بالمشاهدين إلى أقصى درجات الضحك بعكس ما كانت تفعل أفلام الكوميديا الصامتة.

 

وقد تفهّمت موقفه حينما اطلعت على لائحة المعهد الأمريكي للأفلام (AFI) التي تتألف من مئة أعظم فيلم كوميدي، وكان حضور أفلام الكوميديا الصامتة فيها باهتًا. إذ يتصدر القائمة فيلمان يتضمنان محور "الملابس المغايرة" (حيث يرتدي جنس ثياب الجنس الآخر) هما: (Some Like It Hot) و((Tootsie.  أول فيلم صامت على هذه اللائحة هو فيلم ( (The General ويحتل المرتبة رقم 18، وهو بالتأكيد واحد من أعظم أفلام الكوميديا الأمريكية. بينما كان أول دخول لتشارلي تشابلن على اللائحة من خلال فيلم (The Gold Rush) ويحتل المرتبة رقم 25، وهو بالتأكيد كوميديا كلاسيكية لكنه أقل إثارة للضحك، وأشد عاطفية من العديد من أفلامه القصيرة السابقة.

 

ظهور هارولد لويد(Harold Lloyd)  اليتيم يأتي في المرتبة رقم 79 عن فيلمه (The Freshman). بالمجمل، وفقًا لحسابي،  7 من أصل 100 فيلم على هذه اللائحة هي أفلام كوميديا صامتة، واثنان لعب فيهما تشابلن دورًا صامتًا هما ((Modern Times  رقم 33 (City Light) رقم 31. أما الأعمال الكوميدية الرائدة الأخرى، بما فيها، أعظم كوميديا أنثوية Mabel Normand))، لاتلقي اللائحة لها بالًا. من الواضح، أن قائمة المعهد لأعظم الأفلام الكوميدية منحازة لصالح أفلام الزمن الحاضر لكنني لا أظن أن المسألة هي مسألة فقدان الذاكرة التاريخية. إن الأمر بالأحرى، يكشف عن حقيقة مفادها أن تطور أفلام الكوميديا قد لعب دورا في تفضيلات أعضاء المعهد في عملية التصويت. سأوضح أكثر فيما يلي.

 

 أفلام الكوميديا قديمة قدمِ الأفلام نفسها. من بين أول الأفلام التي صورها الأخوان لوميري Lumiere)) كان فيلم، (L’Arroseurarros-1895) حيث يقع بستاني ضحية مقلب صبي وينتهي به المطاف لتلقي رشقة ماء على وجهه بينما هو يحدق في فوهة خرطوم كان الصبي يغلقه بإحكام. لكن طبيعة الفيلم الفارقة في جدالات منظري الأفلام الأوائل – أتكون واقعية أم خيالية، كانت قد استثنت إمكانية الكوميديا. جزئيا، بلا شكّ، كان هذا لأن أولئك المنظرين قد انشغلوا برفع منزلة الفيلم بحيث يصبح أحد أشكال الفنّ عوض بداياته المتواضعة كمظهر من مظاهر الثقافة الشعبية.

 (صورة من فيلم The Idle Class)
 (صورة من فيلم The Idle Class)

امتازت الأفلام الصامتة بقدرتها على إضحاك الجمهور من خلال مقالب كالتي ذكرتها سالفا. بمرور السنوات، تمكن آباء الكوميديا –  تشابلن ولويد وكيتون، لأسمّي ثلاثا – من صقل هذه المقالب. وأحد الأمثلة الخالدة على هذه الخطوة نجده في فيلم تشابلن (The Idle Class). حيث يلعب تشابلن دورين في هذا الفيلم: دوره المعتاد كمتشرد ودور آخر لم نألفه من الممثل وهو الثري المدمن على الكحول. عند نقطة معينة، عندما تعلن زوجة المدمن أنها ستتركه، يظهر تشابلن في لقطة من الخاصرة حتى الرأس من الخلف كما لو أنه يبكي: يرتجف كتفاه، مطأطئ الرأس، ويبدو جسده مرتعشا يتنهّد.  لكن من خلال لقطة معاكسة يتضح أننا مخطئون : إن ما يقوم به مدمن الكحول هو إعداد كأس مارتيني، مما يبرر وضعية وحركة الجسد تلك. ما التقطه تشابلن، واستخدم الكاميرا في الكشف عنه، هو أن هذين التصرفين غير المتصلين – البكاء وتحضير مشروب – يبدوان متطابقين حينما نراهما من الخلف. إن الكاميرا قادرة على إيصال هذا إلينا بحيث تعجز أي وسيطة فنية أخرى عن ذلك، كالمسرح مثلا، لأنه قادر على إثبات سلوك الفنان على المنصة. في المسرح – وهو شكل الفن الذي رآه منظرو الأفلام الأقرب إلى الفيلم –  سيستطيع المشاهد الذي لا يجلس قبالة الشخصية مباشرة رؤيتها من الجانب إن أدارت وجهها، لذا فتأثير الكاميرا لا يمكن أن تقدمه وسيطة فنية أخرى.

 

هذا يقترح أن للفيلم إمكانيات فكاهية معينة لا تتوفر في فنون أخرى. بالطبع، لا يعني هذا أن الفيلم مطالب باستغلال هذه الإمكانية، وهو استلزام نظري خاطئ ارتكبه منظرو الفيلم الأوائل الذين حاولوا اشتقاق مقتضيات فنية من فهمهم لطبيعة الفيلم.  مع ذلك، ساعدت هذه القدرة في الكشف عن عبقرية الفيلم الصامت، قدرته على أن يظهر لنا مزايا للعالم الذي نعيش فيه، وبالأخص مزايا لأجسادنا، لا تظهر في حياتنا اليومية.  حقيقة هذه التجليات التي تجلب معها الضحك تفسر السرور البالغ الذي يعتري مُشاهد الفيلم الصامت.
 

بما أن الفيلم ذاته قد تطور بحيث هيمن فيلم السردية على شباك التذاكر، وجد الفيلم الكوميدي نفسه مرغمًا على مواكبة التغيير ليتمكن من المنافسة. خلال الأعوام (1915-1919)، أصبحت مدة الأفلام السردية أطول، وقد تضمنت حبكات أشدّ تعقيدًا. لكي تنجو، تعين على الأفلام الفكاهية أن تتماشى وتصبح أطول، أيضًا. لكنها واجهت معضلة في ذلك، لأن انتباه الجمهور لم يكن ليظل مشدودًا بسلسلة من المقالب التي امتدت حتى المدة المتعارف عليها في بقية الأفلام ذلك الوقت. كيف سيلاقي الفيلم الكوميدي هذا التحدي؟

 

كانت الإجابة الواضحة هي دسّ المقالب الفكاهية في سردية درامية إجمالية تغلّفها. مضى تشابلن وكيتون، ولويد في اتجاه هكذا أنماط، وقدموا أفلام ذات مدة أطول لكنها حوت سرديات درامية أشد تماسكًا وقوة.  غير أن المشكلة التي ظهرت تمثلت في تنافر السردية الدرامية مع المقالب الفكاهية داخل الفيلم الواحد. ويبدو هذا واضحًا أكثر، كما أعتقد، عند تشابلن، الذي تنامت حساسيته العاطفية بمرور الوقت. حيث لا يعدُّفيلم ذا جولد راش (The Gold Rush) تحفة فنية، لعمق السردية الدرامية لرجل متشرد يعبر من الفقر إلى الثروة ويحصل على الإشباع الغرامي، إنما بالأحرى لمقاطعه الفكاهية الممتازة كمقطع رقصة العشاء التي يراها في أحلامه عشية رأس السنة. ومع أن من الصعب دمج المقالب الفكاهية في فيلم واحد طويل المدة دون إنهاك الجمهور، إلا أن الأفلام التي تنجم عن موضعة الكوميديا ضمن بنية سردية درامية أوسع لا تكون دائمًا بذات الكثافة الفكاهية التي احتفى بها آجي في أفلام الكوميديا القصيرة الأولى.

(بناءً على ما سبق، يمكننا أن نلحظ الاتجاه ذاته في مجمل أعمال وودي آلان (Woody Alan). باكورة أعماله، كفيلم (Bananas) مرتبته 69 على القائمة، كانت في مجملها سلسلة من المفارقات الفكاهية المدمجة مع خط سردي فضفاض. في أفلامه اللاحقة، كفيلم Hall) (Annie  المرتبة 4 ، تهيمن السردية وتوحّد الفيلم، على الرغم من أن الفكاهة حاضرة. وهُنا أيضًا، أخضع الضحك الهزلي لمطالب التماسك السردي).

 

كان ليأخذ تطويع الكوميديا لصالح السردية مظاهر مختلفة. حيث كان يمكن لأي من التصنيفات المعيارية كأفلام الغرب الأمريكي أو الميلودراما، أن تحتوي على عناصر كوميدية، كما فعل بعضها بالتأكيد. إنما في المجمل، كان النصيب الأكبر من عملية التطويع هو من أفلام الرومانسية،وبالتبعية باتت أفلام الرومانس كوميدي أرفع أصناف الكوميديا. اليوم، يمكن دمج العناصر الفكاهية ضمن أساسات الفيلم الرومانسي، ما يبقي انتباه الجمهور مشتتا  عن العقبات التي تعترض درب حبيبين.  وفيلم) (The General خير مثال، حيث تكون مهمة جوني جراي (Johnny (Gray، التي لا تخلو من المنعطفات الفكاهية، هي الظفر برضى حبيبته. وبما أنّ الأفلام الرومانسية الكوميدية جاءت إلى الوجود في زمن الأفلام الصامتة، نراها اليوم، وقد أصبحت النوع المهيمن من أفلام الكوميديا.  ليس الأمر وحسب لأنّ أكثر من نصف أفلام قائمة المعهد هي رومانسية كوميدية، ولكنّ لأنّ الرومانسية تظلّ النموذج المهيمن لأفلام الكوميديا اليوم.  

 

قد يساور المرء ظنّ بأن دمج الضحك بالرومانسية قد نجم عنه تدجين للفيلم الكوميدي. لكن منظري الكوميديا، بمن فيهم علماء النفس فرويد (Freud) وبيرجسون (Bergson)، جادلوا بأن الكوميديا تخريبية بطبعها، لأنها تهزأ من أشكال عديدة للسلطة. ولا يسعنا إلا التفكير في حضور الشرطة في أفلام الكوميديا الأولى – شرطة كيستون نموذجية ههنا – للتثبت من فكرة أن الكوميديا لا سلطوية (أناركية) بطبعها، تهزأ من أولئك الذين هم في السلطة. عادة ما تعتبر الرومانسية، من جهة أخرى، نوعا محافظا، يبرهن على قيمة الحب والزواج عوض الرغبات الجامحة. تنتهي معظم الأعمال الرومانسية عندما يتجاوز الحبيبان العقبات، حيث ينتظرهما مستقبل غير محدد، إنما سعيد، بعدما تحررا أخيرا من أي قلق هدد ذاك الحبّ.

صورة من فيلم Singing in The Rain
صورة من فيلم Singing in The Rain

إن كنا لنقبل هذه الأساليب التقليدية للرومانسية والكوميديا، سيكون من المنطقي عندئذ رؤية التطور المتمثل في الفيلم الرومانسي الكوميدي كتقليم لتخريبية الكوميديا. نت وجهة النظر هذه، يكون الفيلم الرومانسي الكوميدي الحديث قد فقد عنصرًا حاسمًا كان في أنماط المقالب (Slapstick) وأنواع أخرى عرفتها الأفلام الكوميدية الأولى. احتفاء المعهد الأمريكي بالأفلام الحديثة على القديمة يبدو بهذا الشكل أكبر من فقدان للذاكرة التاريخية: إنه يخفي الطبيعة الثورية للفيلم الكوميدي بالاحتفاء بنوع آخر مدجن يتواجد حاليا.

حينما تعرّف قائمة المعهد أفلاما من قبيل (Singing in the Rain) رقم 16 و(American Graffiti)  رقم 43 على أنها أفلام كوميديا، يكون واضحا أن الفكاهة والضحك لم يعودا المعيار الذي يجعل الفيلم كوميديا. التوق للمزيد من المسرّات الأناركية التي وفرتها أفلام الكوميديا الأولى، مثلما تاق آجي، لا يكون ببساطة من خلال القبول بحالة النوستالجيا الحاضرة جدّا في الدوائر المثقفة اليوم؛ وإنما من خلال التوجه إلى صناع الأفلام بتوفير الخبرات التخريبية التي جعلت الفيلم الكوميدي، إن دققنا النظر، نوعا حيويا من أنواع الفيلم الصامت.

 

ولسنا مضطرين للقبول بهذا الجدال، مع ذلك، جدال محاكمة قائمة المعهد الأمريكي الأفلام الصامتة من منطلق مدى مقاربتها لنمط الكوميديا الرومانسية المعاصرة. أفلام  (The General, Sherlock, JR. , The Gold Rush, City Lights) كلها حوت حبكات رومانسية كأساس للكوميديا الجسدية الرائعة.  بالإضافة إلى أن لدى المعهد الأمريكي استصغارا عاما للكوميديا الجسدية لصالح خفة الظل المحكية. حيث لدينا فيلم جيري لويس (Jerry Lewis) اليتيم في المرتبة 99 (The Nutty Professor) على القائمة كلها ولا عمل كوميدي واحد لجيم كيري (Jim Carrey).

 (صورة من فيلم City Lights)
 (صورة من فيلم City Lights)

تتغاضى قائمة المعهد الأمريكي بذلك عن فشل صناعة الأفلام في الاعتراف بإنجازات الفيلم الصامت، بالتحديد طلائعه. وعوض ذلك، نرى الأمر يعكس إجحاف جمهور أفلام يعاني نوعًا عجيبا من العمه التاريخي. عوض استخدام هذه القائمة لتوعية الجمهور بتاريخ صناعة الأفلام، تعكس قائمة المعهد الطبيعة المهنئة للذات في عالم صناعة الأفلام، مؤكدة أنها قد تحسنت عن ماضيها بالإضافة إلى التحسينات الأخرى من صوت وألوان. باتباعها هذا النمط، تعمل على تهميش أحد أعظم إنجازات الصورة المتحركة – الكوميديا الصامتة –  وتكون فرصة تجديد الفيلم المعاصر قد ضاعت. 

المقال مترجم عن: https://goo.gl/rDrICF

المصدر : الجزيرة