شعار قسم ميدان

"بريكنغ باد".. حين يكون نجاحك على أجساد من تحبهم

midan - رئيسية فلم0

حظي المسلسل التلفزيوني "بريكينغ باد" بنجاح وشعبية هائلة في كل أنحاء العالم. وهي حكاية أستاذ الكيمياء والتر وايت الذي يصاب بمرض سرطان الرئة ثم يقرر أن يبدأ "بطبخ" مخدر الميث (الميثامفيتامين) ليكسب المال لإعالة عائلته بعد وفاته. المقال التالي يحتوي على الكثير من حرق الأحداث فلا تكمل القراءة إن كنت لا تريد معرفة ما يحدث في النهاية.

 

رغم أنه مقسم على خمسة مواسم، فإن بعض النقاد قالوا بأن هذا الجيل الجديد من مسلسلات التلفزيون هو في الواقع فيلم واحد ضخم، وهو نوع من "الرومان فلوف" (تراجيديا يشتبك فيها البطل مع المجتمع) التلفزيوني. رغم أن حياة والتر العائلية قد دمرت تماما، وأن هيئة مكافحة المخدرات قد صادرت منزله، وأنه فقد معظم الأموال التي حصل عليها من تصنيع المخدرات غير القانونية، فإنه أدرك بالفعل قدراته الوجودية من خلال القيام بشيء قال إنه جعله يشعر بأنه "على قيد الحياة". وإن كان ذلك على حساب كل الذين أحبهم واكترثَ لأمرهم.

 

يكمن جمال القصة في أننا نشاهده يهوي ببطء إلى جحيم اللا أخلاقية. يبدأ بإنتاج الميثامفيتامين في قبو منزل تلميذه السابق "جيسي"، ولكنه سرعان ما يصبح طاهيا محترفا يعمل لدى منظمة مخدرات ضخمة لها صلات بشخصيات مكسيكية معروفة في عالم الجريمة، تستولي عليها بعد ذلك مجموعة من النازيين الجدد. بالتدريج، يتحول والتر من شخص يهدف لجمع مبلغ محدد من المال لإعالة أسرته، إلى شخص يستمتع بالقوة التي تخوله قتل من قد يوقعون به.

   

     

ثمة ملامح من التراجيديا الشكسبيرية في هذا المسلسل: مدرس رائع لمادة الكيمياء دشنَّ في الكليّة ما كان ليصبح شركة علمية ناجحة دوليا، ينحدر به الحال إلى التعامل مع مجرمين ومحامين جنائيين لا يملكون أي إحساس بعواقب الأفعال وقد يقتلون أي شخص يقف في طريقهم، وإن كان طفلا. فقط عندما يخسر والتر كل ذلك بالفعل، باستثناء حياته التي يعاود السرطان الظهور فيها، يرى أن ما قام به كان من أجل الشعور بالقوة. ربما تكون مسرحية ماكبث[1] هي الأقرب من الناحية المأساوية، حيث إن لدى والتر أيضا زوجة قوية العزيمة، هي سكايلر، ويدرك في النهاية أنه كما يقول ماكبث في المشهد الثالث:

 

"أنا في الدماء.. توغلت فيها،

هل عليّ الكف عن الخوض فيها؟

إن العودة كالذهابِ مضنيةٌ"

 

سيكون الوجوديون فخورين، ربما، بوالتر أثناء مسيرته الأولى في عالم المخدرات، حيث يتصرف بحسن نية. يلبي ما يؤمن أن طبيعته تفرضه عليه، وما يجب أن يكون عليه حقا. فبدلا من أن يرتضي كونه مدرسا مطحونا يضطر لغسل السيارات لتغطية نفقات أسرته (عندما كان من الممكن أن يشارك في تأسيس شركته من أيام الجامعة لو كان شجاعا بما فيه الكفاية)، نراه يحوّل نفسه إلى شخص يحتاج إليه المجرمون، قادر على النظر في أعينهم وقول "قل اسمي" (Say my name)، وهي عبارة استُلهم منها عدد لا يحصى من القمصان التي تحمل صورة لوالتر باسم هايزنبرغ، اسمه الإجرامي المستعار.

 

عند مرحلة أخرى يتباهى والتر أمام سكايلر بأنه لا يقع تحت رحمة زعيم جريمة قائلا: "أنا مَن يطرق الباب" (أي أنا أقتُل ولا أُقتَل). لكن الأحداث اللاحقة تظهر لنا أن والتر لا يملك زمام أمره كما كان يعتقد. فهو ساذج وموهوم إلى أن يدرك في نهاية الأمر أن عصابات الجريمة تتحمله طالما أنه مفيد لها. الأبطال الأخلاقيون الحقيقيون في "بريكينغ باد" هما هانك صهر والتر، وهو عميل في منظمة مكافحة المخدرات، وجيسي طالبه السابق الذي يطبخ معه الميث. هانك شخصية كثيرة المزاح لكنها جوهرية وتأملية، يضطر لأن يتأقلم مع تعرضه لإطلاق عيار ناري من قِبل عصابة أخطأت بينه وبين والتر، يجمع قطع اللغز كاملة قبل أن يذهب ضحية لسذاجة والتر وقلة بصيرته.

  

undefined

    

تأتي البصيرة الأخلاقية الحقّة من جيسي، الذي يتحوّل من كونه شابًّا جاهلا إلى حد ما، قد ترك الدراسة ويدخن الحشيش ويطبخ كميات صغيرة من الميثامفيتامين، إلى شخص يتساءل عن العواقب الأخلاقية لما يقوم به وعن الغرض من حياته. بوفاة اثنين من أحبائه يرى جيسي ما لا يراه والتر، وهو أن أفعاله تدمر من حوله من غرباء وأحباء على حد سواء. مثلا، في مجموعة التعافي يشير جيسي إلى أنه إذا كان علينا أن نقبل أنفسنا فهذا قد يعني قبول الأذى العميق الذي نتسبب به للآخرين. قد يعني قبول الذات في الواقع عدم قبول المسؤولية أو الشعور بالذنب وعدم التوبة، وهي أمور يبدو أن والتر لا يشعر بها أبدا حتى النهاية.

 

بريكينغ باد هو حكاية هذا العصر: انعدام الأخلاق الصريح وتبجيل وتمجيد أولئك الذين يرتكبون أفعالا إجرامية لم تكن مقبولة فيما مضى. لكنها أيضا حكاية أخلاقية عميقة تجيب عن سؤال كيف سيكون الأمر إذا ما جنيت مبالغ ضخمة من الأموال من صنع المخدرات، دون أن أكون مجرما محترفا، بل مجرد شخص يصنعها ويعود إلى منزله كل مساء.

 

إلى جانب الجودة الأخاذة التي لا يمكن للمشاهد الفكاك منها، تستخدم السلسلة تقنيات الأفلام الأنيقة مثل الانتقالات للأمام والعودة للوراء والفكاهة بالإضافة إلى البراعة في الكتابة والتصوير. إنها سلسلة ممتازة، تجد العديد من الحلقات طريقها إلى المناقشات في فصول الفلسفة، فهي تثير أسئلة من قبيل: "ما الجيد وما السيئ؟"، و"ما عواقب أفعالنا؟" و"هل الحياة هي مجرد الحصول على ما يمكننا الحصول عليه من أي شخص متى استطعنا ذلك؟". أم أن الحياة، كما يقول ماكبث، "حكاية يرويها أحمق، مليئة بالضجيج والغضب، ولا معنى لها"؟.

 

بريكينغ باد هو قوس سردي مشغول بحرفية، يمتد على خمس سنوات و62 حلقة ونحو 46 ساعة ونصف من وقت المشاهدة. وبالطبع، واجه صانع السلسلة فينس جيليجان وفريق الكتابة التحديات المعتادة في القَص: فالخياراتُ يجب أن تكون مقبولة، مع ترسيخ السبب والنتيجة. يجب أن يكون كل ما هو غير متوقع وغير مرغوب فيه يتلاءم والطريقة التي يجري بها العالم فعلا. في السينما العبثية، يمكن أن تحدث الأشياء بطريقة "يعوزها المنطق". ولكن، إذا كان المؤلف ملتزما بالرأي القائل بأن للأفعال عواقب، ليس بتأثير قطع الدومينو وإنما بنوع من الحساب الوجودي، عندئذ تحتاج خيارات الأحداث والحبكة هذه إلى الكشف عن كيفية حياكة هذا النسيج الأساسي. وبالفعل، يتبنى جيليجان هذا الرأي، ويقول: "إذا كان هناك عظة من بريكينغ باد، فهي أن للتصرفات عواقب، وأود أن أصدق أن "الكارما"[2] تأتي في مرحلة ما، حتى إن استغرق الأمر سنوات وعقود".

  

undefined

    

استعانة جيليجان بمفهوم "الكارما" مثيرة للاهتمام، لأن هذا المفهوم هو ادعاء وجودي. إن "عالم الكارما" يعمل، في الواقع، عن طريق قوانين سببية: كل فعل له نتيجة، وكل علاقة ترتبط ارتباطا ديناميكيا بظروف أخرى وأسباب لاحقة. هذه الرواية عن العلاقة الأكيدة بين السبب وظروفه وتأثيره تنفي بالضرورة الواقع المنفصل أو المستقل لـ "الأجسام" و"الأشخاص" داخل البنية السببية، أي إن كل شيء، سواء كان صخرة أم قطة أم طائرة أم إنسانا، هو ما هو عليه بسبب الظروف التي خلقته. كل حالة مادية تتغير باستمرار (فيما يشبه الطريقة التي يصور بها والتر وايت واقعنا الكيميائي).

 

ومن هنا جاء مفهوم "الحدوث الاعتمادي"، حيث تعتمد كل الأشياء على مجموعة سابقة من الشروط، وكذلك تنتج عنها؛ وكل الأشياء هي قيم مجمعة بشكل مؤقت فقط، وتتغير باستمرار في بنائها. (وبالطبع، يمكن أن يكون التغيير سريعا وحشيا، وتحتوي سلسلة بريكينغ باد على بعض التجليات البشعة لهذا المبدأ؛ فمثلا شخصية فيكتور، تكون في لحظة مساعد غاس فرينغ، ثم في لحظة أخرى جثة مذبوحة، وفي لحظة ثالثة تصبح مادة متحللة في برميل من حمض الهيدروفلوريك، ويقوم غاس، بدوره، بضبط ربطة عنقه بعد تفجير هكتور الانتحاري، ولا يدرك حتى الآن أن نصف وجهه مفقود). لا يوجد شيء، ولا أحد، له هوية مستقرة، والواقع الكلي دائما متغير.

 

في تبني مفهوم "الكارما"، يؤكد جيليجان أن قصته تعكس الطريقة التي تحدث بها الأمور في الواقع. وهذه النقطة مهمة؛ فرُواة القصص يثقون في رغبتنا في القصاص العادل، ولا توجد لحظات أكثر إرضاء في الفيلم من الإمساك بالشرير أو تدميره، خاصة عندما يكون هذا التدمير جزئيا من صنع يده. بالتأكيد من الجيد أن ترى الشخص السيئ ينال ما يستحق: ولكن من هو الشخص السيئ، وهل نحن متأكدون تماما مما يستحق؟ إن متعة العدالة أو الانتقام لا تعبر عن الحقيقة العميقة للصورة الكارمية، ويبدو أن جيليجان يريد تصوير نوع أكبر من الثقل الوجودي. وهو هدف يتم تداركه بشكل خاص في أحداث الموسم الثاني.

 

تتميز الحلقات الثلاثة عشرة للموسم الثاني بحس التكامل، وهذا الارتباط متوفر في أربعة من عناوين الحلقات؛ وهي الحلقات 1 (بعنوان 737)، والحلقة 2 (Down)، والثالثة (over)، والرابعة (ABQ)، وهي جميعا تُشكّل عاقبة تقشعر لها الأبدان، لا يمكن تفسيرها أو فهمها حتى المشهد الأخير المروع لاصطدام طائرة في الجو. تبدأ هذه الحلقات الأربع كلها بمشاهد مظلمة باللونين الأبيض والأسود، قبل شارة المقدمة، لما سيأتي، كل افتتاحية تضيف تفاصيل أكثر لهذه الكارثة المعلقة؛ في البداية، تطفو عين بلاستيكية في حوض سباحة عائلة وايت. الافتتاحيات الثلاث التالية تضيف إلى إحساسنا التوتر حيال ما سيأتي؛ رجال يرتدون بزّات واقية، وأكياس أدلة، وزوج من النظارات يشبه نظارات "والت". واللون الوحيد في هذه التتابعات الأربعة المفتوحة هو لدمية دبّ باللونين الأبيض والأرجواني تمد لسانها. وفي الافتتاحية الثالثة، نرى اثنين من أكياس الجثث أمام بيت وايت. وأخيرا، في الحلقة الأخيرة (ABQ) نرى العين المنفصلة، الدبّ الوردي المشوه وكتابا محروقا وحذاء، ومرة أخرى كيسين للجثث، ثم تنتقل الكاميرا إلى الخارج بينما يكتسب المشهد لونا شاحبا، ويتصاعد عمودان من الدخان في الأفق.

  

undefined

   
كيف وصلنا إلى هنا؟

فلنفكّر في قصة محورية للموسم الثاني. إن كان الموسم الأول قد ركّز على عائلة والت، وطاقم إعداد مخدر الميث الذي يحاول تجميعه، فالموسم الثاني لديه الكثير لكي يقوله عن الجار. ومن هو الجار؟ "العائلة" تشكلها روابط القرابة والمهمة المشتركة للبقاء على قيد الحياة بالمأوى والطعام والتنشئة الاجتماعية؛ والفريق أو الطاقم يُجمع ويُفكك مع تغير هدف المشروع المشترك (هل مايك، أو ليديا، عدوان أم صديقان؟ ذلك رهن ما سيأتي). إلا أن "الجار" يبدو مفهوما مختلفا عن كليهما. إذ يقترح "الجار" وجود شخص في الجوار؛ أي في البيت المجاور أو في آخر الشارع. فالجيران، على أقل تقدير، معنيون بالحفاظ على بيئة مشتركة؛ مثل سقاية النباتات وجمع البريد ومراقبة الأطفال الذين يلعبون في الشارع أو الشخصيات المشبوهة التي تحوم في الحي. إحدى اللحظات المضحكة في الموسم الأخير من المسلسل (الحلقة 9) هي ردة فعل جارة وايت في البيت المجاور عند رؤية والت أمام منزله السابق، الذي سُيج الآن وغطي بالألواح الخشبية. والتر، الذي اشتهر على المستوى القومي بأنه زعيم المخدرات "هايزنبرغ"، يناديها بابتسامة وتحية ودودة معتادة قائلا: "مرحبا كارول". (فتقوم كارول، مرعوبة، بإسقاط الكيس الذي تمسكه).

 

قد نشعر أحيانا بنوع خاص من المسؤولية المدنية تجاه الأشخاص الذين نعيش بينهم وكثيرا ما نفعل. إذا رأيت جارا يعاني من حمل البقالة، فقد أساعده (افتح الباب أو أحمل الحقيبة)؛ فالجار هو ساكن زميل، وقليل من الشعور بالحفاظ على بيئة منظمة، وودودة حتى، أمر مهم. ومجددا، القرب يهم؛ حيث ربما لن أحاول مساعدة شخص غريب في مجتمع آخر على حمل تلك البقالة، فقد يساء فهم محاولتي.

 

في الموسم الثاني، القصة الأساسية عن الجيران والاهتمام المتبادل (أو الإساءة الكارثية) هي بالطبع قصة وصول جيسي إلى الشقة التي تملكها جين. كلاهما مخلوقات جريحة؛ جين في مرحلة الشفاء من تعاطي المخدرات، وجيسي طريد عائلته. كانت جين مرتابة في البداية حيال جيسي. وعندما يخبرها جيسي أنه "خيب آمال أبويه مرة أخرى" وأنه "بحاجة إلى فرصة"، ترق لحاله وتسمح له باستئجار الشقة المجاورة المماثلة لشقتها. يصبح هؤلاء الجيران صديقين، ثم عاشقين. وجين مثل جيسي فنانة، تصبح محادثاتهما بمنزلة فترة هدنة من عالم توزيع جيسي للمخدرات. عندما يقوم جيسي بتجميع فريقه ليشرح "بروتوكول المبيعات"، نجد الاجتماع "نظيفا"؛ لا يحتوي إلا على مشروبات غازية ومعجنات وتحذير من عدم دخول أي مخدرات للمنزل أو تعاطيها بداخله (وبالتالي يفي بوعد الجيرة مع جين).

 

في هذا "الازدواج"، يضم أحد جوانب المبنى مدمنة تتعافى، في حين أنه في الجهة المقابلة "الملاصقة" يخفي تاجرا للمخدرات. أي شقة ستسود في تحديد الجيرة؟ بدأ إحساس جيسي بنفسه وبيئته بالتحول، لكن ويلات بيع الميث لا تغيب أبدا. يقضي أحد رفاقه "الموزعين" نحبه إثر عيار ناري، صديقه كومبو، في نزاع حول المناطق، فيقوم رعب جيسي وحنقه بقلب هذا التوازن. يخبر جيسي جين أنه سوف يدخن بعض الميث، وأنه يريدها أن تغادر. أجابت: "يمكنك أن تأتي معي إلى اجتماع"، وتذكره بأن المخدرات لن تساعد. يصر جيسي أنها ستساعده، والمشهد التالي يوضح أن جين عادت تتعاطى المخدرات. السقوط من النعيم الهش سريع ومدوٍّ؛ حيث تجلب جين أدوات تعاطي هيروين وتعلم جيسي كيف يحقن نفسه.

  

تُعرض لنا
تُعرض لنا "ازدواجية" جيسي وجين الحرفية في هذا الموسم؛ إذ يعترف كل منهما بوجود موهبة ومعاناة وتعاطف شبيه لدى الآخر

    

والتر -الذي يدّعي أنه يحاول الخروج من هذا العمل- يجدهما فاقدَيْ الوعي عندما يخترق المنزل لاسترداد 38 رطلا من "المنتج" الذي خبأه جيسي تحت الحوض. يتم البيع (ويمنع والتر من حضور ولادة ابنته)؛ ثم يخبر والت بعد ذلك جيسي أنه سيحتفظ بالنصف الخاص به من المال حتى يتوقف عن التعاطي. عندما تكتشف جين أن والت يملك أموال جيسي، تبتزه ليردها له. يمكن الآن لجيسي وجين الفرار إلى نيوزيلندا، لكن بالطبع الإغراء بجرعة هيروين أخيرة أكثر مما يجب (وفعلا هذا هو ما أصبحت حياتهما معا). يعود والت مجددا، ويجدهما مرة أخرى في غيبوبة إثر تعاطي المخدر. يحاول أن يوقظ جيسي، لكنه يقلب عن طريق الخطأ جين على ظهرها. فتبدأ في الاختناق بقيئها، ولا يحاول بذل أي جهد لإنقاذها. ماتت بينما يشاهدها والت. وقبل التفكير في نوع المسؤولية هنا، ومن يتحمل أي نوع من اللوم، يجب علينا إعادة النظر في مفهوم "الجار"، وهذه المرة بأسلوب وجودي.

 

من هو الجار؟

كان تفصيلنا الأولي عن الجار يتعلق بقرب الإنسان والاهتمامات الفعلية التي تخلقها بيئة مشتركة؛ في هذه الحالة ربما يكون "الجار" مجرد نسخة أكثر استقرارا من طاقم سفينة مثلا. يجد كيركغارد[3]، في رؤيته للظرف البشري، أن هذا الوصف غير كاف جذريا. ويجادل قائلا: "…الجار هو جميع الناس". يشير كيركيغارد في تأمله إلى آية في إنجيل متى 22:39: "يجب عليك أن تحب الجار مثل نفسك"، ويستخلص أن "مفهوم" الجار "هو في الواقع تكرار لذاتك…".

 

تُعرض لنا "ازدواجية" جيسي وجين الحرفية في هذا الموسم؛ إذ يعترف كل منهما بوجود موهبة ومعاناة وتعاطف شبيه لدى الآخر، كما يرغب كل منهما في مساعدة صاحبه؛ ويرى كل من جيسي وجين انعكاس إنسانيته في الآخر. والآن، كما تقول جين، هما "شريكان" (وهي ترفض فكرة أن "والت" يهتم بمصالح جيسي فعلا وتؤكد "أنا شريكتك"). لكن "تكرار" الذات لا يكفي هنا، بما أن هذا الفهم للتبادلية لا يتفق معهما فيه أي من "جيرانهما" الآخرين؛ فوالد جين "دونالد" يريد منها ببساطة أن تتبع أوامره، وبالتأكيد يريد والتر من جيسي الأمر نفسه. في الاجتماع القدري الحزين بين والت ودونالد في حانة الحي، يشكو كلاهما من أبنائهما. يعرّف والت جيسي باعتباره "ابن أخيه". ودونالد، في وصفه خيبة أمله في جين، يتجه نحو فكرة صحيحة عندما يقول:"العائلة، لا يمكنك التخلي عنها أبدا؛ فماذا لديك غيرهم؟".

 

يذكّرنا كيركغارد أننا نملك شيئا آخر وهو الجار؛ فلو نظر والت إلى جين باعتبارها شخصا مثله في حاجة ماسة إلى المساعدة، لما تركها لتموت. يصرخ والت: "لا، لا، لا" عندما تبدأ بالاختناق، لكن تلمع فكرة أخرى في ذهنه، من الأفضل -لوالت- أن تخرج جين من الصورة. ليس ذنبه أنها حقنت نفسها بالهيروين في هذه المناسبة. ومع ذلك، يبكي أثناء احتضارها، وربما يدرك أن هذا الفعل قد نفاه إلى زنزانة معزولة بلا نوافذ داخل ذاته، بلا أي وسيلة لرؤية الارتباط الحتمي مع كل الأشخاص والأحداث. وحُكم على والت بدائرة لا نهاية لها من الرغبات (تماما كما سيكون في "البيت الآمن" في نيو هامبشاير: آمن من السلطات، وليس من نفسه).

  

undefined

    

هذه الشبكة من الاتصالات هي -بطبيعة الحال- ما يعرفه مفهوم الجار"المكرر لك" عند كيركجارد. فلا يمكن فهم أفراح وأتراح ولا حيرة ولا أوجاع الشخص إلا في ضوء اهتمامات جاره، لأن الوضع الناشئ -والأشخاص بداخله- يُبنى بالتبادل من لحظة إلى أخرى. فلو أن والت أنقذ جين، ماذا كان ليحدث؟ لا يمكن معرفة السرديات الجديدة، ولكن إحدى النتائج ستستبعد بالتأكيد؛ وهي اللوحة التي رسمها لنا فينس جيليجان، في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة، التي يطغى فيها الحزن على دونالد والد جين فلا يتمكن من ممارسة عمله كمراقب للحركة الجوية.

 

إن مفهوم "البناء المتبادل" المستمر هو موضوع وجودي مفضل في روايات دوستويفسكي. في رواية "الإخوة كارامازوف"، يقدم شخصية الأب زوسيما عظة حول حالنا المتداخل، وهي دروس استخلصها بدوره من أخيه ماركل. فعلى فراش الموت، لدى ماركل بصيرة وجودية، أولا كما يقول: "…كل شخص مسؤول أمام جميع البشر عن كل البشر والأشياء". في اعترافه بأن كل خيار نتخذه يغير من الحالة الوجودية العامة، يجب أن يتحمل الشخص المسؤولية عما عليه الأشياء الآن. يقول الأب "زوسيما": "كل شيء يشبه المحيط، في تدفقه وامتزاجه؛ فلمسة في مكان واحد تصنع حركة في الطرف الآخر من الأرض".

 

سرعان ما أنكر والت، بعد تصادم الطائرات، أنه -أو أي شخص آخر- مُلام على ما حدث. وعندما يطلب منه (في الموسم الثالث، الحلقة 1) إلقاء كلمة أمام جمع من طلاب المرحلة الثانوية المرتبكين والحزانى بعد الحادث المروع، تسأل إحدى الفتيات: "أنا أسأل نفسي، لماذا حدث هذا؟ أعني إذا كان هناك إله… لماذا يسمح بموت هؤلاء الأبرياء دون سبب؟"، فيخبر جميع المندهشين أنهم يجب أن "ينظروا إلى الجانب المشرق" (إنها فقط في الترتيب الـ 50 من بين أسوأ الكوارث الجوية في تاريخ الطيران)، ويذكرهم أن "الناس يمضون في حياتهم". يسأل جيسي والت إذا كان يعرف أن والد جين هو مراقب الحركة الجوية المسؤول عن تحطم الطائرة، فأجاب والت: "هذه ليست مسؤوليتك.. هناك العديد من العوامل التي تدخلت هنا؛ إنني ألقي باللوم على الحكومة". يرد جيسي، الذي أصبح الآن أكثر اتجاها إلى التأمل في شخصه وما يفعله (ليس بالضرورة للأفضل): "إما أن تهرب من الأشياء وإما أن تواجهها يا سيد وايت".

  

تزداد مهارة والت في التهرب من دوره في هذه الكوارث المتزايدة، ولكن جيسي كان لديه دائما شعور بكونه "جارا وجودي التأثير". في رواية "الإخوة كارامازوف" يحض الأب زوسيما مستمعيه على توخي الحذر دوما، وخاصة في حضور الأطفال: "كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، انفصلوا عن أنفسكم وراقبوها، وتأكدوا أن صورتكم لائقة. تمرون أمام طفل صغير، حاقدين متفوهين بأشنع الألفاظ، وبقلب غاضب. لكنه رآكم وقد تستقر صورتكم… في قلبه الأعزل. قد لا تعرفون ذلك لكنكم ربما قد زرعتم فيه بذرة شريرة وقد تنمو".

 

    

جيسي حريص بشكل خاص مع الأطفال؛ مثل الصبي الصغير رث الهيئة والمهمل في رعاية سبوج وزوجته المدمنة. يُعلّم جيسي الصبي أن يلعب الغميضة "بيكابو"، ويصنع له شطيرة مارشميلو عندما يقول إنه "جائع". بعد المشهد المروع لانسحاق رأس سبوج تحت صراف آلي مسروق، يحرص جيسي على أن الصبي في مأمن من المشهد، ويتركه متدثرا ببطانية، في انتظار الشرطة. "لديك بقية جيدة من حياتك، يا فتى"، هكذا يقول له جيسي وربما سيكون لديه حياة جيدة بالفعل.

 

لكن لن يكون لوالت مثله؛ في اللحظة الأخيرة في السلسلة، بينما ينهار في مختبر الميث -ترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة- نشعر بقليل من الراحة في المشهد الطويل، والشرطة الآن تنتشر في المبنى. نود أن نبتعد عن هذا الوجه، ولا نزال نتساءل أي انتصارات أو نكسات تدور حولها الأفكار الأخيرة لوالت. وبالعودة للخلف، ربما في الزمن، يمكننا أن نرى الجدارية التي رسمتها جين على حائط غرفة نومها؛ رسمت نفسها تطفو في الفضاء ودُبًّا دمية ورديا يحلق عاليا فوقها.

 

من المريح أن نبتعد عن وجه والت الذي ملأ الشاشة، ولكن ربما لم نكن نريد هذا الارتياح بالقدر الكافي، يمكننا الآن قراءة هذه الجملة التي تؤلفها عناوين الحلقات، كالتالي: "737 Down Over Albuquerque" (تحطم الطائرة ٧٣٧ فوق ألباكيركي). في الحلقة الأولى، كان العنوان "737" يشير إلى حسبة والت أنه يحتاج فقط إلى 737 ألف دولار للخروج من "تجارة صناعة الميث" (والتورية هنا لا تقاوم). وتلك المشاهد الافتتاحية بالأبيض والأسود، التي تضيف كل منها بعض التفاصيل؛ مثل حوض السباحة الخاص بآل وايت والنظارات التي تبدو وكأنها تخص والتر، وكيسَيْ الجثث في الممر (لا بد أنها جثث جيسي ووالت!): نحن -المشاهدين- نبحث دائما عن سلامة -أو مصير- شخصياتنا، حتى تبدد توقعاتنا في النهاية مع الريح. وهذه التوقعات، المثارة فينا قصدا من خلال سير أحداث الموسم الثاني، هي توقعات كاشفة. فرغم أن الحدث يركز بالضرورة على عدد من الشخصيات، فإن هذه الشخصيات تنتمي إلى عالم أوسع. وتصرفات جيسي ووالت وغاس ومايك وجين وهانك وسكايلر وإليوت ووالت الابن -والجميع- في حراك وتطور دائم، وفي كل الحالات "كل واحد منهم مسؤول عن الجميع".

——————————————–

الهوامش:

(1) ماكبث هي قصيدة تراجيدية للمسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير عن القائد الاسكتلندي ماكبث الذي يغتال ملكه دنكن ليجلس على عرش اسكتلندا مكانه.

(2) هي مفهوم أخلاقي في المعتقدات الهندوسية والبوذية انتقل ليصبح مفهوما عالميا. ويشير إلى مبدأ السببية حيث النيّات والأفعال الفردية تؤثر على مستقبل الفرد. وأفعال الفرد تعود عليه بالأثر مهما طال الوقت.

(3) الفيلسوف الدانماركي الذي تنسب إليه مدرسة الفلسفة الوجودية المؤمنة

———————————————–

ترجمة (سارة المصري)

هذا التقرير مترجم عن: Philosophy Now ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان

المصدر : الجزيرة