شعار قسم ميدان

العراب (The Godfather).. هل أفسد كوبولا رائعته في النهاية؟

وردة حمراء مُستقرة في عروة سترة العراب "فيتو كورليوني" -يلعب دوره مارلون براندو- تحتل مركز الكادر (1)، ظِل مُتراخٍ منسدل على عينيه كناية عن الغموض، إضاءة برتقالية تبعث على الدفء. تلك هي أولى لقطات ثلاثية "العراب" للمخرج "فرانسيس كوبولا"، الأميركي ذي الأصول الإيطالية. الوردة هي إشارة إلى دفء قلب "فيتو"، وحبه للعائلة، ورؤيته الخاصة، لاحقا، في جنازته، يُلقي أفراد المافيا ورودا حمراء، دون إبداء أي انفعال يُذكَر، يذهب "فيتو" ويأخذ معه وروده، يحل ابنه مايكل مكانه غير مبالٍ بها، في إضاءة باردة تُثير الهدوء وتُعبِّر عن القسوة.

مارلون براندو في دور فيتو كورليوني

تدور قصة ثلاثية "العراب" (The godfather) حول عائلة كورليوني، أقوى عائلات المافيا الإيطالية في نيويورك، التي تُدير أعمالا إجرامية إلى جانب نوادي قمار وبغاء، يترأسها "فيتو كورليوني"، ولنفوذه وعلاقاته يلجأ إليه الناس لحمايتهم ومساعدتهم في حل مشكلاتهم. في وعكته الصحية، وعند انتقال السلطة إلى أبنائه، يجد الابن الأصغر "مايكل" -يلعب دوره آل باتشينو-، الذي كان ضابطا في البحرية الأميركية إبان الحرب العالمية الثانية، أنه مضطر للتراجع عن رفضه التورُّط في أعمال العائلة بعد حادث إطلاق النار على أبيه من أجل الثأر له، بعد سنوات يُقتل أخوه "سوني" (جيمس كان)، فيُكرِّر فعلته مع العائلات الأخرى التي ساهمت في اغتيال أخيه ويُصفِّي قادتها، بحلول الجزء الثالث نتيقَّن من أن "مايكل" قد خسر نفسه كليا.

تعاون "كوبولا" مع مصور الكاميرا "جوردون ويلز" الذي لُقِّب بأمير الظلام، لإخراج إضاءة بلغت أهميتها أنها تبوَّأت دورا سرديا في الحكاية. تنقُّلات ويلز بين الضوء والظلام بدت مخططة بعناية، وأصبح كل إطار صنعه لوحة فنية، وصل الأمر بأحد المعجبين إلى أن وضع كادرات من الجزأين الأولين للفيلم في مقارنة مع لوحات رسمها فنانون مؤثرون.

في واحدة منها يمكن أن نرى "أوبولينا"، زوجة مايكل الأولى، تشبه موناليزا ليوناردو دافنشي، بل إن أوبولينا فاقتها جمالا وحيوية، نرى كذلك "رامبرانت" فنان العتمة الهولندي في أحد بورتريهاته بجانب فيتو، ثم لوحة "رسالة الحب" لـ "يوهانسن فيرمير"، وهو رسام هولندي آخر، بجوار مايكل، وأخيرا نرى الفنان الإيطالي المتمرد "كارافاجيو" الذي حكم عليه البابا بالموت، كما فعل مايكل مع أحدهم (2).

من وجهة نظر بعض النقاد، فإن هذا الفيلم، بجزأيه الأول والثاني، يروي قصة الرأسمالية الأميركية، وهو ما أطلق عليه "كوبولا" نفسه اسم "الرأسمالية في أنقى صورها"، أما الصحفية جوناه وايز فقد وضعتهما بجانب مسلسل "بريكنغ باد" (Breaking Bad) قائلة إن العملَيْن يغذيان رغبتنا في سبر أغوار حياة الأشرار الذين أحببنا بعضهم (3). ألا يقترب "مايكل كورليوني" من "والتر وايت" في أننا شهدنا تحوُّل كليهما من شخص وديع إلى مجرم قاسٍ؟

بعد أن أنهى المخرج "فرانسيس كوبولا" فيلم "العراب" بجزأيه، ومدحهما المخرج الكبير "ستانلي كوبريك" بقوله إنهما "أعظم فيلم صُنع على الإطلاق"، عاد كوبولا بعد سنوات وقدَّم جزءا ثالثا، رغم إقراره في أحد اللقاءات أن الفيلم بجزأيه يمكن صهرهما في فيلم واحد، لأنهما قدَّما القصة كاملة.

لم يرغب "كوبولا" حقا بولادة فيلم ثالث من "العراب"، لكن أحواله المادية كانت قد تدهورت، وتناهى إلى سمعه أنباء عن توكيل مخرج جديد لصناعة جزء ثالث (4)، ومن ثم ألقت الشركة المنتجة "باراماونت بيكتشرز" بورقتها الأخيرة وهي إرسال سيناريو مكتوب للفيلم مُستعلِمين عن رأي "كوبولا" فيه، أثار ذلك حفيظته، فلم يجد بُدًّا من قبول عرض الشركة في النهاية وإخراج جزء جديد كان بمنزلة خاتمة للسلسلة.

نظرا للفارق الزمني بين الجزء الأخير وسابقَيْه (سبعة عشر عاما تقريبا)، فقد ترقَّبه الجمهور بتوقُّعات بلغت عنان السماء. ولكن عندما رأى الفيلم النور، بدا طفلا هزيلا لا يتمتع بقوة وبهاء توأميه، كذلك كان حظه عاثرا، ففيلم "الأصدقاء الطيبون" (Goodfellas) لـ "مارتن سكورسيزي" سبقه بالنزول بثلاثة أشهر فقط، وبالطبع لفت الانتباه، ما حمَّل "العراب" مزيدا من المقارنات السابقة.

على جانب آخر، صبَّ النقاد جام غضبهم على أداء ابنة كوبولا "صوفيا" في الفيلم، الذي كان بالنسبة لهم سطحيا ومضطربا وغير مُقنع، وبالتالي كان ضارا بشكل خطير لأنه كان ركيزة أساسية للقصة، وانتقدوه لاختيارها عوضا عن ممثلات لامعات (5)، عمر صوفيا لم يكن يتجاوز آنذاك 18 عاما مع خبرة تمثيلية ضئيلة، وكانت قد اختيرت بديلةً في اللحظة الأخيرة للعب الدور بعد انسحاب "وينونا رايدر" المفاجئ.

لم يشعر "كوبولا" نفسه بالرضى عن الجزء الأخير أبدا، لذا بعد ما يزيد على عشرين عاما (في 2020) عاد من جديد بنسخة مُعدَّلة من الجزء الثالث، تحدَّث عنها في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية قائلا: "في هذا الإصدار المُعدَّل للجزء الأخير، ألَّفتُ بداية ونهاية جديدتين، وأعدت ترتيب بعض المشاهد واللقطات والإشارات الموسيقية". وفيه استطاع أخيرا وضع العنوان الذي لم توافق عليه "باراماونت بيكتشرز" قبلا ألا وهو "الأب الروحي لماريو بوزو، كودا: موت مايكل كورليوني".

ولكن على الرغم من عدم الاحتفاء بالفيلم مثل سابقيه، فمن المثير أنه ترشَّح لسبع جوائز غولدن غلوب، وسبع جوائز أكاديمية، لتصبح "الأب الروحي" أول ثلاثية في التاريخ يُرشَّح كل فيلم من أفلامها لأفضل فيلم (6). يمكننا أن نتفهَّم هذه الإشارات المتناقضة في حالة نأينا بالفيلم عن المقارنة مع أجزائه الأولى، وتمعنّا فيه باعتباره ملحمة شكسبيرية عن بطل تراجيدي يحاول عبثا التطهُّر من أيام سالفة. إن "مايكل" لا يشبه "الملك لير" في المسرحية التي كتبها "ويليام شكسبير" فحسب، لكنه يحمل أيضا نقاط تشابه مع الأمير "هاديتورا" بطل فيلم "ران" للمخرج الياباني "أكيرا كوروساوا"، فكلاهما خرج من عباءة "الملك لير"، الملك الذي أعلن عن تقسيم مملكته على بناته الثلاث، ولم يلقَ مديحا منتظرا من فتاته الصغرى الأحب إلى قلبه، حيث تأبى نفاقه فينفيها، وبعد ذلك تنبذه ابنتاه الأخريان بعد اقتسام ثروته، ليجد نفسه في العراء ويتلبَّسه الجنون، ويجتمع بابنته الصغرى في النهاية، لكن حينما تُقتل فيموت حزنا عليها.

كوبولا في الجزء الثالث من (The Godfather)

منذ بداية الفيلم الثالث تطفو إرهاصات من الجزأين السابقين، يمكن أن ترى الزورق الذي قُتل فيه "فريدو" في نهاية الجزء الثاني، والشرفة التي وقف فيها مايكل يشاهد تنفيذ أمره باغتيال أخيه، وسياج البيت المُهمل الخاوي، وألعاب الأطفال التي يبدو وكأنها تنتمي لزمن بعيد، يقطع مايكل ذلك المشهد، وهو في خريف عمره، مخاطبا ولديه أنطونيو وماري كي يدعوهما لحضور مراسم تكريم البابوية له لأعماله الخيرية، بعدما تبرع بمبلغ 100 مليون دولار للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، يكتب لهما أنهما ثروته الحقيقية وأغلى ما يملك، وفي مشهد تأسيسي، يُنبئنا الانتقال من صورتهما المعلَّقة على الجدار إليهما في الواقع أنهما بطلان محوريان في هذه الحكاية.

كما فعل في الجزأين السابقين، يستهل "كوبولا" فيلمه باحتفال يليق بالحظوة التي منحتها الكنيسة لمايكل، التي يأمل من خلالها التكفير عن خطاياه أمام الملأ وتلميع اسم عائلته، لا ينطلي ذلك على "كاي" زوجته السابقة التي أتت لترجوه أن يدع ابنه يختار طريقه الخاص بعيدا عنه، يظهر بعدها "فينسيت"، ابن أخيه، و"زازا" عدوهم الجديد، ومثل الجزأين السابقين، تُكتشف خيانة تُحرِّك أحداث الفيلم.

يشبه المنحى الدرامي للتراجيديات المنحنى الجبلي، تتصاعد الأحداث حتى الذروة ويتعاظم البطل، يرتكب حماقة ويتمادى مُخترِقا كل الخطوط حتى لا تعود لإشارات التوقُّف أي وجود، ثم يُفوِّت كل فرص النجاة، عند هذه النقطة وقف "مايكل" في نهاية الجزء الثاني، وما بعد هذه النقطة ليس ثمة شيء سوى الانحدار، آنذاك فقط قد يُعرِب البطل عن ندمه رغم معرفته بعبثية إعلانه، ثم يتخلّى عن صراعه ومقاومته وعذابه وتحديه ويذهب نحو حتفه طواعية، بعد أن فقد كل شيء.

عندما اخترق الرصاص جسد "فيتو كورليوني" في الجزء الأول، وعندما صفع شرطي فاسد "مايكل"، سعى الأخير للثأر وحماية أبيه، مُتناسيا رغبته في الابتعاد عن أعمال العائلة، ارتكب جريمة قتل مُدبَّرة مُتخطيا الحد الذي يفصل بين عالم إنساني وآخر إجرامي. مع هذا لم يمضِ قُدُما في العالم الإجرامي وهرب إلى صقلية، تزوج أوبولينا التي وقع في حبها، لكن انفجار السيارة، الذي كان من المفترض أن يقتله، قتلها هي بدلا من ذلك.

هنا يتوقَّف بطلنا مؤقتا عن الهرب ويصبح الأب الروحي. هو ليس أبا روحيا بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ كأبيه، فهو لا يريد القوة والسلطة من أجل العائلة، وإنما من أجله هو. هكذا رأيناه في نهاية الجزء الثاني يتخطى الخطوط الحمراء ويذهب بعيدا في عالم الجريمة، حيث لا رجعة.

تلتهم الظلال وجه "مايكل" المضيء وروحه رويدا، كانعكاس لفقدانه براءته، ها هو ذا في الجزء الثالث يبدو وكأنه في بئر عميقة منفصلا عن ذاته، تحرسه ظلال الخسارات وصورة أخيه "فريدو" ماثلة أمام عينيه. يتطلَّع مجددا إلى الخروج من تلك البئر، يرقص مع ابنته "ماري" كما رقص أبوه من قبل، ويضع ثروته أمام الفاتيكان، يضرب كيانه الصراع بين الغفران والانتقام والمحبة والخوف والفداء والفساد الناخر في جميع قطاعات المجتمع، بما في ذلك الكنيسة الكاثوليكية.

سيناريو "كوبولا" والروائي "ماريو بوزو"، الذي كتب رواية "الأب الروحي" بداية، كان نقلا عن حادثة حقيقية هزَّت الفاتيكان في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات إثر وفاة بابا الكنيسة الكاثوليكية جون بول الأول بعد 33 يوما فقط من توليه منصبه، وفضائح بنك الفاتيكان، وظهور جثة مصرفي عمل هناك وعُثر عليه مُعلَّقا على جسر لندن. يعرض الفيلم مسؤولي الفاتيكان الفاسدين والكرادلة المرتشين (7) (8).

ربما اعتقد "مايكل" أنه كلما ارتقى اجتماعيا لأعلى اقتربت روحه من السمو وزالت عن اسمه كل شبهة وشائبة، لكن ما حدث أنه كلما ارتفع لأعلى راعه حجم الفساد، لذا عوضا عن الوصول إلى روحه يجد نفسه مدفوعا في بئر عالم الجريمة من جديد، يرافق إدراكه لهذا مشهد به شحنة غضب وانهيار وصراخ في العاصفة على ضوء البرق وأصوات الرعد، إنه مشهد مطابق من مسرحية "الملك لير"، حيث ينهار الملك متألِّما ولاعنا الشرور. يسقط كلاهما مغشيا عليه في النهاية، حيث يرقد "مايكل" في المشفى غائبا عن الوعى في غيبوبة سكر.

بعد ذلك، وفي صقلية، حيث ابتدأ كل شيء، يستقبل مايكل "كاي"، تلتقط ابنتهما "ماري" العديد من الصور لهما وهي تسير إلى الوراء نحو صندوق سيارة خلفي مفتوح، في مشهد يبدو وكأنها تسير ببطء تجاه تابوتها. يُقرأ المشهد في اللغة السينمائية بوصفه إحساسا غير مكشوف بما هو قادم (9).

يُقِر مايكل بندمه لـ "كاي"، لأنه فقدها وابتعد عن ولديهما، يتبادلان اعترافا أن حبهما لا يزال قائما، لكن يقاطعهما خبر مقتل صديقه، فينفعل أحد رجاله قائلا: "الدم يستدعي الدم"، هنا يلتمس من مايكل إذنا من أجل الانتقام (10) (11)، وتتيقَّن كاي باستحالة انفصاله عن عالم الجريمة. أثبتت غواية الشر أنها تفوق جاذبية الخير، لهذا يعود إليه "مايكل" كما تنجذب الفراشة إلى الضوء.

يكمن جوهر المأساة في حقيقة أن الخطايا التي تُلطِّخ روحه لا فكاك منها، يجاهر للمرة الأولى للكاردينال "لامبرتو" بخطاياه ويسترسل في البكاء، تتباعد الكاميرا عنه حتى تستقر في زاوية تغطيها الزهور تعطي إيحاء مقدسا، إنها اللحظة التي يُقرِّر فيها "مايكل" الاعتراف رغم أنه لن يتوب على أية حال، يشكو خداع الفاتيكان له ومماطلتهم في الصفقة التي عقدها معهم، ومدى فسادهم، فيسحب الكاردينال حجرا من النافورة ويقول: "انظر إلى هذا الحجر، لقد ظل في الماء لفترة طويلة جدا لكن الماء لم يخترقه"، يكسر الكاردينال الحجر ويظهر أنه جاف من الداخل، يتابع: "لقد حدث الشيء نفسه مع الرجال في أوروبا. لقرون كانوا محاطين بالمسيحية، ولكن الإيمان والمسيح لم يحيَ بداخلهم".

مثلما أحب الملك لير ابنته "كورديليا" وأراد منحها مملكته، كانت هذه أيضا رغبة "مايكل" لابنته ماري، وإن أصبح مُمزَّقا بينها وبين ابن أخيه "فينسينت"، الذي يرى موت أعدائه إجابة عن كل سؤال، يخشى مايكل على ماري الهادئة الساذجة من أن تكون ضحية، فهي تحب فينسينت وقد يُستغل ذلك للضغط عليه من قِبَل الأعداء، كما حدث من قبل مع مايكل. تصل الأحداث إلى ذروة النهاية بتنازل مايكل لـ "فينسنت" عن منصب الأب الروحي شريطة التخلي عن ابنته ماري، أما مايكل فينتظر الموت الوشيك الذي يُدبَّر له من قِبَل أعدائه.

ذكر "كوبولا" في أحد اللقاءات أن ثيمات الأب الروحي مُجسَّدة في أوبرا ظهرت بالفيلم قرب النهاية، وهي أوبرا "بيترو ماسكاني" المعنونة بـ "شرف الريف"، بعض المشاهد على المسرح بالفعل تماثل مشاهد في الفيلم (12). "مايكل" وعائلته جلوس يشاهدون، منتظرين غناء أنطونيو، على خشبة المسرح، نرى كيف تطارد ظلال العنف الفضيلة، نبصر أشخاصا تمكَّن منهم اللون الأسود -الذي قد يكون كناية عن الشر- يعتلون جمجمة ويحملون صليبا مغطى بتمثيل للمسيح، صورة الصلب هي رمز المعاناة الذي يدفعهم إلى الفرار.

إنها استعارات عما مرَّ به مايكل، بمعنى أوضح: لكي تُستجاب صلواته يجب أن يتحمَّل التعرُّض لشتى صنوف التوتر والمعاناة (13). في هذه الأوبرا، يُوجِّه "ماسكاني" دفة موسيقاه إلى مواضيع شائعة في القرن التاسع عشر في إيطاليا، كالشرف والولاء والخيانة والانتقام، ويُضيف كوبولا إليها ثيمة الحنين إلى الماضي، الذكريات في مدينتَيْ نيويورك وصقلية.

صورة من نهاية الأوبرا لرجل أُعدم شنقا استنادا إلى مقتل روبرتو كالفي (رجل أعمال إيطالي) الذي كان ضلعا في إحدى فضائح الفاتيكان.

يخرج "مايكل" من الأوبرا، تسأله ابنته: "أبي، لماذا تفعل هذا بي؟"، يجيب مايكل: "أفعل ماذا؟". يُطلق القاتل المأجور النار من بندقيته مرتين قاصدا مايكل، هنا ينتقل كوبولا إلى لقطة أوسع. يتنفس مايكل الصعداء لنجاته، لكن عالمه يتحطم عندما يُبصر الرصاصة التي كان من المُقدَّر لها أن تُصيبه وقد أصابت ابنته (14). بعد عدة عقود من العنف البارد في محاولة عبثية لجعل اسم عائلته شرعيا، أُجبر مايكل على دفع ثمن خطاياه بأكثر الطرق إيلاما. على درجات دار الأوبرا في صقلية، تُضفي صرخة مايكل الصامتة لمسة شكسبيرية شرعية على هذه الملحمة.

يرى بعض النقاد أن مشهد مقتل ماري هو أحد أسوأ المشاهد التي صُوِّرت على الإطلاق، نظرا لأداء "صوفيا كوبولا" الخالي من الحياة، فهي تنظر بخواء قائلة: "أبي؟"، قبل أن تسقط أرضا. لكن آل باتشينو أنقذ اللحظة بقوة أدائه، فقد جسَّد ببراعة صورة رجل مُمزَّق بين أحلامه وشعوره بالذنب. في لقطة مُقرَّبة، يغطي آل باتشينو وجهه بيديه، بينما تُشير الساعة التي يلبسها في يده اليسرى إلى أنه لم يكن هناك وقت كافٍ على الإطلاق لإنقاذها.

كما أسلفنا الذكر، يلتقي فيلم "ران" مع الجزء الثالث من فيلم "العراب" في أن كليهما تأثَّر بملحمة شكسبير "الملك لير"، خلال عشر سنوات رسم المخرج الياباني أكيرا كوروساوا لوحات هذا الفيلم قبل كتابة السيناريو، لذا فقد عكست كادرات الفيلم رسالة لوحاته ومراد مخرجه.

الأمير "هاديتورا" في فيلم "ران" مُصمِّم على تقسيم مملكته بين أولاده الثلاثة، وكما يليق بمسرحية شكسبيرية، يُعلن الابن الأصغر كما فعلت كورديليا في مسرحية "الملك لير" عن عدم رضاه عن ذلك الفعل، وهو ما يكشف بُعد بصيرته، إذ يخون الابنان بعضهما بعضا قبل أن يقتل أحدهما الآخر، ويهجران أباهما ويتركانه مجذوبا في العراء، يواجه حقيقة أن مملكته قامت على سفك الدماء والدمار، تماما مثل مايكل. تملَّك حب السلطة من البطلين، فارتكبا خطايا لم يَسلم منها المقربون منهما، وعند اقتراب نهايتهما شعرا بالندم، ولكنهما دفعا الثمن بموت الابن المحبب إلى قلبهما.

على وقع الموسيقى التصويرية الرائعة، مُحتضِنا ابنته ماري التي قُتلت توا، يتعمَّق مايكل في ماضيه، رقصة الفالس التي أدَّاها مع ثلاث نساء في حياته: "ماري" في مراسمه البابوية، و"أبولونيا" خلال حفل زفافه الأول، و"كاي" خلال زواجهما. لقد أحبهن كلهن، وبكاهن وعاش يتلمس ذكرياته معهن بعد فقدهن، تتلاشى الرقصات، في صورة مقرَّبة لرجل عجوز يرتدي نظارات سوداء، وبجانبه عكاز وكلب ويبدو مستغرقا في جحيمه الخاص.

عندما بكى "مايكل" سابقا على جثة ماري بدا أشبه بالملك "لير" في حداده على "كورديليا"، "لير" الذي همس قائلا: "تحطَّم، يا قلبي، أنا أتحطم"، بل وعاش يتضرَّع أن يموت ليلحق بابنته إلى أن استُجيبت صلواته ومات حزنا، كما مات الأمير "هيديتورا" بعدما قُتل ابنه "سابورو"، بعد وقت قصير من لقائهما من جديد، وكما مات "مايكل" وحيدا في النهاية.

حسنا، لعلنا نكون محقين إذا قلنا إن الجزء الثالث من "العراب" قد لا يُضاهي في قوته وحبكته الجزأين السابقين، حال وُضع في مقارنة معهما، لكن لا شك أنه بمفرده، وفي جوانب عديدة منه، يستحق الكثير من الإشادة.

________________________________________________________________________

المصادر:

  1. oranges – The Godfather: Anatomy of a Film
  2. The Godfather Explained: Cinematography of Shadows
  3. The Most Important Line in ‘The Godfather’
  4. Francis Ford Coppola Finally Gets to Release His Version of The Godfather Part III
  5. Why The Godfather Part III has been unfairly demonised
  6. In Defense Of “The Godfather Part III” | by Christopher Pierznik | The Passion of Christopher Pierznik
  7. The Godfather, Part III movie review (1990)
  8. VATICAN STORY LINE HAS REAL-LIFE BASIS
  9. https://www.youtube.com/watch?v=MSriozJ8R4Q
  10. The Godfather Part III: From the Stage to the Streets
  11. https://www.mspcinephiles.org/criticism/2018/3/30/the-godfather-part-iii-the-body-cries-out
  12. Opera Meets Film: ‘The Godfather: Part III’s’ Operatic Structure As Reflected Through ‘Cavalleria Rusticana’
  13. The Godfather: An opera you can’t refuse
  14. In Defense Of “The Godfather Part III”
المصدر : الجزيرة