شعار قسم ميدان

"Anne with an E".. الخروج من الظل إلى النهار

 

"المحبوبة، الأكثر جدارة بهذه المحبة بين كل أطفال الخيال، منذ أليس (1) الخالدة"، هكذا يكتب الأميركي مارك توين عن "آن شيرلي" طفلة الكاتبة الكندية "لوسي مود مونتجمري" والبطلة الأيقونية لكتابها "آن في المرتفعات الخضراء" (Anne of Green Gables) الصادر عام 1908 الذي تبعته مونتجمري خلال العقود التالية بسبعة كتب تتمّةً لروايتها الأولى.

 

كتبت مونتجمري روايتها مُستلهمة طفولتها في جزيرة الأمير إدوارد، فبعد وفاة والدتها بداء السل وهي في عمر الثانية، أرسلها والدها إلى هناك لتُقيم مع والديه شديدي الصرامة والمحافظة، بينما تزوج هو مُكوِّنًا أسرة جديدة، حين عادت إليه لاحقا كان الأمر محبطا، ووجدت نفسها أقرب لخادمة لأطفاله الجدد. حياة "آن" مع ماريلا وماثيو كاثبرت التي تُمنح لها عن طريق الخطأ هو ما تمنّته مونتجمري لنفسها.

 

مثلما منحت مونتجمري "آن" طفولتها الحزينة وإحساسها المزمن بعدم الانتماء لأحد وبأنها غير مرغوبة، وضعت فيها أيضا خيالها الرومانسي الجامح، حبها للطبيعة، لقصص الحب المأساوية، لجين أير، للشعر وللكلمات الكبيرة.

 

كانت مقولة مارك توين صاحب "مغامرات هكلبري فين" المتوفّى عام 1910 أشبه بالنبوءة، فلم تكف "آن" خلال ما يزيد على قرن من الزمن وعبر كل وسيط ممكن عن ممارسة سحرها على أجيال من المحبين مُتنقِّلة بين صفحات الكتب إلى السينما، والمسرح، والتلفزيون، والإذاعة والرسوم المتحركة. كان أول هذه الاقتباسات فيلم صامت من إخراج "وليام ديزموند تايلور" صدر عام 1919، وأحدثها المسلسل التليفزيوني "آن" (Anne with an E) الذي أعدّته "مويرا والي بيكيت".

 

عملت مويرا كاتبة في المسلسل الأيقوني "بريكنغ باد" (Breaking Bad)، وحصلت من خلاله على جائزة إيمي لكتابتها واحدة من أكثر حلقات المسلسل تقديرا من قِبَل النقاد والمشاهدين والمُعنونة "أوزيماندياس" (Ozymandias)، كتبت أيضا، وهي المعروفة بميلها نحو ما هو قاتم وواقعي، المسلسل التلفزيوني "Flesh and Bone" الذي تُصوِّر فيه حياة بطلتها راقصة الباليه الموهوبة وسط عالم الباليه الاحترافي وصراعاته التنافسية شديدة القسوة. ما الذي جذب مويرا إذن لرواية مونتجمري التي تُعَدُّ من كلاسيكيات أدب الطفل؟

Anne with an E

 

عنوان ميدان

تكتب مارجريت آتوود عن رواية مونتجمري في مئويتها: "ما يُميّز كتاب مونتجمري عن أي كتاب آخر كُتِب للفتيات في النصف الأول من القرن العشرين هو جانبه المظلم الذي يأتي في الأساس من الحياة الخفية لكاتبته، وهو ما يجعل من مثالية آن وسخطها وحزنها أمرا مُقنعا". (2)

 

هذا الجانب المظلم من رواية مونتجمري الذي تجاهلته الاقتباسات السابقة هو ما جذب مويرا لهذه الكلاسيكية، ما هو ساحر ومرح وحميمي في كلاسيكية مونتجمري ظل موجودا في اقتباس مويرا، لكنها خلقت بلا شك النسخة الأكثر قتامة وتجذُّرا في الواقع من بين اقتباسات هذه الرواية العديدة. لم تخترع مويرا هذه القتامة، فقط أفسحت مجالا لما بين السطور، لما هو مضمر في ثنايا حكاية مونتجمري.

 

كانت حياة "آن" بلا شك في الرواية حزينة وقاسية قبل أن تصل إلى مزرعة "جرين جابلز"، تكتب مونتجمري في روايتها: "لم تكن آن تحب أن تتحدث عن حياتها في عالم لم يرغب فيها أبدا".

 

تجعل مويرا معاناة "آن" أكثر وضوحا وأشد قسوة، إذ تبرع في رسم بورتريه سيكولوجي شديد الدقة والواقعية لها، مقترحة أن بطلتها تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).

 

منذ الدقائق الأولى ومع الظهور الأول لآن/أميبيث ماكنولتي على متن قطار متجه إلى بيتها الجديد، نشاهد أولا انعكاسها على زجاج النافذة قبل أن نراها، ثم يتناهى إلى سمعها بكاء طفل فتغرق في استعادات مظلمة لذكرياتها في بيوت التبني. لم تكن بحاجة إلى إساءة جديدة لتستعيد ذكريات طفولتها المعذبة، إذ يمكن لأبسط الأشياء أن تُثير فزعها، كبكاء طفل أو فنجان شاي.

صورة ميدان

تُطلعنا مويرا على انعكاسها المظلم/ظلها قبل أن نرى وجهها الآخر: حماسها الطفولي، وثرثرتها وخيالها الرومانسي المحموم. كيف يواجه الأطفال صدماتهم ومخاوفهم المظلمة؟ كيف نجت "آن" من طفولة كطفولتها؟ يرى المحلل النفسي هلموت كايزر أن آلية الدفاع الأساسية للذات ضد صدمات الطفولة الأولى هي الهرب إلى الخيال. (3)

 

تشبُّث "آن" بالخيال وغرقها في الفانتازيا هما وسيلتاها للنجاة من صدمات الطفولة، آلية دفاعية ضد هجمات ذاكرة طفل مصدوم، حيث تجد في خيالاتها تعويضا عن المحبة والرعاية المفقودة في واقعها، فتقول لمرافقتها في القطار الذي يحملها إلى "جرين جايبلز" بعد أن داهمتها ذكرياتها: "أحب تخيُّل الأمور أكثر من تذكُّرها، لماذا أسوأ الذكريات هي دائما الأكثر إلحاحا؟".

 

الشك/اللا يقين هو قلب شخصية "آن"، الشك في محبة الآخرين وفي قيمتها الذاتية، إنه الجرح الممتد من قلب طفولتها إلى حاضرها. حتى بعد تبنيها من قِبَل عائلة كاثبرت (ماريلا/جيرالدين جيمس وماثيو/آر إتش تومسون) وما أظهراه لها من محبة، ظلّت على شكّها وإحساسها بعدم الأمان. حين يمرض ماثيو في نهاية الموسم الأول من المسلسل وتبدأ مشكلاته المالية في الظهور فإن أكثر ما يؤرقها هو خوفها من أنها ستُنتَزع من حضن العائلة إلى رعب بيوت التبني من جديد، وحين تراسل حبيبة ماثيو القديمة دون علمه وتكتشف غضبه فإنها تظن أنها فقدت محبته إلى الأبد، حين رفضتها ماريلا في البداية لأنها كانت ترغب في ولد يساعد في عمل المزرعة، تقول "آن": "كان ينبغي لي أن أعرف أنه لا أحد يريدني".

لذلك فحكاياتها التي تتخيل فيها نفسها أميرة تُدعى "كورديليا" ومونولوجاتها التي تحمل قدرا من تعاظم الذات هي دفاعها ضد إحساسها بالدونية وانعدام قيمة الذات. وفي هذا السياق أيضا يمكننا فهم سعيها وإصرارها في الموسم الثالث من المسلسل لمعرفة حكاية والديها، هل ماتا بالفعل أم تخليا عنها؟ ففكرة أنهما لم يتخليا عنها سوى بالموت، وأن هناك مَن أحبَّها في هذا العالم، هذا التصوُّر وحده قادر على منحها قدرا من تماسك الذات بعد صدمات الطفولة المهددة، مثلما يحافظ على تصوُّرها الإيجابي عن ذاتها.

 

كانت مونتجمري نفسها التي عانت أيضا من صدمات طفولة مماثلة لبطلتها تعيش في خيالها، كانت تمتلك في طفولتها صديقة خيالية تُدعى "كيتي موريس"، وهو الاسم نفسه الذي منحته لصديقة "آن" الخيالية. استمرت مونتجمري التي عانت طويلا من إحباطات الحياة، من نوبات الميلانكوليا/الاكتئاب وتقلبات المزاج في اللجوء للخيال طيلة حياتها عبر كتابة الشعر والروايات والقصص، وكأن الخيال هو طريق النجاة المشترك بين الكاتبة وبطلتها.

 

عنوان ميدان

صورة ميدان

يمكن قراءة حكاية "آن" بوصفها رحلة لتحرُّرها وإفلاتها من دائرة الفانتازيا إلى التجذُّر في الواقع وقبول الذات. وفي سياق هذه الرحلة تستخدم مويرا عدة موتيفات (4) من أجل لفت الانتباه إلى الأفكار والثيمات التي تسعى إلى تقديمها في حكيها، من هذه الموتيفات الكوخ والثعلب اللذان يُستَخدمان كأدوات في رحلة "آن".

 

تقول "آن" لصديقتها ديانا: "أنا لا أعرف ماذا يمكن أن أفعل دون مخيلتي، ستصير الحياة عذابا، محض عذاب". في بداية الحكاية نشاهد "آن" أكثر تشبُّثا بالفانتازيا، تترك الطعام يحترق لأنها تعيش حكايتها الخيالية كأميرة. هذا طبيعي بالنسبة لطفلة قضت سابق أيامها تهرب إلى الخيال كي تنجو.

 

مع بداية ذهابها للمدرسة والرفض والتنمر الذي تتعرّض له، تبدأ في استعادة ذكرياتها المظلمة مع كل إساءة، فتُقرِّر إثر ذلك ألا تعود إلى المدرسة لأنها غير قادرة على مواجهة واقعها، هنا يظهر الكوخ لأول مرة في الحكاية، إذ تلجأ إليه بديلا عن المدرسة؛ إنه مملكتها الخاصة بالزهور الذي تُزينه بالإضاءة الحالمة التي تتسلل إليه، تعيش فيه خيالاتها دون إزعاج من أحد، ولا تستقدم إليه إلا صديقاتها، وينسجون فيه حكايات خيالية هن بطلاتها. كول أيضا في الموسم الثاني من المسلسل يلجأ إليه هربا من تنمر زملاء المدرسة واضطهاد مُدرِّسه، الكوخ أشبه بمساحة آمنة تُواصِل فيه هذه الكائنات الرقيقة هربها من واقعها المؤلم.

 

في الحلقة التاسعة من الموسم الثاني يعثر زملاء المدرسة على كوخها مصادفة، يقومون بتدميره تماما بتمزيق كتابات "آن" وصديقاتها وتحطيم منحوتات كول. المشهد عنيف جدا في معناه، فهو يُمثِّل هزيمة أخرى لكائنات رقيقة وشاعرية أمام الواقع المحض بقوته الغاشمة. لا مزيد من الاختباء من الواقع بعد الآن، لا تقوم "آن" ولا صديقاتها بعد ذلك بتشييد كوخ آخر، وكأن دوره قد انتهى عند هذا الحد. تصير "آن" لاحقا أقل انخراطا في خيالاتها وأكثر قدرة على مواجهة الواقع.

 

في الموسم الثالث من المسلسل لا نراها تغرق في خيالاتها ولا ذكرياتها، فقدماها صارتا ثابتتين على أرض الواقع، حتى حين تعود إلى الميتم الذي نشأت فيه والمكان المرتبط بالعديد من صدمات طفولتها لا نراها أبدا تستغرق في ذكرياتها، لا يلجأ السرد إلى الفلاش باك من أجل استعادة الذكريات، بل تعرض الذكريات كونها جزءا من المشهد الحالي، إنها تمر عليها فقط دون أن تجرفها بعيدا عن الواقع، حين تشاهد زميلتها القديمة في الميتم وتقابل مديرة الميتم، وهما من وجوه الرعب التي تتكرر في ذكرياتها، يبدو على وجهها الفزع نعم، لكنها قادرة على مواجهة ذلك وقدماها ثابتتان على أرض الواقع دون أن تحاول الهرب إلى الخيال أو تستنزفها الذكريات.

صورة ميدان

يرتبط الثعلب بقلقها إزاء صورتها، بشكها في قيمتها الذاتية وعدم تقبُّلها لذاتها، يظهر أول مرة بينما تشعر بالخوف داخل كوخها من أشباح قد تُهاجمها، يمنحها ظهوره شيئا من الأمان. يبدو الثعلب بشعره المائل إلى الحمرة كشعرها، ووحدته كقرين لها قادم من عالم الحيوان. تُسقِط عليه مخاوفها، تتحدث إليه: "أتساءل إذا كانت الثعالب الأخرى تسخر منك بسبب شعرك؟ أنت دائما وحيد، ألا تمتلك حبيبة؟ ربما مُقدَّر لنا أن نكون وحيدين أنا وأنت. فقط لتعرف أنت جميل جدا".

 

كانت تضع له الطعام أمام الكوخ كي لا يدفعه جوعه إلى مصائد الفلاحين التي يحمون بها الدجاج. في النهاية، ينجو من المصائد ومن رصاص الصيادين تماما كما نجت "آن"، وهو شاهد على نضجها وتقبُّلها لذاتها واختلافها. حكاية "آن" هي حكاية عن تقبُّل الذات والنجاة في العالم عبر مواجهته ودون الحاجة إلى الاختباء في كهف سحري.

 

كان عالم النفس الكبير كارل جوستاف يونج يُسمّي الجانب المظلم من الذات الظل، حيث تختبئ مخاوف الذات وما لا ترغب أن يظهر للعالم. كان يونج يرى أنه لكي تكتمل الذات عليها أن تواجه مخاوفها وأن تحتوي ظلها بأن تجلبها من اللا وعي إلى الوعي، هذه هي رحلة "آن"، حسب يونج، رحلة الخروج من عتمات الظل إلى ضوء النهار.

 

عنوان ميدان

 

– صورة ميدان

خلال ما يزيد على عقد من الزمن ونحن نشهد تطوُّرا مثيرا في جماليات الصورة التلفزيونية، خاصة بعد تلاشي الحدود الفاصلة بينها وبين الصورة السينمائية التي أحدثها تطور تقنيات التصوير وعمل مخرجين سينمائيين في مجال المسلسلات التلفزيونية، وبالتالي بات معها من المنطقي التحدث عن جماليات سينمائية للصورة التلفزيونية. يرى "بوب شور" مدير تصوير المسلسل -و"آن" هو أول عمل تلفزيوني يقوم بتصويره- أن بعض المسلسلات التلفزيونية الآن أكثر سينمائية من العديد من الأفلام السينمائية.

 

كل المرجعيات التي صرَّح صُنَّاع العمل بالاستعانة بها على صعيد الصورة هي مرجعيات سينمائية، مثل أفلام الأسترالية جين كامبيون "البيانو" (The piano)، و"النجم الساطع" (Bright Star)، والإنجليزية أندريا أرنولد في "مرتفعات ويذرنغ" (Wuthering Heights)، والأميركي كاري فوكوناجا في "جين أير" (JANE EYRE)، وهي أفلام كلها تدور في حقب زمنية قريبة من تلك التي تعيش بها "آن" وتحتوي ثيمات نسوية.

 

سعى صُنَّاع العمل وعلى رأسهم مويرا والي-بيكيت إلى تحقيق أقصى واقعية على صعيد السرد والصورة، فإلى جانب التدقيق الشديد في تفاصيل الأزياء والديكورات، فكل الخيارات التقنية في التصوير والإضاءة كانت من أجل إعطاء المظهر الطبيعي والواقعي للأشياء؛ استخدام الإضاءة الطبيعية مصدرا أساسيا في النهار وضوء الشموع أو المصابيح الزيتية ليلا، كذلك استخدام عدسات قديمة نسبيا تعود إلى الستينيات والسبعينيات من أجل الوصول إلى صورة مختلفة عن تلك التي تُقدِّمها العدسات الحديثة.

تبدو المشاهد في أغلب الأحيان انعكاسا لمخيلة "آن" ومشاعرها بما أن صُنَّاع المسلسل أرادوا أن يكون المسلسل من وجهة نظرها، الصورة مقودة بمشاعر "آن" ومشاعر الشخصيات، ومن أجل تحقيق توحُّد عاطفي مع الشخصيات، يمكن أن نُطلق عليها (emotionally- driven images).

 

في الحلقة الثانية من الموسم الأول، حيث تُعيد ماريلا "آن" من جديد إلى الميتم، بعد أن أجبرتها على الاعتراف بأنها أضاعت دبوس الزينة الذي ورثته عن أمها وتكتشف وجوده بعد رحيلها فترسل أخاها ماثيو ليُعيدها من جديد. تبدأ الحلقة بزاوية رؤية مثيرة جدا، وهي قلب شجرة الكرز التي اعتبرتها "آن" صديقتها الأولى في هذا المكان، نشاهد من داخل الشجرة ماثيو الذي اكتشف للتو أن القطار قد غادر المحطة وعلى متنه "آن". زاوية الرؤية هنا تشحن المشهد بزخم عاطفي استثنائي.

 

في مشهد تالٍ نشاهد "آن" واقفة ليلا أمام الميتم، نشاهد "آن" في لقطة بعيدة ضئيلة أمام ضخامة المكان، وفي اللقطات القريبة نشاهد وجهها الخائف غارقا في الظلال التي مصدرها الضوء الخافت المنبعث من الميتم الملفوف بالظلام. تبدو اللقطة كما لو كانت خارجة من أحد أفلام الرعب الكلاسيكية، يصلح الميتم كما تستعرضه الصورة ليكون بيتا للرعب، وهو ما تشعر به "آن" تجاه هذا المكا

نشاهد أيضا ماريلا في بيتها تتململ تحت وطأة قلقها على ماثيو الذي تأخر الوقت ولم يَعُد وإحساسها بالذنب تجاه "آن"، تهرع خارج البيت بينما تُصوِّرها الكاميرا من الداخل خلف قضبان نافذة عاكسة ضيقها الشديد وكأنها حبيسة مشاعرها الغامرة.

 

في مشاهد الفلاش باك التي تستعيد فيها "آن" معاناتها في الميتم وبيوت التبني، تُستَخدم عدسة واسعة في لقطات قريبة وفي إضاءة أقرب للظلام لتمنحنا الأثر الخانق لهذه الذكريات وكأننا داخل عقلها. اقتراب العدسات الواسعة من وجوه الشخصيات الحاضرة في هذه المشاهد يمنحها ملامح غروتسكية تليق بالرعب الذي تُمثِّله هذه الشخصيات بالنسبة لـ "آن".

 

هناك أيضا جانب شاعري للصورة يعكس المُخيِّلة الرومانسية ورِقّة هذه الشخصيات، حين تمر "آن" بمكان فاتن مليء بأشجار الكرز، تُخبر ماثيو بأنها ستُسميه "درب الفرح الأبيض"، حينها نشاهد وجهها والكادر بأكمله مغمورا بضوء أبيض بهيج. يجلس جيلبرت بعد إتمام مراسم دفن والده وحيدا بعد مغادرة الجميع، بينما بدأ الثلج يتساقط من السماء يرفع كفه في اتجاه السماء لتتحوَّل ندفة الثلج الساقطة عليه إلى دمعة.

Anne with an E Gilbert father death

أحد الأشياء التي جذبت مويرا لرواية مونتجمري هي فكرة أن "آن" فتاة معاصرة رغم أنها كُتبت منذ ما يزيد على قرن من الزمان، إذ تستطيع أغلب الفتيات الآن إيجاد نوع من القرابة معها، أن تتوحد مع معاناتها ومخاوفها وتطلُّعاتها، ومع ذلك تمتلك "آن" أحيانا وعيا يتجاوز زمنها، خاصة فيما يتعلق بمفاهيم الهوية أو الجندر أو استخدامها لكلمات وتراكيب لغوية تنتمي لزمننا.

 

كانت مونتجمري تمتلك وعيا نسويا واضحا في كتاباتها، لكنها تُظهِر أيضا وعيا بالحدود التي تحد حياة المرأة، حدود مرتبطة بزمنها وتبدو كما لو كانت غير قادرة على تخيُّل مهرب لشخصياتها. هنا في اقتباس مويرا نرى الشخصيات تهرب مما بدا أنه قدرها الوحيد.

 

في نسخة المخرج الكبير أورسون ويلز من محاكمة كافكا ينقلب ويلز على رؤية كافكا العبثية والتهكُّمية للحياة، فبدلا من أن يجعل "جوزيف ك" بطل رواية كافكا يموت مستسلما "مثل كلب"، يُتيح للرجل المُدان أن يقاوم، وحين يُسأل عن نهاية فيلمه يجيب: "بالنسبة لي هذه رواية مثقف يهودي كُتبت قبل أن يظهر هتلر وقبل أوشفيتز، أنا لا أقول إن نهايتي الأفضل ولكنها الحل المتخيل الوحيد". (5)

 

ما يقصده ويلز أنه من الصعب أن يُنهي روايته بالشكل الذي أراده كافكا بعد زمن من المعاناة. شيء من هذا حدث في اقتباس مويرا، إنها تمنحها وعيا اكتسبته النساء بعد قرن من المعاناة والنضال من أجل حقوقهم، وعيا ينتصر للمرأة والمضطهدين، وعيا كانت ستمنحه مونتجمري لفتاتها بلا شك إذا كتبت روايتها اليوم، هكذا تقول كلمات الأغنية التي تصاحب تتر البداية: "أنتِ تسبقينهم بقرن من الزمن" (You are ahead by a century).

_______________________________________________________

المصادر

  1.  يقصد  أليس بطلة رواية " لويس كارول": أليس في بلاد العجائب.
  2. ‘Nobody ever did want me’
  3. The Fantasy Bond in Childhood and Intimate Relationships 
  4. الموتيفات هي صور تتكرر في السرد من أجل جذب الانتباه الي فكرة ما يسعى السرد لإظهارها، هذه الموتيفات تكون عادة ذات قيمة رمزية أو مرتبطة بتيمات الحكاية، نتعلم ماذا يعني الموتيف مع تكرار ظهوره خلال الحكاية. التكرار ضروري بلا شك.
  5. المحاكمة بين ويلز وكافكا، كتابة جيمس نيرمور و ترجمة أمين صالح.