شعار قسم ميدان

"بلاك ميرور".. كيف تُعرّي التكنولوجيا ذواتنا؟

ميدان - مسلسل بلاك ميرور

يرن الهاتف، ليستيقظ رئيس الوزراء البريطاني مايكل كالو إثر خبر اختطاف الأميرة سوزانا. يتساءل كالو في الاجتماع العاجل عن المطلوب قائلًا: "ماذا يريدون؟ المال؟ أم إطلاق سراح إرهابي؟" لكن المطلوب حقًا هو أن يمارس رئيس الوزراء الجنس مع خنزير أمام بث تلفزيوني حي! حسنًا هذا لم يحدث في الواقع، ولكن من قلب هذه الأحداث تنطلق الحلقة الأولى من الدراما التليفزيونية "المرآة السوداء" لمؤلفها شارلي بروكر، والتي يعرفها بروكر نفسه بأنها مجموعة شديدة اللذة من تخيلات قائمة على تساؤلات "ماذا لو؟".

 

"المرآة السوداء" هي مجموعة من الحلقات غير المتسلسلة، والتي بُثت حلقات الموسم الأول والثاني منها على التليفزيون البريطاني، ثم قامت نتفليكس بإنتاج موسميها الثالث والرابع. يربط شئ واحد فقط بين الحلقات، ألا وهو فكرة التكنولوجيا ومدى تأثيرها على البشر مع كثير من الافتراضات الخيالية حول تطور العالم الإلكتروني. يقول بروكر: "لكل حلقة طاقم مختلف، إعداد مختلف، بل وحتى عالم فيلمي مختلف. لكن كل الحلقات تدور حول الطريقة التي نعيش بها حاليًا، وعن تلك التي يمكن أن نعيشها في خلال مدة قصيرة إذا تصرفنا بشكل أخرق".

كيف يكتب شارلي بروكر حلقاته؟

في عام 2005، ومع حلول الانتخابات الرئاسية الأميركية كتب بروكر نكتة ساخرة قائلًا: "جون ويلكس بوث، لي أوزوالد، جون هينكلي، أين أنتم في الوقت الذي نحتاجكم فيه أكثر من أي وقت مضى!" (الأسماء الوارد ذكرها في النكتة هي أسماء مغتالي الرؤساء الأميركيين إبراهام لينكولن، جون كينيدي، ورونالد ريغان بنفس الترتيب السابق). تلقى بعدها بروكر العديد من رسائل الكراهية والتهديد، وتم ادعاء أن الغارديان تحرض على اغتيال جورج بوش، وأُجبرت الغارديان على نشر اعتذار رسمي باسم الكاتب. وفي عام 2011، عاد بروكر لينطلق من منطلق فكرة نكتته لتكون فكرة أول حلقات مسلسله عن مُختطِف يسعى لإذلال السلطة. المسلسل الذي حاز في عام 2017 على جائزة الإيمي عن حلقة "سان جينبرو".

المؤلف شارلي بروكر (آي إم دي بي)
المؤلف شارلي بروكر (آي إم دي بي)

 

يستمد بروكر أفكار حلقاته كلها من أفكار وثيقة الارتباط بتكنولوجيا اليوم مع إضافة بعض التخيلات بتطورها في المستقبل القريب. فهو يذكر في حواره مع الجارديان استخدامه لأفكار تطبيقات المواعدة، تويتر، الواقع المُعدل، القرصنة الإلكترونية، والتقييمات الإلكترونية. يتخيل تارة احتمالية جهاز ما يجعلنا قادرين على استعادة كل ما عشناه عن طريق جهاز مثبت يسجل كل ما يحدث، وتارة أخرى يتخيل عيشنا في غرف مغلقة ذات عالم افتراضي حيث يصبح لنا شخصيات مقابلة نشتري لها بالنقاط ما قد يشتريه البشر في عصرنا هذا، ويصل الأمر إلى أن يستخدم فكرة الحجب الموجودة في شبكات فيسبوك، ليجعلها قابلة التحقق في الواقع القريب.

فلسفة "المرآة السوداء"

تستثير حلقات المسلسل عقل المشاهد للتفكير في طريقة معيشته وكيف يمكن للحداثة أن تقودنا إلى مزيد من التقدم التكنولوجي، والتأخر الحضاري في الوقت ذاته. لذا يلزم أن نحاول فهم فلسفة "المرآة السوداء". دعنا نتعرض لمفهوم المرآة بشكل فلسفي. يقول ميشيل فوكو في محاضرته عن الفضاءات الأخرى أن "المرآة هي مكان معدوم المكان. ففي المرآة تتاح لنا الفرصة أن نرى أنفسنا في صورة لا نوجد بها بالفعل". يستغل روبين ريمارجوك هذا المفهوم في مقالته لفهم مواقع التواصل الاجتماعي قائلًا: "ثمة وظيفة أخرى للفضاء الآخر "الهيتيروتوبيا" هي "تهيئة فضاء من الوهم يكشف كل فضاء حقيقي، جميع المواقع التي تنقسم إليها وتتوزع عليها الحياة الإنسانية بالاستعانة بمزيد من الإيهام". أليس فيسبوك مكانًا من هذا النوع؟".

حسنا، يمكننا أن ننطلق من نفس التحليل الذي قام به ريمارجوك، لنفهم طبيعة المسلسل. يأتي الاسم كما يقول بروكر من شاشات هواتفنا بينما تكون مطفأة. إنها مرايا عند توقيفها عن العمل، ومرايا سوداء أكثر عند تشغيلها. فحلقات المسلسل تتعرض لتثوير أفكار تكنولوجية موجودة بالفعل مثل فكرة المساعد الإلكتروني "سيري" الذي أطلقته شركة (Apple،) ليرينا كيف يمكن للآلة التلاعب بالإنسان وحضارته. الإنسان يخلق الحاسوب، يتلاعب به، يعلمه، ليقوم الحاسوب بالتلاعب بالإنسان نفسه فيما بعد. الأمر مثير، أليس كذلك؟! في حلقة أخرى أخرجها جو رايت، تُدعى (Nosedive) أو الانحدار. تنتقل فكرة التقييم التي نقوم بها على مواقع التواصل وغيرها، لتصبح بين البشر ذاتهم على أرض الواقع.

حلقة
حلقة "الانحدار" (Nosedive) من مسلسل بلاك ميرور (آي إم دي بي)

يستغل بروكر هذه الفكرة ليكشف كيف يمكن لنظام للتقييم أن يكشف كيف يخفي البشر أنفسهم خلف أقنعة. الأمر ذاته يحدث اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تويتر، وإنستغرام، حيث يخلق البشر قناعًا لهم بالفعل يقومون بالتحدث من خلاله، ويضعون الصور المنتقاة التي تُصدر صورة غير حقيقية لحياتهم التي من الممكن أن تكون بعيدة كل البعد عن السعادة. بل إن الحلقة تناقش أيضًا كيفية خلق هذا النظام لتعاسة البشر حيث يتعرضون للكثير من المنتجات التي لا يحتاجونها، ولكنهم يتوهمون ذلك، فيشعرون بالبؤس لإحساسهم بذلك النقص الزائف، وهذا أيضًا قابل للتطبيق على مواقع التواصل الاجتماعي.
 

كيف تؤثر "المرآة السوداء" على مشاهديها؟

يفصح الكاتب شارلي بروكر في حواره مع موقع هافنغتون بوست عن هدفه من صناعة هذا المسلسل، أو هذه الأنطولوجيا التكنولوجية كما يسميها البعض: "أود أن أجعل المشاهدين قلقين بشكل نشط" ويستطرد لاحقًا في نفس المقابلة: "كل الحلقات تخيفني بشكل ما، لكن الحلقة الأكثر رعبًا بالنسبة لي هي "الدب الأبيض"، لقد قمنا بزراعة كابوس في تلك الحلقة، استخدمنا بعض الأفكار من فيلم "ترومان شو" جنبًا إلى جنب مع مفهوم العدالة الجنائية".

لكن هذه الحلقات لا ترعب مؤلفها فقط، إنها تقوم فعلًا بخلق حالة من القلق لدى مشاهديها. فحسب تحليل معلوماتي لأكثر من ثلاثة عشر ألف تغريدة بموقع تويتر متعلقة بالحلقات في الفترة بين 20-23 (أكتوبر/تشرين الأول) 2016؛ صنعت الحلقات 1،2،4 تأثيرًا ضخمًا على المشاهدين.
  

undefined

 
في النهاية، "المرآة السوداء" عمل لا نستطيع وصفه بـ التلفزيوني بالرغم من أنه يبث بالطريقة ذاتها. الحلقات منفصلة تمامًا. يختلف المخرج، طاقم العمل، والعالم الخاص بالحلقة في كل مرة. الأمر الذي يجعلها شبيهة بالأفلام أكثر، تلك الأفلام التي تربطها فكرة واحدة كعشارية كيشلوفسكي التي يربطها مضمون الحديث عن الوصايا العشر. عمل يستحوذ على فضولك منذ الوهلة الأولى، يجعلك تفكر في طريقة عيشك، في رفاهيات التكنولوجيا التي قد تصير مسببًا للتعاسة أو البؤس، وفي زيف واقع البشر الحالي. ربما تفكر أيضًا بعد مشاهدتك لهذه الحلقات، أنك شاهدتها على مرآة سوداء أخرى!

المصدر : الجزيرة