شعار قسم ميدان

ما الذي يريده هاري؟.. تأملات في معنى الفراغ

ميدان - ما الذي يريده هاري؟.. تأملات في معنى الفراغ

ليس فيلم "قهوة صينية" (Chinese Coffee) فيلما شهيرا بأي حال، الفيلم مقتبس عن مسرحية بالاسم نفسه للكاتبة إيرا لويس (Ira Lewis) وقام ببطولتها، كما الفيلم، آل باتشينو (Al Pacino)، وهو فيلم حواري يخلو تقريبا من الأحداث ويدور بالكامل في شقة جيك مانهايم الذي يُمثِّل دوره الفنان جيري أورباك (jerry Orbach)، حيث يزوره صديقه هاري لافين (harry Lavine) الذي يُمثِّله باتشينو في جرينتش فيليدج (Greenwich village) عام 1982.

  

ذهب هاري إلى جيك مباشرة بعد أن فُصِل من عمله المؤقت ليُطالبه بمال كان قد أقرضه إياه من قبل، لكن حوارهما يكشف تدريجيا عن شخصيهما، فكلاهما فنّانان متعثّران ماديا في منتصف الأربعينيات ولم يصيبا نصيبا من نجاح، لا يزال هاري يحاول مع فن الرواية، بينما مارس جيك الكتابة لفترة قصيرة ثم انتقل إلى التصوير، وكان هاري قد أنهى مسودة رواية أعارها لجيك طالبا رأيه. يكشف الحوار بينهما عن جوانب مختلفة من شخصيتيهما ومحاولتهما النجاح، وكيف يرى كلٌّ منهما لِمَ لم يصبه حتى الآن؟ ليُفرِغا الكثير من الكبت في حوار تتصاعد نبراته وتهبط في إيقاع مسرحي آسر.

  

يرسم الحوار شخصيتين ثريتين مركبتين وعلاقة صداقة وإعجاب تشوبها الغيرة والحسد، ويمكننا أن نلحظ نمطا من التفكير يُمثِّل تفضيلا نفسيا لكلٍّ منهما، فكلاهما مبدع، لكن هاري لافين يميل إلى الحس ويُثير انتباهه الكيف ولا يُعير انتباها كبيرا للنهاية كمحرك له، على النقيض من جيك الذي يميل إلى الحدس ويُحرِّكه السبب والوجهة، وللأسف الشديد فمحاولة الإفلات من فتنة تحليل الفيلم من وجهة نظر نفسية تتطلب مجهودا جسيما، حيث يُثير انتباهنا كلمة "space" عندما قال هاري: "تريد أن تعلم كيف أريد أن أعيش في كلمة واحدة؟ حسنا، "space"، أريد "space""، وسنعود لاحقا لترجمة كلمة "Space"، لكن ما يهم الإشارة إليه الآن هو أن هذه الكلمة ربما تكون أهم كلمة في الخطاب المعماري على الإطلاق، أو الخطاب المعماري الحديث على الأقل.

  

 undefined

    

أين يعيش هاري وجيك؟

يسكن هاري وجيك في جرينتش فيليدج (Greenwich village)، وهي حي في قلب منهاتن في نيويورك، ويُمثِّل اختيار الموقع أهمية خاصة، حيث أصبحت جرينتش فيليدج ملتقى للكُتّاب والفنانين والمثقفين والطلاب والمتمردين منذ العام 1910، وتقع فيها بعض المقاهي التي اشتهرت بذهاب الكُتّاب والمثقفين إليها للقاء أو الكتابة، لكنّ حدثا محوريا بدأ مع بداية الثمانينيات، وهنا تأتي أهمية اختيار العام 1982 لأحداث الفيلم، حيث بدأت في الثمانينيات مجموعة عمليات تُعرف باسم الـ "Gentrification" والتي يمكن ترجمتها إلى "الارتقاء الطبقى العمراني" [1].

  

وهي عملية يحدث فيها مجموعة من الإجراءات العمرانية مثل ترميمات البيوت القديمة وإعادة تصميم واجهات المباني مع تركيز شديد على واجهات المحلات واستجلاب شركات ورجال أعمال لبدء مشروعات تجارية مما يؤدي إلى رفع القيمة العقارية للمنطقة، وهكذا تصبح المنطقة الوجهة المفضلة الجديدة للأثرياء [2]، هكذا يحدث ارتقاء بالحالة العمرانية للمنطقة بطريقة تؤدي إلى إحلال ساكني المنطقة بسكان جُدد من طبقة اقتصادية أعلى، ومن ثم تُمثِّل هذه الفترة ضغطا نفسيا وماديا كبيرا على قاطني المنطقة ومنهم هاري بالطبع، وهو الذي يرغب في النجاح في مجال الرواية لكن لا يستطيع ذهاب المذهب التجاري حيث يركز على الدعاية وكتابة الأعمال التي تجد شعبية كبيرة بسهولة كما نصحه جيك قائلا: "أنت تعتقد أن الكاتب عليه أن يكتب فقط، لكن هذه سذاجة! الدور الرئيسي للكاتب هو الدعاية"، وهي الجملة التي يقابلها هاري بضحكه يشوبها الحزن.

    

ماذا الذي يريده هاري؟

"هاري: لا أستطيع أن أعيش هكذا ليوم آخر، بل للحظة أخرى دون اضطرار!

جيك: كيف تريد أن تعيش؟ في كلمة واحدة.

هاري: في كلمة واحدة! "space"! أريد "space"! إن الغرفة هي السبب!

جيك: كل مكان هو غرفة.

هاري: لا، لا، لم تفهمني، إنها لم تعد مجرد غرفة بالنسبة لي، لقد أصبحت اضطهادا!".

  

   undefined

    

يُلخِّص هاري ما يريده في كلمة "space"، وهي كلمة مركزية ومفهوم محوري في الخطاب المعماري كما ذكرت سابقا، وعادة ما تُترجَم إلى "فراغ"، فيقال فراغ المعيشة على سبيل المثال، لكن الترجمة الأكثر توفيقا والأقرب للدقة لوصف ما يرغب هاري في التعبير عنه في هذا السياق ستكون كلمة "سعة"، وإذا لاحظنا أن السؤال المُوجَّه لهاري استخدم أداة "كيف"، فسنُرجِّح بسهولة استخدام كلمة "سعة"، حيث الحياة في سعة هي وصف مناسب لكيفية الحياة، لكن هذا يتركنا مع مشكلة اختلاط وتشابك الدلالات لكلمة "space"، وهو ما يدفعنا إلى محاولة تحليل وفهم الكلمة بشكل أعمق من خلال حديث هاري وجيك، أو بشكل مباشر كيف يمكن فهم الفراغ بوصفه كيفية؟

  

على الرغم من أن أصل كلمة "space" ليس معلوما بدقة فإنه يمكننا تتبُّعها في الإنجليزية حتى القرن الثالث العشر، حيث نجد أنها انتقلت من الفرنسية "espace" منحدرة عن "spatium" في اللاتينية بمعنى غرفة أو مساحة أو مسافة بين نقطتين أو أكثر. فكلمة "space" لغويا في الغرب لها دلالة ذات حدود واضحة محددة تُشير إلى حيز محدد بغض النظر عن خصائصه أو محتوياته، إلى أن أضفى عليها تراكم الخبرات المعمارية كمًّا من الخصائص التي جعلتها مفهوما شديد التركيب. هذا المفهوم الغربي يبدو متوافقا مع وجهة نظر جيك عندما علّق على رد هاري قائلا: "إن كل شيء هو غرفة"، فهو يرى أنه إذا توفرت منطقة محددة باستخدام مجموعة من الحوائط فقد أصبحت غرفة، هكذا فضَّل جيك فهم الدلالة المحددة المباشرة لكلمة "space".

  

لكن هاري لم يوافق على هذا المفهوم البسيط المباشر، وأشار إلى ما ترمز إليه وما تُشعِره به قائلا: "لا، لا، لم تفهمني، إنها لم تعد غرفة بالنسبة لي، لقد أصبحت اضطهادا"، وهو مدخل مختلف لفهم الفراغ الذي يعيش فيه، ربما يمكننا فهمه إذا تتبّعنا هاري إلى مكانه المفضل بحثا عن الإلهام وهو الحي الصيني، يقول جيك إن الصينيين يعيشون "في فقر مدقع، بل إن عدم إصابتهم بالاكتئاب في هذه الظروف يُصيبني شخصيا بالاكتئاب"، لكن هاري يرد قائلا: "لديهم أمل، إنهم يلهمونني، أشعر تجاههم بالإعجاب". فإذا نظرنا إلى هذا الجانب من الكرة الأرضية، لا نجد مقابلا مباشرا لكلمة "space" في لغات الشرق الأقصى القديمة كاليابانية والصينية [3]، بل نجد دائما عدة كلمات مختلفة تُشير إلى خصائص متنوعة متعلقة بالفراغ كترتيب الأشياء والعلاقات فيما بينها إلخ، حيث تُترجِم الصينية كلمة "Space" إلى تعبير يعني حرفيا "السماء والأرض"، بينما في اليابانية نجد عدة كلمات مختلفة تُشير إحداها إلى العلاقات بين مجموعة الأشياء المترابطة ببعضها وتُشير الأخرى إلى المنطقة البينية بين نظامين مختلفين إلخ، هكذا يمكننا فهم التصور الشرقي الأقصى بوصفه حيزا غير محدد، فلا يوجد "فراغ" بشكل ثابت إنما هو منظور شخصي دائم التغير والتحول بحسب خصائص المكان.

  

  

بين هذا وذاك، يرى المعماري جاك هيرزوج (Jacques Herzog) أن المسلمين هم مَن اخترعوا مفهوم الفراغ، كما يراه المعماريون، في تصميمهم للمساجد، حيث يبدو مبنى المسجد، أهم مبنى في المدينة الإسلامية تاريخيا، وكأنما يُناقض وجوده، ففي واقع الأمر يحتاج مبنى المسجد إلى تحديد موقعه فقط ولا يتطلب بناء مبنى بالمعنى المادي، وعلى سبيل المثال، في حال وجود عدد من المصلين أكبر مما يحتمله فراغ المسجد فإنه يمتد إلى خارج حدوده المادية دون الاحتياج إلى أي امتداد مبنيّ ليشمل كل المصلين خارجه، وكأن وجوده كمبنى محدد غير ذي أهمية.

  

ما يضعنا في موقع حرج عند ترجمة كلمة "space"، حيث تُترجَم عادة إلى "فراغ" في السياق المعماري، لكن ربما يكون استخدام كلمة "فضاء" أكثر دقة، حيث تُشير كلمة "فراغ" إلى انتفاء وجود شيء ما في حيز ما، بينما تُشير فضاء إلى الحيز ذاته مسبغة عليه سمة الاتساع سواء فرغ من أشياء أو لم يفرغ، بالإضافة إلى أن الجذر "ف – ض – ا" يتطابق في حروفه مع "ف – ا – ض" دون ترتيبهم، فمن سمات الفضاء في العربية أنه يفيض أي يتسع، هكذا يبدو لنا في العربية أن الفضاء هو فكرة ديناميكية، أي إنها تُمثِّل حيزا ثابتا متسعا لكنه يتسم بالقدرة على أن يفيض، وعلى الرغم مما قد يبدو من أن هذا التدقيق اللغوي غير مهم، فإنه ضروري لفهم العناصر التي تُكوِّن وتُؤثِّر على الفضاء المعماري، وبصيغة أخرى؛ ما الذي يجعل من شقة جيري اضطهادا؟ وما شكل المكان الذي يصبو للعيش فيه؟

  

كيف يعيش هاري وجيك؟

"جوانا، الفكرة نفسها، عاشت معي أكثر من ست سنوات، لكنها عندما تركتني، صعدت للأعلى، إنها تعيش في "penthouse".

لا أعني أن أخطِّئ من فعلها، إنها شخص جيد، بل وأكثر من ذلك، هي حب حياتي، لكنها لم تتركني لتذهب إلى قبو آخر".

    

      

تدور أحداث الفيلم، أو بالأحرى حدث الفيلم، في شقة جيك، وهي شقة صغيرة في الدور الرابع من مبنى سكني، وتتكوّن الشقة من فضاء واحد يشمل مطبخا مفتوحا ومنطقة المعيشة أو الصالة، ولا يوجد إشارة إلى وجود غرفة نوم منفصلة أم أنه يستخدم فراغ المعيشة للنوم مستخدما أريكة متحولة كما هو الحال في شقة هاري التي تقع في الدور تحت الأرضي.

  

هكذا يبدو لنا لأول وهلة أن جيك يعيش في حال أفضل من هاري، حيث عادة ما يرتبط الارتفاع بالمكانة، كما يقول هاري: "لم يعد معي سوى دولار ونصف، فلا يمكنني العودة للمنزل بهذه البساطة، فشرعت في السير تجاه أعلى المدينة (uptown).. على الأقل كنت متجها للأعلى"، وبشكل أكثر بساطة، لا يمكن تصوُّر أن الحياة في قبو تدل على علو المكانة بأي حال. هكذا يُشير هاري إلى ترك صديقته له ثم ارتباطها بشخص آخر بأنها لم تكن تبحث عن الثراء، فهي شخص جيد، لكنها على الرغم من ذلك لم تتركه لترتبط بشخص يسكن قبوا آخر، بل إلى "penthouse"، وهو بيت يقع في أعلى دور من المبنى ويتميز بوجود حديقة صغيرة ملحقة، وعادة ما يكون أكثر اتساعا من شقق المبنى ذاته وأغلى سعرا.

  

     undefined

   

"هاري: لِمَ أشعر بأن الغرفة خانقة؟

جيك: لا يمكن أن تكون خانقة.

هاري: لا، أشعر بثقلٍ في الجو، إنه كثيف هنا.

جيك: إذن، افتح نافذة.

هاري: سوف أفتح نافذة بالطبع.. هذا جنون، كيف تحشر نفسك في هذا المكان.. ماذا تحتاج لفتح هذه النافذة؟

جيك: إلى ما يتجاوز النيّات الحسنة. إنها مثبتة غير قابلة للفتح".

     

يُضاف إلى ذلك عنصر الاتساع الذي يسهل إدراكه بشكل مباشر عند التفكير في فضاء جيد، ونراه في شكوى هاري من اضطراره لأن يفتح أريكته المتحولة إلى سرير كي يستطيع النوم ثم يغلقها مرة أخرى  عدة مرات في ليلة واحدة حيث يرغب في الخروج والعودة، لكن الاتساع المادي غير كافٍ، حيث تظهر لنا القدرة على أن يفيض الفضاء عن حدوده المادية بوصفها خاصية مركزية، حتى وإن كانت غير واضحة بشكل مباشر، هكذا نرى هاري حال دخوله إلى شقة جيك يُعلِّق على شعوره تجاه الشقة بأنها خانقة، لنكتشف أن النافذة الوحيدة في هذه الشقة مثبتة وغير قابلة للفتح.

  

تبدو دلالة هذا المشهد لأول وهلة مباشرة، حيث إن غلق النافذة يؤدي إلى عدم تجدُّد الهواء داخل الشقة، لكننا نرى أن هناك متسعا كبيرا للتأمل في هذا المشهد البسيط، حيث قال هاري أثناء محاولته لفتح النافذة: "هذا جنون، كيف تحشر نفسك في هذا المكان!"، على الرغم من أن شقة جيك أكثر اتساعا وسقفها أكثر ارتفاعا وبصفة عامة أفضل حالا من قبو هاري بمنتهى الوضوح.

    undefined

  

لكن عدم القدرة على الاتصال مع الخارج من خلال النافذة جعل فضاء المنزل يبدو ضيقا محدودا! هكذا نلاحظ فارقا مهما بين موقع الآلة الكاتبة التي يستخدمها كلٌّ منهما، حيث يجلس هاري ليكتب أمام النافذة مباشرة حيث يدخل الضوء ويحدث الاتصال مع ما هو خارج حدود شقته، فيكتسب فضاء منزله امتدادا يقع خارجه، على العكس من جيك الذي يضعها في مواجهة حائط مصمت! وهي مقارنة مهمة في الفيلم، حيث يملك كلاهما أداة الكتابة، وكلاهما موهوب مما يعني أن لديهما القدرة على النجاح، هكذا وبينما يُلقي جيك اللوم على صديقته السابقة لفشله في أن يصبح كاتبا ناجحا يواجهه هاري قائلا: "ها هي الآلة الكاتبة، لِمَ لا تكتب؟ لا يتطلب الأمر أكثر من تشغيلها!"، حينها يظهر لنا الفارق بين موقع الآلة الكاتبة في الحالتين كعامل مؤثر على تجربة الكتابة لكليهما، وربما على حياتهما.

   

هكذا وعلى الرغم مما قد يبدو من أن خلق فضاء معماري جيد أمر يتعلق بمجموعة من الأبعاد الهندسية المباشرة، فإن الأمر يتعدى ذلك إلى عدد كبير من العناصر التي تُؤثِّر تأثيرا كبيرا في شعور الساكن لهذا الفراغ، كما قالت صديقة هاري متجاهلة ضيق مساحة غرفته: "هاري، أعتقد أنك مُقدَّر لك أن تعيش بقية حياتك هكذا، في غرفة لا يدخلها ضوء الشمس". إن عناصر أساسية كاتساع المساحة وارتفاع السقف ليست كافية وحدها لخلق فضاء معماري جيد، بل يجب أن تتكامل مع عناصر أخرى مثل وجود النوافذ وموقعها وحجمها وتوفُّر الإضاءة الطبيعية والهواء المتجدِّد وبشكل رئيسي المرونة، أي قدرة الفضاء على الاتساع أو الانكماش حال الاحتياج، وإن كان اتساعا رمزيا من خلال نافذة تُوفِّر تواصلا مع الخارج، هذه العناصر البسيطة تظهر لأول وهلة كعناصر هامشية، لكنها في واقع الأمر جزء من عدد كبير من العناصر التي تُساهم في تشكيل فضاء أفضل يساعد ساكنه على حياة أفضل، وربما تُوفِّر دعما نفسيا عند الحاجة.

المصدر : الجزيرة