شعار قسم ميدان

كابوس الانفصال العاطفي في السينما.. أو كل ما تريد أن تعرفه عن الجحيم!

ميدان - كابوس الانفصال العاطفي في السينما.. أو كل ما تريد أن تعرفه عن الجحيم!
اضغط للاستماع

  

التقى "نيتشه" للمرة الأولى مع "لو سالومي" أسفل كاتدرائية "سانت بيير" بروما، استهل لقاءه معها بعبارته الشهيرة: "من أي نجم سقط كلٌّ منا على الآخر؟". (1) وقع نيتشه على الفور فى هوى الشقراء الروسية -تلك التي يصف فرويد فيما بعد نظرتها المحملة بالوعود بأنها تشبه نظرة بابا نويل- لدرجة أنه عرض عليها الزواج بعد هذا اللقاء.

 

لكن "لو" ترفض عرض نيتشه، هذا الرفض سيتكرر لأكثر من مرة فيما بعد، ولنا أن نتخيل أثر ذلك الرفض العاطفي لرجل له كبرياء وحساسية نيتشه. حمل جرحه معه بعيدا عن العالم، صار أكثر انعزالا ووحدة من ذي قبل، وفي عمق عزلته الباردة راح يتحدث مع أشباح لا يراها غيره. من حطام هذا الحب وُلِد كتابه الأهم "هكذا تحدث زرادشت"، وتحت ثقل الوحدة بات عقله أكثر اضطرابا، في يوليو/تموز 1888 كتب إلى صديقته القديمة "مافلدا" وقبل شهر واحد من التدهور الوشيك لحالته العقلية:

"يتمثّل جرحي في عدم سماع أي إجابة منها، وأنني أتحمل الآن منفردا في وحدة مرعبة الحمل الذي طالما أردنا مشاركته معا".

   

في رعب وحدته، راح نيتشه يتخيل فاتنته الشقراء كمصاصة دماء تنحني على جرحه المفتوح لتشرب منه. يتخيّل الكاتب والطبيب النفسي "إرفين يالوم" في روايته "عندما بكى نيتشه" ماذا جرى لنيتشه في تلك الفترة من حياته التي تلت قصة حبه المحبطة مع لو سالومي. نشاهد في النسخة السينمائية من هذه الرواية فيلسوف "إرادة القوة" على حافة الانتحار جريحا ومكتئبا.

   

لو سالومي lou andreas-salomé (مواقع التواصل)
لو سالومي lou andreas-salomé (مواقع التواصل)

    

في عيادة الطبيب جوزيف بروير بفيينا نجد نيتشه حذرا للغاية في الكشف عن جرحه الخاص، حتى يحتال عليه الطبيب بلعبة يتبادلان فيها الأدوار، في مقابل أن يُخلّصه تماما من أرقه وآلام رأسه المزمنة (وهي كل الآلام التي أفصح عنها نيتشه منكرا تماما ألمه العاطفي)، سيساعد نيتشه الطبيب بروير في الشفاء من عذابات الحب التي لحقت به جراء قصة حبه لمريضة سابقة. وفي مرآة قصة الحب المدمرة للطبيب ومريضته يواجه نيتشه حكاية حبه الضائع وهوسه بسالومي. يتحدث نيتشه عن بروير وكأنما يتحدث عن نفسه:

"إنه ذكي لكنه أعمى، صادق لكنه تائه. يستحوذ عليه حب امرأة خلّفته مزقا، بينما هو يلعق أنيابها المليئة بدمائه".

  

لم يكن نيتشه استثناء فيما شعر به بعد رفض سالومي له، بل ذلك هو القانون السائد بين الكائنات. تكتب هيلين فيشر في كتابها "لماذا نحب":

"الحب الضائع! تقريبا كل إنسان على هذه الأرض عرف وجع الرفض الرومانتيكي عند لحظة ما من حياته".

   

قُرب نهاية فيلم البولندي "كريستوف كيشلوفسكي" "فيلم قصير عن الحب" (A Short Film About Love)، يُقرِّر الفتى توميك أن يُنهي حياته لأن المرأة التي أحبَّها لم تعد تؤمن بالحب، الحب بالنسبة لها شيء لا يبعد كثيرا عن رعشة الجنس العابرة، وهو الذي كان يضبط إيقاع عالمه على مواقيتها.  

      

مشهد من فيلم البولندي
مشهد من فيلم البولندي "كريستوف كيشلوفسكي" "فيلم قصير عن الحب" (A Short Film About Love) (مواقع التواصل الاجتماعي)

    

وفي تحفة الأميركي نيكولاس راي "في مكان منعزل" (In a Lonely Place)، يشرع بطله ديكس ستيل/همفري بوجارت في قتل محبوبته لوريل/جلوريا جراهام في واحدة من نوبات غضبه وعدوانيته، لأنه أدرك رغبتها في هجره. لماذا ينتحر المنبوذون في الحب، كيف يسقطون فريسة لليأس أو الجنون، أو تصيبهم نوبات من الغضب والكراهية غير المبررة -تصل أحيانا إلى القتل- تجاه شخص كانوا يُكنّون له قبل قليل كل المحبة التي في العالم؟

    

فيلم
فيلم "في مكان منعزل" (in a lonely place) (مواقع التواصل)

    

تفترض هيلين فيشر في كتابها سالف الذكر(2) أن الدوائر الكهربية المسؤولة عن عاطفة الحب الرومانتيكي متصلة على نحو معقّد داخل المخ البشري بتلك الدوائر المسؤولة عن الكراهية/الغضب. وربما يساعد هذا الافتراض في تفسير شيوع ما يُسمى بجرائم الحب مثل المطاردة والقتل والانتحار حينما يتمزق ذلك الرباط بينهما، فينحرف الحب ويستطيع المخ آنذاك أن يحوّل قوة الحب الجبارة إلى حالة من الغضب والهياج.

   

دراما الانفصال العاطفي الأولى

"تتشابه الخيبات في الحب لأنها تأتي من الصدع نفسه"

(رولان بارت، شذرات من خطاب العشق)

  

أين يكمن هذا الصدع الذي يقصده بارت، من أين يبدأ الجرح؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود إلى فرويد. كان فرويد دائما ما يرد الجرح الإنساني إلى زمن الطفولة الأول، هناك حيث بدأ كل شيء. كان يرى أن دراما ما بعد الانفصال العاطفي عمن نحب هي إعادة إنتاج للدراما الأولى في حياة كل إنسان، دراما الطفل المهجور من أمه، حيث يستعيد المهجور في الحب تلك الكوابيس التي يبدو فيها وجه الأم باردا وقاسيا.

  

ومن أجل مزيد من تفاصيل هذه الدراما سنلجأ إلى ميلاني كلاين في كتابها "الحب والكراهية"، حيث تذهب أبعد من فرويد في توضيح هذه الدراما البدئية. حين تبتعد الأم لأي سبب كان عن طفلها، يبدأ الطفل في البكاء والصراخ، يصير عدوانيا فجأة، فالأم التي تُمثِّل كل عالمه، ومصدر الأمان واللذة والإشباع، لم تعد موجودة، ينفجر كرها أمام هذه الأم السيئة، فيجرب الطفل للمرة الأولى مشاعر الألم والتمزق والعذاب، تتكرر هذه المشاعر في كل مرة يختفي فيها وجه الأم، وهي نفسها المشاعر التي يستدعيها المنبوذ في الحب، يستدعيها عموما في تجارب الفقد اللاحقة.

  

  undefined

  

إن فكرة وجود علاقة حب موضوعية مع آخر حقيقي تكاد تكون مستحيلة، فدائما الآخر في كل علاقة هو إسقاط للصورة المرغوبة بداخلنا، أو يكون مشوها بفعل إدراكاتنا المتحيزة أو حيلنا الدفاعية. في هذه الدراما العشقية لا يكون الحبيب الذي يهدد بهجرنا كائنا حقيقيا، بل يكون شبحا يعود مما وراء الزمن، من طفولتنا الأولى حين جرّبنا الفقد للمرة الأولى ومرارة الهجر وانطبع الجرح على أرواحنا الطرية للأبد. أي احتمال لهجر المحبوب هو تلويح بالموت وبالرعب، إذ يهددنا بالحرمان من مصدر الحياة والأمان واللذة.

  

هذه الكلمات التي يرددها ديكس ستيل كسطور من سيناريو الفيلم الذي يكتبه والتي تعكس علاقته بمحبوبته لوريل تعكس هذا المعنى:

"لقد ولدت يوم أن قبلتني، ومت يوم أن هجرتني".

   

ما نجربه هنا أشبه بالجحيم أو السقوط من الجنة، حيث يستعيد الطفل فينا وجه الأم السيئة. ما تحاول أن تقوله هذه الافتراضات النظرية التي تحاول تفسير آلام الرفض الرومانتيكي إننا كبشر ربما مُصمَّمون منذ البداية لهذه المعاناة حين نفشل في الحب.

  

تراجيديا الحب بين الضياع والجنون 
فيلم
فيلم "باريس تكساس" (مواقع التواصل)

  

حين سُئل المخرج الألماني فيم فيندرز عن سبب اختياره للممثل دين هاري ستانتون لأداء شخصية ترافيس، وهي الشخصية الرئيسية في فيلمه "باريس تكساس"، أجاب فيندرز أن هاري يمتلك بداخله روحا طفولية وبراءة لم يعد يراها إلا نادرا لدى الممثلين. هذه الطفولية هي مفتاح رئيسي لفهم أداء هاري وطبيعة شخصية ترافيس.

    

في سينما " فيندرز" تبدو الأماكن دائما خريطة لروح أبطاله. قبل أن نلتقي ترافيس لأول مرة، تستعرض كاميرا "روبي مولر" صحراء شاسعة وموحشة قبل أن نُبصر ترافيس مقبلا من قلب الصحراء وكأنه آت من لا مكان. ندرك على الفور من نظرات عينيه ومن المكان الموحش الذي يحيط به أي ضياع يضرب في أعماقه، إنه غريب حتى داخل جلده الخاص، لا ينتمي إلى أي شيء أو مكان. المكان الوحيد الذي يشعر بالانتماء إليه هو أول كلمة ينطق بها بعد صمت دام لنصف ساعة من زمن الفيلم؛ باريس.

     

باريس تيكساس حيث أخبرته أمه يوما أنها مارست الحب هناك لأول مرة مع والده، رغبته في العودة لهذا المكان حيث بدأ كل شيء، هي في عرف التحليل النفسي رغبة في العودة لرحم الأم والتي تعادل الرغبة في الموت أو الميلاد من جديد، إنها سعي للمكان الوحيد الآمن في وسط عالم كل ما فيه مهدّد. لقد هام علي وجهه في صحراء تكساس لأربعة أعوام دون أن يعثر عليها. لكن ماذا جرى في حياته السابقة ليصل إلى نقطة اللا عودة هذه؟

  

لدى ترافيس تعلُّق طفولي بالأشياء، في طريق العودة إلى لوس أنجلوس مع أخيه يصر على الرجوع بالسيارة نفسها التي استقلّاها سابقا، لا يرغب في الطيران لأنه سيبتعد عن الأرض، وكأنه يخشي أن يضيع تماما، أو ينفصل الحبل السري الذي يربطه بأمه الأرض. هذه الطفولية التي تحكم سلوك ترافيس بعد عودته هي نكوص طفولي أحدثته صدمة الفقد، يبدو كما لو كان طفلا يتعلم الكلمات ومعاني الأشياء من جديد، إنه مجرد ظل أو شبح للرجل الذي كانه يوما.

    undefined

  

كل ما نعرفه أن زوجته هجرته مع ابنه وأنه هام بعدها على وجهه في الصحراء، يُبقي الفيلم ما حدث غامضا حتى اللحظات الأخيرة، حيث نتعرف عبر مشهد البوح الذي يجمعه بزوجته السابقة على طبيعة العلاقة بينهما التي يمكن أن تُحدث مثل هذا الدمار الذي لحق بطرفيها. ما يحكيه ترافيس عن علاقته بزوجته جين/ناستازيا كينسكي يكشف عن نوع استحواذي من الحب أشبه بتعلق الطفل بأمه، إنه يتوقف عن الذهاب إلى عمله كي لا يبتعد عنها، وحين تكشف له عن حلم الهرب المتكرر الذي يباغتها في نومها يقوم بربط جرس في كاحلها كي يسمع خطواتها إذا ابتعدت. علاقة بمثل هذه الطبيعة عليها أن تنتهي مثل هذه النهاية التراجيدية.

  

بعد لقائه من جديد بزوجته يدرك أنه لم يتعافَ أبدا مما حدث، لكنه يُقرِّر أن يلمّ شمل الطفل وأمه محاولا ترميم الصدع بينهما والذي أحدثه انفصال الوالدين، بينما ينطلق هو نحو المجهول مثلما رأيناه أول مرة وكأن كل هدف عودته هو إعادة الطفل إلى أمه، إلى حيث ينتمي.

  

"أنا أرتجف حبا، لا يمكن لك أن تتخلي عني، أنا لست أنا من دونك، من الصعب عليّ أن أُبقي أمرنا سرا، لا تكن متفاجئا إذا رأيتني في الطريق وأنا أهذي بحبي لك".

    

كتبت آديل/إيزابيل أدجاني هذه الكلمات لحبيبها الذي يُمعن في رفض حبها. وزّعت كل عبارة في رسالة صغيرة وكأنها تقتسم روحها الممزقة على هذه الرسائل ثم أودعتها في ثيابه بعد أن تسللت إلى مسكنه. آديل هي "آديل هوجو" ابنة أديب فرنسا الكبير "فيكتور هوجو" والتي بنى المخرج الفرنسي "فرانسوا تروفو" فيلمه المعنون "حكاية آديل ه" (The Story of Adèle H) على مذكراتها الشخصية.

    

مشهد من فيلم
مشهد من فيلم "حكاية آديل ه" (the story of adèle h) (مواقع التواصل)

   

رغم الأصل الواقعي للحكاية الفيلمية فإن آديل تنتمي تماما لسينما تروفو، إنها كأغلب أبطاله واقعة تحت استحواذ ما هو بالنسبة لآديل حبها للضابط الإنجليزي الذي تبعته من العالم القديم/أوروبا إلى العالم الجديد/كندا. تبقى آديل وحيدة من البداية إلى النهاية، كل مفرداتها وما تفعله مرتبط باستحواذها، تفعل كل ما تستطيعه من أجل استعادة هذا الحب، تخوض معركتها الخاسرة بكل الحماس الذي في العالم حتى ينتهي بها الحال وقد فقدت عقلها تماما.

  

ألوان تروفو باردة ومطفأة كروح آديل المهجورة وحيدة في حب مستحيل. لا يميل تروفو في أفلامه إلى السيكولوجي، بل يبقى دائما على السطح تاركا شخصياته مغلفة بغموضها. لكن هنا لدينا مدخل لنفسية آديل يساعد كثيرا في اصطياد الأشباح التي تحرك هذا الاستحواذ الذي يهيمن على حياتها. هذا المدخل نجده ممثلا في الكابوس المتكرر الذي يلاحقها وفي كتاباتها الهذيانية والتي تفصح كثيرا عن مكنونها.

  

ينتابها في منامها كابوس الغرق. لآديل أخت كبرى ماتت غرقا كانت تُدعى ليوبولدين، كانت محبوبة الأسرة في حياتها ومماتها، بينما كانت هي الطفلة المهجورة التي تعيش في ظل الأخت. هذا الحلم المتكرر لا يكشف عن خوف آديل من الغرق، بل تمنيها له. إنها ترغب لو كانت هي ليوبولدين المحبوبة حتى إذا كان مصيرها الغرق. تحكي لربة النزل الذي تقيم فيه حكاية أختها، يمكننا أن ندرك نظرات الغبطة في عينيها وهي تخبرها أن والدهما كاد يجن حزنا لفقد ليوبولدين، تخبرها آديل أنت لا تعرفين كم أنت محظوظة كونك طفلة وحيدة.

 

في مشهد تالٍ يسألها طفل في المصرف عن اسمها، تقول له "ليوبولدين". الشبح الآخر الحاضر في علاقتها بالضابط الإنجليزي هو شبح الأب، الأب الذي فضّل الأخت عليها، الأب الذي يُبقي الفيلم وجوده شبحيا، فلا نراه أبدا إلا من خلال رسائله. الأب العظيم الذي تختنق آديل تحت ظله. في هذيانها تكتب آديل أنها تنكر رفض القانون الفرنسي لانتحال الشخصية وأنها ترغب أن تعيش تحت اسم آخر كما لو أنها وُلدت من أب مجهول تماما.

   undefined

   

الدراما بين آديل والضابط الإنجليزي هي أقرب لما يسميه فرويد إجبار التكرار، آديل الطفلة المهجورة تعيد من جديد حكايتها مع رجل آخر يبدو من البداية أنه يرفضها، ولكنها مجبرة على تكرار حكايتها من جديد مع الأب من خلال الضابط ربما تحقق نهاية سعيدة لحكايتها. التراجيدي في هذا التكرار أنه يفضي دائما إلى نغس النهاية.

 

حين يموت الحلم ويصحو الكابوس

 كيف ينتهي حب ما؟ متى ينتهي حلم البدايات لنغوص في المياه الباردة لكابوس الانفصال العاطفي؟ في فيلم مايك نيكولز "حرقة قلب" (Heartburn) المبني على سيناريو نورا إيفرون الذي أعدّته عن روايتها التي تحمل الاسم نفسه عن وقائع انفصالها عن زوجها الأول، تجلس ريتشيل/ميريل ستريب وزوجها/جاك نيكلسون في عشاء عائلي مع بعض الأصدقاء، وقد علمت صباح هذه الليلة بخيانة زوجها مع امرأة أخرى كانت سببا في انفصالهما لبعض الوقت. تبدأ صديقتها بالحديث عن انفصال أحد الأصدقاء المشتركين عن زوجته بعد زواج طويل من أجل سكرتيرته الخاصة، ثم تبدأ في التساؤل عن كيف يتغير الشريك وكيف تعجز شريكته في العلاقة عن كشف هذا التغير، تبدأ ريتشيل في الحديث: "حين تحب شخصا ما فإنك لا ترى شيئا، فقد قررت أن تحبه وأن تثق به، في الحياة اليومية لزواجك ستلاحظ قليلا أن شيئا تغير ولكنك لن تعيره انتباهك، وحين تتضح الأمور في النهاية لن تبدو كما لو كنت لم تعرف شيئا ولكن كما لو كنت في مكان آخر".

  

ترد الصديقة: "تعنين كما لو كنت تعيشين حلما ما؟". تكمل ريتشل: "نعم، ثم يموت الحلم، يتكسر الحلم إلى مليون قطعة صغيرة، وهو ما يتركك أمام خيارين؛ إما أن تبقى إلى جوار حلمك الميت، وهو أمر غير محتمل، وإما أن تمضي بعيدا وتحلم حلما آخر". تترك ريتشيل زوجها علي العشاء في بيت أصدقائه وترحل عنه إلى الأبد. يستعرض نيكولز في فيلمه على التوالي عبر السرد بداية حلم الحب بين ريتشيل ومارك ثم كابوس الانفصال بينهما.

    

في "عيد الحب الحزين" (Blue Valentine) يغزل المخرج "ديريك سينافرانس" الحلم والكابوس معا في سرد شديد الإتقان، حيث يدور السرد عبر خطين زمنيين؛ أحدهما ماضي العلاقة وبداية الحب، وثانيهما بعد 6 سنوات من هذه البداية حيث نشهد نهاية هذا الحلم. حين كان ديريك طفلا كان لديه كابوسان؛ الحرب النووية، وانفصال والديه. وهو ما سيتحقق لاحقا على أية حال، ومن ساعتها يرغب ديريك في صنع فيلم عن حكاية والديه، استغرق الأمر 12عاما قبل أن يحقق رغبته، كتب خلالها 66 مسودة، ومن النسخة 66 من الحكاية صنع ديريك شريطه السينمائي البديع.

    undefined

     undefined

   

undefined

    

undefined

  

  براح الكادرات والبهجة التي تشع بها في بداية العلاقة وضيق وقتامة الكادرات عند نهاية العلاقة

  

واحدة من أهم نقاط قوة هذا الفيلم وتفرّده هو السرد الذي يمزج بين الحاضر والماضي في تتابع ذكي للغاية. يبدأ السرد في الحاضر من نقطة يمكن اعتبارها بداية النهاية، حيث يهرب كلب العائلة المحبوب من بيته. اللحظة التي يقرر فيها السارد العودة للماضي، حيث بداية العلاقة تأتي بعد دفن الكلب، إذ تعثر الأم على جثته. لكي يخلق المخرج تمايزا بين الماضي والحاضر في تتابعهما فإنه يخص كل خط زمني بتكنيك إخراجي يلائم طبيعة المرحلة ونفسية شخصياته خلالها.

    

يُصوَّر الماضي بكاميرا محمولة باليد تعكس حركتها الحرة حماس واندفاع البدايات، يميل ديريك في هذه المرحلة نحو لقطات طويلة زمنيا دون قطع يمنح ممثليه الحرية والتلقائية في الأداء أمام الكاميرا، أيضا يميل إلى لقطات ذات أحجام واسعة وعمق مجال واضح.(3) بينما يُصوَّر الحاضر بكاميرا ثابتة ولقطات أقصر زمنيا، حتى في اللقطات القريبة لا يحرك الكاميرا بل يستخدم عدسة الزوم، وهو ما يعكس الإرهاق الذي أصاب هذه العلاقة وكأنها توقفت تماما أو أُصيبت بالشلل. يميل أيضا لكادرات ذات عمق مجال غير واضح، أي تضبيب المحيط، أو عمق الصورة مع وضوح مقدمة الكادر فقط، وهو ما يعزز من حالة الكلوستروفوبيا (*) التي تخلقها كادرات هذه المرحلة الضيقة، أو كأن هذه العلاقة باتت بلا أي أفق. يصل ديريك عبر سرده إلى ذروتين متتابعتين، ذروة الحاضر وهو قرار الانفصال، وذروة الماضي هو مشهد زواجهما. يبدأ الفيلم بطفلتهما وقد فقدت كلبها، وينتهي بها وقد فقدت والدها بانفصاله عن والدتها.

    

الانفصال العاطفي في مملكة الرعب

undefined

   

يُعَدُّ فيلم الرعب واحدا من الأنواع الفيلمية القادرة بكفاءة على تجسيد كابوس الانفصال العاطفي والذهاب به نحو مداه الأقصى. يشغل فيلم الرعب دائما مشاهديه بما يحدث على السطح، بحلى الرعب التقليدية التي تجذب انتباه المشاهدين بينما ما يريد الفيلم أن يقوله يكون دائما بعيدا عن هذا السطح. في أحدث أفلام المخرج آري آستر لدينا كابوس ساطع الألوان، كابوس في وضح النهار. ولكي نصل إلى جوهر فيلم الرعب علينا أن نتتبع نصيحة سلافوي جيجيك الذي يرى أن علينا لقراءة فيلم الرعب أن نجرّده من كل عناصر الرعب.

 

إذا جرّدنا فيلم آستر من عناصر الرعب، فماذا سيتبقّى لنا؟ ستبقى لدينا حكاية بطلته داني/فلورنس بوج التي تتعرض في بداية الفيلم لفقدان مأساوي لعائلتها، ثم علاقتها بصديقها الذي نراه منذ بداية الفيلم راغبا في الانفصال، فكل مَن حوله يرى أن علاقته بها غير مناسبة، لكن بعد فقد عائلتها يبقى إلى جانبها على الأقل بدافع الإحساس بالذنب.

  

نتعرف خلال مسار الفيلم على طبيعة العلاقة بين داني وصديقها، إنها مرعوبة من فقده، خاصة بعد أن فقدت عائلتها، ولذلك فهي تتقبل عدم اهتمامه بها، بل تعتذر حتى عن أخطائه. تذهب داني مع صديقها ومجموعة من أصدقائه إلى قرية في الريف السويدي تُقيم بها طائفة دينية ذات تقاليد غريبة تمارس احتفالا دينيا خاصة بها لا يتكرر إلا كل 90 عاما. منذ انتقالهما إلى هذا المكان يبدأ آري آستر في نصب شباك كابوسه حول بطلته.

  

لدينا إذن حادث فقد مأساوي يفتتح الفيلم، وعلاقة عاطفية تتأرجح على حافة انهيارها، وهما ما يُشكِّلان تيار الدراما الحقيقي الذي يُغذّي السطح المرعب بالمخاوف التي يُجسّدها. لأن مخاوفنا بلا جسد تسعى أفلام الرعب إلى تجسيدها وتضخيمها على الشاشة، ما تهرب منه البطلة في الواقع تواجهه بشكل صادم ومرعب داخل الكابوس المعد لها، فكل الطقوس المرعبة والدموية التي يحتشد بها الفيلم ما هي إلا انعكاس مضخم لصدمة فقدها لعائلتها وعلاقتها العاطفية بصديقها.

    

  

مشهد النهاية الصادم لا يمكن قراءته إلا كمجاز عن تخلص داني من علاقتها السامة بصديقها، وكل ما يربطها به، فالمشهد بكل محتواه المخيف يُمثِّل لحظة تحرُّر لها، وهذه الابتسامة التي تتسلل إلى وجهها في هذه اللحظة لا تعكس أي سادية، بل تعكس إحساسا بالتحرر والتجاوز. (4) إذا كان الوقوع في الحب يشبه فردوسا ما، فإن الانفصال العاطفي بين حبيبين يشبه السقوط منه، أو كما تقول إميلي ديكينسون: "الفراق هو كل ما تريد أن تعرفه عن الجحيم".

—————————————————————–

هامش:

* الكلوستروفوبيا:‏ هو الخوف الناتج عن وجود الشخص في مكان ضيق أو مغلق، وهو يعتبر أحد الأمراض الناجمة عن القلق وعادة يتسبب في حدوث نوبات ذعر.

المصدر : الجزيرة