شعار قسم ميدان

فيلم "وش في وش".. كيف تصنع كوميديا اجتماعية ممتازة بدون تكلّف؟

فيلم وش في وش
فيلم "وش في وش". (مواقع التواصل)

ما الذي يمكن أن يحدث إن أُغلق الباب على مجموعة من الأشخاص الغاضبين واضطروا لقضاء ليلتهم كاملة معا في مساحة لا تتجاوز نحو 200 متر مربع؟ هل يتمكنوا من تجاوز خلافاتهم أم تزداد حدتها؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر تدخل الأقارب وأفراد العائلة والأصدقاء لفض الخلافات الزوجية؟ هل يؤدي حقا للتهدئة والإصلاح بين الزوجين أم يشعل النيران أكثر؟

 

أسئلة طرحها الفيلم المصري "وش في وش" الذي بدأ عرضه في قاعات السينما في منتصف أغسطس/آب الماضي ليلفت إليه الأنظار ويتمكن من تحقيق إيرادات مرتفعة وضعته في صدارة الموسم السينمائي الحالي، في نجاح لافت نظرا لكونه التجربة الأولى لـ"وليد الحلفاوي" في الكتابة والثانية في الإخراج بعد تجربته الإخراجية الأولى في فيلم "علي بابا" عام 2018 والتي لم تتمكن من تحقيق نجاح مقارب.

 

ضيق المكان ورحابة الكوميديا

فيلم وش في وش
يستغل المخرج والمؤلف وليد الحلفاوي ضيق المساحة في التركيز على ديناميكيات العلاقات بين الشخصيات، لتصبح المحرك الأساسي للأحداث. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

"غياب القيود هو عدو الفن"

المخرج "أورسون ويلز"

في فيلم "وش في وش" اختار المخرج والمؤلف وليد الحلفاوي أن تدور الأحداث في مساحة زمنية ومكانية محدودة للغاية، وهو ما شكل تحديا كبيرا له. في حديث خاص لميدان، علق وليد الحلفاوي على هذه التفصيلة قائلا إن التصوير في مكان محدود وفي ليلة واحدة مع عدد محدود من الشخصيات شكّل تحديا كبيرا بالنسبة إليه، كي يتمكن من رواية القصة في هذه الظروف دون أن يشعر الجمهور بالملل، وأن يسيطر على استمرارية الأحداث في التتابع.

 

تُعرف الأفلام التي تُصور في مكان واحد مغلق بـ"Chamber Piece"، وهو المصطلح المشتق من مصطلح "موسيقى الحجرة"، ومن أوائل الأعمال التي اتبعت هذا الأسلوب الفيلم الفرنسي "The Rules of the Game" في أواخر الثلاثينيات، كما استكشفه أيضا "إنجمار برغمان" في عدد من أفلامه، أبرزها "The Silence" و"Winter Light" و"Through a Glass Darkly"، كما شهدت السينما العربية أيضا عددا من الأفلام الناجحة التي تنتمي إلى هذا الأسلوب، من أوائلها فيلم "بين السماء والأرض" للمخرج صلاح أبو سيف، وكذلك فيلم "طلق صناعي"، وفيلم "اشتباك"(1)(2).

 

في فيلم "وش في وش" ينشب شجار تقليدي بين الزوجين داليا (أمينة خليل) وشريف (محمد ممدوح)، شجار كان من الممكن أن ينتهي سريعا كغيره، لكن الصدفة وحدها تجعله يتطور ويكبر نتيجة تدخل أفراد العائلتين وأصدقائهما، ما يؤدي إلى اتساع مساحة الشجار الذي يصل بالزوجين إلى حافة الطلاق، ولسبب ما ينغلق باب الشقة على أبطال الفيلم ويصبح من المستحيل فتحه قبل حلول النهار، وهكذا يجد الجميع أنفسهم مضطرين أن يكونوا في مواجهة بعضهم بعضا وفي مواجهة أنفسهم أيضا دون مساحة للفرار لليلة كاملة.

 

يستغل المخرج والمؤلف وليد الحلفاوي ضيق المساحة في التركيز على ديناميكيات العلاقات بين الشخصيات، لتصبح المحرك الأساسي للأحداث، ويعتمد بشكل أساسي على الحوار الذي يكشف عن طبيعة كل شخصية، في قالب اجتماعي يميل للكوميديا، لكنها كوميدية نابعة بشكل أساسي من عفوية المواقف وغير مفتعلة.

 

الخروج من مأزق الخلاف

فيلم وش في وش
ما إن ينتهي التتر الفيلم القصير حتى نجد أنفسنا في قلب "المعمعة"، حيث الصراع على أشده بين الزوجين وأفراد عائلتيهما بالإضافة إلى الأصدقاء الذين يتوافدون واحدا تلو الآخر. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

الجمع بين التأليف والإخراج تجربة جديدة بالنسبة إلى المخرج وليد الحلفاوي، سألناه عنها في ميدان فعلق قائلا: كان الأمر مريحا لأغلب العاملين في الفيلم، حيث يصبح عليهم التواصل مع الشخص نفسه في التأليف والإخراج، ورغم كونها تجربة مرهقة فإنها ممتعة، حيث ساعدتني في تقديم الأفكار التي أرغب في مناقشتها بشكل أوضح، من العمل على إخراج نص لدي وجهة نظر تجاهه".

 

اختار الحلفاوي أن يضعنا في قلب الأحداث مباشرة، عقب مقدمة قصيرة لم تتجاوز تتر العمل، شاهدنا فيها رحلة ارتباط الزوجين، مرورا بمراحل الخطبة والزواج وإنجاب طفلهما عبر استعراض سريع لصورهما ومنشوراتهما على منصات التواصل الاجتماعي. وما إن ينتهي التتر القصير حتى نجد أنفسنا في قلب "المعمعة"، حيث الصراع على أشده بين الزوجين وأفراد عائلتيهما بالإضافة إلى الأصدقاء الذين يتوافدون واحدا تلو الآخر.

 

حين يُغلق الباب على الجميع، يعود بنا الحلفاوي للخلف بذكاء، عبر تقنية الفلاش باك، لنكتشف أنه لا أحد من هؤلاء الأشخاص يمكنه سماع الآخر، وأن الجميع، رغم وجودهم وجها لوجه أو "وش في وش" كما يخبرنا عنوان الفيلم، لا يسمع أيا منهم سوى صوته الخاص. يظهر ذلك بشكل حرفي حين يقدم كل من الزوجين وجهة نظره في "الشجار"، والذي يصوره المخرج عدة مرات، مع تغييرات بسيطة في زوايا التصوير وأداء الممثلين بحيث يسمح للمشاهد أن يرى الفارق بين رؤية كل طرف لما حدث.

 

سوء التفاهم أو غرق كل طرف في رؤيته الشخصية للعالم يظهر في عدة زوايا، سواء في العلاقات بين الأطراف المتصارعة، أو في الخط الخاص بصديق البطل، والذي يقوم بدوره "خالد كمال"، والذي يعاني من تشوه انطباع الآخرين عنه واختلافه عن حقيقته التي تتكشف ببطء خلال الليلة التي يقضيها الأبطال معا. وكذلك من خلال الخط السردي الخاص بالخادمة "دنيا سامي" والسائق "محمود الليثي" وانطباعاتهما عن مخدوميهما، وهو الخط الذي يستكشف رؤية الطبقات الفقيرة والمهمشة للطبقة فوق المتوسطة التي ينتمي إليها أغلب أبطال الفيلم في ظل وجودهم معا بدرجة من القرب المكاني والمعايشة التي تفرضها طبيعة عملهما داخل المنزل، وهو ما يولد عددا من المواقف الكوميدية.

الخادمة و السائق
الخادمة "دنيا سامي" والسائق "محمود الليثي" من فيلم "وش في وش". (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

شخصيات تقليدية وكوميديا عفوية

استخدم المخرج تقنية "freeze frame" أو "تثبيت إطار الصورة" عند تقديم كل شخصية، وهو ما أعطى إيحاء في البداية بأن حبكة الفيلم تعتمد بشكل أساسي على الشخصيات، لكنه لم يستغل ذلك فيما بعد، لتبدو بمثابة تقنية مهدرة، حيث لم يغص أكثر في تقديم ملامح مميزة للشخصيات على الشاشة، بل جاءت أغلب شخصيات العمل أقرب للأنماط الاجتماعية التي يمكن أن تقابلها في الحياة اليومية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي دون أبعاد إنسانية حادة. في بعض المشاهد حاول الفيلم استكشاف الدوافع النفسية للشخصيات، لكنه لم يفككها بعمق، بل مال إلى البساطة والخفة.

 

وعلى الرغم من وضع العلاقة بين البطلين داليا وشريف في بؤرة الضوء في البداية، فسرعان ما انشغل الفيلم بتقديم عدد من الخطوط والحبكات الفرعية الأخرى، والتي استكشفت علاقات الزواج طويلة الأمد، سواء بين والدي الزوج، وقام بدوريهما "سلوى محمد علي" و"بيومي فؤاد"، أو والدي الزوجة، "أنوشكا" و"سامي مغاوري". كما استكشف أيضا علاقات الصداقة من خلال علاقة الزوجة بصديقتها "أسماء جلال" أو علاقة الزوج بأصدقائه "خالد كمال" و"محمد شاهين" وشقيق الزوجة "أحمد خالد صالح"، بالإضافة إلى الدراما المستمدة من العلاقة الطبقية بين أفراد الأسرة والسائق والخادمة.

فيلم وش في وش
(مواقع التواصل)

براعة.. ولكن

قارن عدد من المشاهدين وكذلك النقاد الذين تناولوا الفيلم بالتحليل بين فيلم "وش في وش" ومسلسلَي "خلي بالك من زيزي" و"الهرشة السابعة"، وهما المسلسلان اللذان عُرضا في رمضان 2022 و2023 وحققا نجاحا جماهيريا. يعود ذلك بشكل كبير للتشابه في طاقم العمل، وتحديدا الأبطال "أمينة خليل" و"محمد ممدوح" و"محمد شاهين"، بالإضافة إلى انتماء كل منهم لدراما العلاقات، والتشابه النسبي في الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأبطال، وإن اختلف الفيلم في تناوله عن الأعمال المذكورة في ميله إلى الطابع الكوميدي.

 

يُحسب للمخرج براعته في اختيار الممثلين وتوجيههم، وقد أشار في حديثه لميدان إلى حرصه على أن تكون الكوميديا نابعة من سياق الموقف والحديث والسياق الاجتماعي اليومي الذي يرى أنه يحمل داخله ما يكفي من السخرية والكوميديا دون حاجة للافتعال. وهو ما نجح في تقديمه بالفعل، حيث تمكن أغلب الأبطال من التألق في أدوارهم، بخاصة الفنان بيومي فؤاد الذي أثبت من جديد تمكنه من تقديم أداء جاد بعيد عن الهزلية التي حصرته فيها بعض أدواره السابقة، ولم يَحُل ذلك بينه وبين اقتناص الضحكات في مشاهده بخفة ودون تصنع.

 

كما جاء ظهور النجمين الكبيرين "لطفي لبيب" و"خالد الصاوي" بوصفهما ضيوف شرف في دوري محاميي الأسرتين خاطفا للأنظار، وتمكّنا من إضفاء حس كوميدي لطيف وغير مفتعل على الرغم من عدم حضورهما الجسدي في موقع التصوير، حيث ظهر كلاهما عبر الشاشات في مكالمة فيديو امتدت لدقائق قليلة لكنها كانت كافية للغاية كي يثبتا كالعادة قوة حضورهما.

 

تمكن بقية الأبطال من أداء أدوارهم بشكل جيد، وإن ظلت "أمينة خليل" منحصرة في الدور نفسه تقريبا منذ عدة سنوات، فدورها هنا لا يختلف كثيرا عن الأدوار التي اعتادت تقديمها خلال السنوات الأخيرة. كما أن حضور الطفل الصغير الذي لعب دور الابن جاء باهتا للغاية، ولم يظهر سوى في مشاهد قليلة لا تتيح للمشاهد التعرف إليه، وهو ما أكد على أنه لا أحد ينتبه للصغير الذي يُفترض أن يكون محورا لحياة هذه الأسرة كما يرددون طوال الوقت.

 

توتر في مساحة ضيقة

فيلم وش في وش
لفت الفيلم الأنظار إلى تأثير مواقع التواصل على المشكلات الأسرية، فبعد أن تكتب أم الزوجة (أنوشكا) منشورا على منصات التواصل تشير فيه إلى المشكلة، يتدخل أصدقاء الطرفين على منصات التواصل وأفراد العائلة. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

من ناحية الصورة البصرية، يتضح بشكل عام وعي المخرج بأبعاد المكان وحدوده، حيث تمكن من ضبط إيقاع التنقل بين غرف المنزل المختلفة، واستخدامها بذكاء، ما أتاح له التنويع في زوايا الإضاءة والتصوير، واستغلالها كي يضفي نوعا من التنوع البصري، لكسر حالة الملل التي قد تنتج عن التصوير في مكان واحد. كما استغل وجود الشرفة الواسعة أو الروف الملحق بالشقة في التنويع بين الإضاءة الداخلية والخارجية، وظهرت كأنها مساحة للتنفيس عن توتر الأبطال.

 

كما تمكن من السيطرة على حركة الممثلين، خاصة خلال مشاهد الاحتكاك المتوترة التي تجمّع فيها أبطال العمل في مساحات ضيقة للغاية، وتمكن من التنويع في زوايا الكاميرا بشكل ساعده على استيعاب الصراع وإبرازه مع الحفاظ على مستوى التوتر البصري.

 

لفت الفيلم الأنظار إلى تأثير مواقع التواصل على المشكلات الأسرية، فبعد أن تكتب أم الزوجة (أنوشكا) منشورا على منصات التواصل تشير فيه إلى المشكلة، يتدخل أصدقاء الطرفين على منصات التواصل وأفراد العائلة، وهو ما يزيد الأزمة، وهو المشهد الذي استغله فريق الفيلم كدعاية ظريفة له، حيث كتب الفنان "محمد ممدوح" منشورا على صفحته الشخصية، ورد عليه بقية أبطال الفيلم فيما يحاكي نوعا من الجدال كوسيلة دعائية مبتكرة لفتت أنظار رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

 

مع الأسف جاءت نهاية الفيلم "كليشهية" بعض الشيء، وبدا أن هناك نوعا من التسرع في جمع خيوط النهاية، خاصة مع وجود بعض الإطالة والمشاهد التي كان من الممكن الاستغناء عنها للخروج بإيقاع مشدود أكثر من ذلك. لكن يظل فيلم "وش في وش" واحدا من أكثر التجارب السينمائية المبشرة، والتي تنبئ بعودة قوية لسينما الكوميديا في مصر.

——————————————————————————————-

المصادر:

1- Chamber Piece (Definition) – Wonderful Cinema.

2- The Art of the One-Location Screenplay – WriterDuet’s Blog.

المصدر : الجزيرة