شعار قسم ميدان

فيلم "Leave No Trace".. كيف يمكن للعزلة أن تُصلح ما يُفسده المجتمع؟

ميدان - "Leave No Trace".. كيف يمكن للعزلة أن تُصلح ما يُفسده المجتمع؟

"لم أُصادف في حياتي صديقا صدوقا مخلصا لي كعُزلتي".

(هنري ديفيد ثورو)

   

منذ اشتعال أزمة "كوفيد-19" ولا يشغل الملايين حول العالم هذه الأسابيع سوى الكيفية التي يمكنهم بها قتل الوقت في سبيل الالتزام بالحجر المنزلي المفروض في دول عدة حتى مرور الأزمة أو اكتشاف علاج للفيروس القاتل في بعض الحالات، وفي حين تنشغل المنظومات الصحية عالميا بالتوعية بسُبل الوقاية وبمحاولات اكتشاف الترياق المناسب، يدور التساؤل الأهم في الأوساط الاجتماعية حول مدى تأثير العزلة الطوعية أو الإجبارية على حيوات أكثر من مليار شخص يعيشونها الآن؟ وما إذا كانت هذه العزلة ستُعيد تحديد الطريقة التي سيتكيّف بها البعض مع أسلوب جديد للحياة قد يستمر بعض الوقت؟ ففي النهاية لا أحد يعرف متى قد يُكتشف علاج الفيروس أو ينحصر من تلقاء نفسه، ولا ما إذا كانت الحياة ستعود فعلا كما كانت من قبله أم لا.

  

أجابت ديبرا جرانيك، صانعة الأفلام الأميركية، عن جزء من هذه التساؤلات عام 2018 عندما أخرجت للعالم فيلم الدراما "لا تترك أثرا" (Leave No Trace)، والمأخوذ عن قصة حقيقية لأب وجندي أميركي سابق قرّر بعد عودته من الحرب أن يرحل هو وابنته ذات الثلاثة عشر ربيعا إلى غابات بورتلاند بولاية أوريغون؛ مُتخليا طواعية عن حياة مستقرة -روتينية- في المدينة وبين أقرانه العائدين من الحرب حيث برامج العلاج الجماعي للمصابين مثله بواحد من أكثر الأمراض النفسية شهرة: اضطراب ما بعد الصدمة المعروف اختصارا باسم "بي تي إس دي" (PTSD). 

   

الحياة على الهامش

تختار جرانيك مرحلة محددة من حياة بطليها، ودون الخوض في تفاصيل الماضي، سواء ما يتعلق منها بالأم الغائبة عن صورة العائلة الصغيرة، أو بالحرب التي خاضها الأب ويل (وقام بدوره بن فوستر) ويُرى أثرها جليا في تدريباته للابنة توم (توماسين ماكينزي) على الهرب والتخفي من زائري الحديقة من الغرباء أو عناصر الشرطة، وكذلك في أسلوب الحياة المتقشف، بداية من الادّخار في الوقود وليس انتهاء بالتجوال في الغابة لاصطياد طعام من نباتاتها والتقاط المياه من أمطارها والندى على أوراق الأشجار. 

    

   

لا يُمانع الأب من أخذ ابنته لزيارة المدينة بين حين وآخر، لكنها زيارات قصيرة وسرية يحرص خلالها على إخفاء طريق الوصول إلى مخيّمه بالغابة بينما يذهبان سيرا على الأقدام إلى المدينة للتزود بالطعام والوقود والأدوية النفسية التي لا يتناولها، بل يبيعها بحثا عن قليل من النقود الذي يؤمّن احتياجاته، وفي حين تبدو بضعة خلافات حاضرة بين الأب وابنته، وتتمحور حول الطريقة الصعبة لحياة لم تخترها الفتاة، فإن هذا لن ينفي انتماءها للغابة واعتبارها إياها بيتها حينما ستسوء الأمور وتعثر الشرطة على المخبأ السري للعائلة. 

  

تظهر قدرة توم على التأقلم سريعا مع التغيرات الحادثة بعد الإمساك بهم، وعلى عكس ويل، لا تجد مشكلة في الإجابة عن أسئلة موظفي الخدمات الاجتماعية حول طريقة وأسلوب حياتها، وما إذا كان نومها مع والدها في خيمة واحدة يُسبب لها مشكلة ما أو ما إذا كان أحد قد لمس جسدها بدون إذنها من قبل؟ فليس ثمة لَبْس لديها في أن والدها قد وفّر لها احتياجاتها ومكانا للعيش فيه، وأن "وجود فردين في خيمة واحدة يجعلها أكثر دفئا في الليل" كما تقول في إحدى لقطات الفيلم. 

  

تقول "أليسا ويلكنسون" الناقدة السينمائية ومحررة موقع فوكس (Vox): "يكشف فيلم "لا تترك أثرا" الرسوم الاقتصادية والعقلية للعيش خارج النظام، فهو يحكي معاناة بعض الأميركيين في جمع دولارات معدودة لتيسير حياتهم التي يرفض العالم الذي يحيون فيه أن يكون جزءا منها ومن صراعهم، وبالتالي يضطر هؤلاء للجوء إلى مجتمعاتهم الخاصة طلبا للمساعدة، ولخلق شبكة الأمان الخاصة بهم". (1) 

    undefined

   

لجأ ويل إلى هذه الشبكات الخاصة مرات عدة عندما كان يبيع أدويته مقابل المال، ومرة أخرى سيحتاج إليها بعد أن يهرب وابنته من الملجأ الذي وفّرته له الشؤون الاجتماعية للعيش والعمل، فهو سيطلب المساعدة من سائق شاحنة على الطريق لينقله إلى مكان آخر حيث يعرف أن أحدا لن يبحث عنه فيه، وبينما يبدأ وتوم حياة جديدة في غابة أخرى مجهولة، ستضطر توم لطلب المساعدة من سكان الغابة الجديدة عندما يُصاب والدها ويفقد وعيه لمدة طويلة دون أن تعرف كيف تعالجه. 

 

"يعيش أبطال "لا تترك أثرا" وجودا راديكاليا"، هكذا يصفهم (2) "بيتر برادشو" محرر الغارديان، فهم وإن كانوا يديرون ظهرهم للحياة التقليدية فإنهم "يدركون ما هو على المحك"، وفي حين فضّل أبطال الفيلم العيش على الهامش والانفصال عن المجتمع في صورته الكبرى، فإن هذه التجربة لم تكن ولن تكون الأخيرة لأناس قرّروا بإرادتهم الخروج عن الحياة التقليدية، سواء هربا من ماضٍ مؤلم -كالحرب في حالة ويل- أو رغبة في التأمل والانفصال بعض الوقت عن ازدحام الحياة وتسارع وتيرتها، بل إن الفيلم سيفتح سبيلا للنقاش حول ما إذا كانت العزلة -اضطرارية كانت أم اختيارية- هي إحدى الوسائل القادرة ليس فقط على منح الأفراد وقتا للتأمل والسكينة، بل وطريقا للإبداع والتميز، وربما الانتشار والعالمية في بعض الأوقات. 

  

الخروج عن النسق

"لقد ذهبت إلى الغابة لأني رغبت في العيش بتأنٍّ".

(هنري ديفيد ثورو)

   undefined

   

يمكن رؤية الأثر الإيجابي للعزلة الاختيارية في حياة المؤلف والشاعر والفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو الذي عاش بأميركا منتصف القرن التاسع عشر، ويُعتَبر الآن واحدا من ألمع نجوم الكلاسيكيات الأميركية بسبب كتابه الشهير "والدن، الحياة في الغابة"، وفيه لخّص تجربة امتدت لعامين عاشهما معتزلا الحياة التقليدية في أراضي وغابات والدن التي امتلكها صديقه ومرشده "رالف والدو إمرسون". 

  

لم تكن حياة ثورو سيئة ماديا في فترة عاصرت الحرب الأميركية المكسيكية ودعوات تحرير الرق والعصيان المدني التي تبنّاها منذ أن نُشر مقاله الشهير "العصيان المدني" أو "مقاومة الحكومة المدنية" للمرة الأولى عام 1849، لكنه مع ذلك اختار عزلته الخاصة، فبنى كابينته بيديه على أرض والدن، وزرع محيطها بالطعام ليأكل، بينما كان يكتفي بأقل القليل من الاحتياجات التي "ستُصبح معها أكواب الشاي أو القهوة مُتعا تُشعره بالدونية (3) كلما استجاب لغوايتها" كما سيروي فيما بعد. وفي حين أن ثورو لم يكن عائدا من حرب تركت أثرها النفسي عليه كما حدث لويل في "لا تترك أثرا"، فإنه اتخذ من عزلته مناصرا في معركته ضد زحف الثورة الصناعية، وضد عالم يقوم على "التقدم التنافسي" كما سمّاه، ومنها دعا لتبنّي "الحرية الراديكالية" باعتبارها ترياقا لحياة "اليأس الهادئ" التي أصبح يحياها الإنسان. 

  

قدّم ثورو نموذجا للكيفية التي يمكن أن يحيا بها إنسان على القليل؛ مستعينا على ذلك بتحكيم قيود المجتمع ومتمرّدا على السياسات الحكومية التي رفض الانصياع لها. واستطاع خلال هذا، وبتجربة رواها مفصّلة في كتابه "والدن"، إثبات مقولته إن المال ليس مطلوبا لشراء ضرورة واحدة من احتياجات الروح، وإن معظم الكماليات، أو ما يُطلق عليها "وسائل الراحة" في الحياة، ليست فقط غير ضرورية، بل وتُعَدُّ وسيلة إعاقة لرُقي الجنس البشري. 

    

هنري ديفيد ثورو (مواقع التواصل الاجتماعي)
هنري ديفيد ثورو (مواقع التواصل الاجتماعي)

   

تاليا لذلك، وفي ستينيات القرن الماضي، التحقت الشاعرة الكوبية دولسي ماريا ليوناز بركب ثورو في طريق العزلة، ومباشرة بعد قيام الثورة الكوبية بزعامة فيدال كاسترو عام 1959، واتهامها (4) بموالاة النظام المخلوع بزعامة فولغينسيو باتيستا، ستُقرِّر ليوناز البقاء في منزلها بالعاصمة هافانا دون أن تغادره إلا مرات محدودة، وبعد أن صُودِرت العديد من كتبها من قِبل النظام الثوري الجديد، سينسى العالم ليوناز في عزلتها لأكثر من ثلاثة عقود قبل أن يُعلن فوزها بجائزة سرفانتس الإسبانية للآداب عام 1992 وهي في التسعينيات من عمرها. وكما ألهمت أعمال ثورو التي أنتجتها العزلة قادة ومؤثرين عالميين، وعلى رأسهم المهاتما غاندي، فستُلهم أعمال ليوناز وعزلتها فنانين وأدباء مثل الروائية جايمي أتنبرغ لتكتب (5) "كل هذا يمكن أن يكون ملكك" التي أصقلتها -كما تقول- قصائد ليوناز مؤسِّسة لفهمها للوحدة والعزلة وللفرق بينهما. 

  

العائدون من الموت

يختار البعض العزلة للتأمل أو لمساندة مبادئه أو اضطرارا، لكن البعض يختارها للراحة بعد طريق طويل من رؤية المعاناة واختبارها، وفي حالة دون ماكولين كانت الأخيرة هي الأقرب لحالته. فالمصور البريطاني الذي استهل مشواره الصحافي منذ مطلع الخمسينيات بتصوير العاطلين عن العمل والفقراء وأفراد العصابات في المجتمع البريطاني، قد تخصّص بعد ذلك في تصوير الحرب؛ متنقلا ما بين الغزو الأميركي لفيتنام إلى الحرب الأهلية في كمبوديا، ومرورا بالحروب والصراعات في تشاد وأوغندا وإيران وأفغانستان ولبنان، وإلى قائمة طويلة أخرى، ولعدة عقود عمل ماكولين على نقل فظائع الحرب إلى العالم بكاميرته. 

    

  

كان ذلك حتى مطلع التسعينيات (6) حينما اتجه ماكولين لتصوير الطبيعة والعيش فيها مبتعدا عن الحروب. وفي أواخر العقد نفسه، وفي البرازيل هذه المرة، كان المصور العالمي سيباستياو سالجادو يستعد (7) مع زوجته لإقامة "معهد تيرا" على أرض المزرعة التي ورثها سالجادو عن عائلته، والتي خصّصها لإقامة محمية طبيعية ولحفظ جزء من الغابة الأطلسية التي شهدت طفولته. لكن الأمر لم يتعلّق فقط بحماية الطبيعة، بل كان سالجادو قد قرّر أخذ بعض الوقت للتعافي من تجربة استمرت لسنوات في تصوير المهاجرين واللاجئين حول العالم، تجربة "فقد إيمانه بالبشرية" خلالها (8)، قبل أن تُعيده إليه الطبيعة مرة أخرى. 

  

كان هذا خلال السنوات التي عمل فيها سالجادو مع زوجته لإعادة بناء مزرعته في البرازيل، والتي ألهمته أملا في قدرة كوكب الأرض والبشر معه على التعافي من الحروب الطويلة والمجاعات والأزمات المناخية وغيرها من المشكلات التي قد حدثت وتحدث في العالم، وجعلته بعد ذلك يُصدر عام 2013 كتابه المُصور "سفر التكوين" (Genesis) بالأبيض والأسود لأناس شرّدتهم الحروب والكوارث المناخية، مُعتبرا إياه "رسالة حب ضخمة" للأرض. 

  

تبدو الصدمة التي عانى منها سالجادو هي الأقرب لتلك التي واجهها ويل في "لا تترك أثرا"، وإن لم يكن واضحا أو معروفا ما آلت إليه الأمور بالنسبة للأخير، لكن هذا لا ينفي كون تجربة العزلة في بعض الأحيان باعثة ومًحرّضة على الإبداع واستكمال مسيرة الحياة بإيمان أكبر بقدرة البشرية على التعافي، وأن الخروج عن النمط التقليدي السائد، بل والعيش خارج الشبكة الآمنة للمجتمع، قد يكون في بعض الحالات هو الوسيلة الوحيدة المتبقية للنجاة. 

المصدر : الجزيرة