شعار قسم ميدان

بين السينما والكونغرس.. أيهما فضح شخصية زوكربيرغ الحقيقية؟

midan - انفوجراف
يفتتح المخرج الأميركي ديفيد فينشر فيلمه "الشبكة الاجتماعيّة" The Social Network بحوار طويل يمتد لأكثر من خمسة دقائق بين مارك زوكربيرغ (جيسي آيزينبيرغ) وخليلته التي ستنفصل عنه مع نهاية الدقائق الخمس إيريكا ألبرايت (روني مارا). قيل الكثير عن هذا المشهد والطريقة التي اختار فيها آرون سوركين، كاتب النص، افتتاح الفيلم الذي يروي قصّة إنشاء زوكربيرغ لموقع فيسبوك.

  

حاول زوكربيرغ الوقوف في وجه إتمام الفيلم ثمّ بعد حصوله على ثلاث جوائز أوسكار كانت إحداها عن النص الذي كتبه آرون سوركين كمعالجة لكتاب The Accidental Billionaires، شاهده زوكربيرغ ولم ينل إعجابه. فحين سُئل عن رأيه فيه قال أنّ الفيلم يُظهره كشخص كل ما أراده هو التعرف إلى الفتيات ومن أجل ذلك أنشأ فيسبوك "وهو أمر لا يمت للواقع بصلة لو أرادوا عرض الحقيقة لاضطروا لعمل فيلم أجلس فيه لمدة ساعتين وأنا أكتب الأكواد، وهو أمر لن يجلب لهم أي جوائز"(1)

  

ليس من السهل تتبع الحوار الذي يجري بين زوكربيرغ وإيريكا من المشاهدة الأولى للفيلم. أمامنا شخصين كلّ منهما يحاول التحدث عن أمر لا يهتم الطرف الثاني بالكلام عنه. يسعى كل منهما لسحب البساط من تحت الآخر ونقل "المعركة" الكلاميّة إلى ملعبه ولكنّ دون استجابة من أيّ منهما. تسعة صفحات من الحوار المستمر كتبها سوركين وتعمّد أن يبدأ بها كلّ شيء. موقف لا يضعنا أمام الدافع الحقيقي لإنشاء زوكربيرغ لموقعه (كما ظنّ زوكربيرغ) ولكنه يمسك بأصابعنا ويُشير بها نحو شخصيّة زوكربيرغ ويُخبرنا بثقة كبيرة "هذا هو مارك زوكربيرغ".

        

           

يبدأ مارك الحوار بسؤال "هل تعلمين أن تعداد العباقرة الذين يعيشون في الصين أكبر من تعداد الولايات المتحدة كله؟" يبدو السؤال إشكاليًا ويحتاج لمناقشته بدقّة. بالتأكيد هي لا تعلم ولكن هل هو مهتم بذلك حتى؟ ما غرضه من طرح السؤال. يجيبنا سوركين بعدها مباشرة عندما يطرح مارك سؤاله التالي "كيف تُميّزين نفسك وسط شعب كلّ من فيه عبقري؟" وهو ما يبدو أنّه الهاجس الوحيد الذي يُسيطر عليه في هذه المرحلة من حياته. تُلقي ايريكا تعليقات حول النوادي الاجتماعيّة ورياضة التجديف وكلاهما لا يبدو مارك من رواده ولا حتى من المؤهلين لذلك بدنيًا أو روحيًا وهو ما يُشكل له عامل ازعاج كبير قد يصل ربما إلى عقدة نقص. بينما يتحلى هو بذكاء مُضاعف عمن حوله ولكنه في مقابل ذلك لا يحظى بأي من امتيازات الشباب الرياضي والذي ينتمي لنوادٍ اجتماعية مرموقة.

    

كلّما عادت ايريكا للحديث عن شكل الشاب الذي تراه مُثيرًا يعود هو للحديث عن تميّزه العقلي. يستمر الحوار بالتصاعد تدريجيًا حتى تبدأ نبرة ايريكا بالتغير فتُصبغ بشي من العدوانيّة عندما يستفزها مارك قائلًأ "لو استطعت دخول أحد تلك النوادي سأكون قادرًا على اصطحابك للفعاليات المختلفة وسأقوم بتعريفك بأشخاص لا تُلاقينهم في الوضع الاعتيادي" بدا هذا مُهينًا بالنسبة إليها وكان ذلك عندما قررت التخلي عنه "ستقضي عمرك وأنت تعتقد بأن الفتيات لا يحبونك لأنك مهووس بالعلم، وهو أمر غير حقيقي، لن تُعجب بك الفتيات لأنك سافل فحسب". تعود كاميرا فينشر لزاويتها الواسعة مع مغادرة ايريكا المكان ثم يبدو مارك وكأنه على وشك البكاء قبل أن يُغادر هو أيضًا.

    

undefined

  

حوارات في الكونغرس

في العاشر من أبريل الماضي ظهر الملياردير الشاب مارك زوكربيرغ للاستجواب أمام مجلس الشيوخ والكونجرس الأمريكي. كانت فضيحة كامبريدج أناليتيكا قد تحولت لحديث العالم بعدما ثبُت تورط هذه المؤسسة في سرقة بيانات الملايين من مُستخدمي فيسبوك في الولايات المتحدة واستخدامها بشكل غير شرعي من أجل دعم حملة الرئيس الحالي للبلاد دونالد ترمب في انتخابات عام 2016.

   

راقب العالم بشيء من التوتر يومين من الاستجواب أمام 44 من أعضاء الكونغرس الأمريكي والتي صار من الواضح معها أمام الجميع أن بيانات المستخدمين وخصوصياتهم لم تكن تحت السيطرة الكاملة لفيسبوك خلال الأعوام الماضية. دخل زوكربيرغ للقاعة التي انتظره فيها عشرات الصحافيين ومكتب خشبي مع كرسي وحيد. ارتدى بدلته المتواضعة ولكنه ارتدى معها وجهًا بلاستيكيًا بدأ من خلاله حديثه "أنا من أنشأ فيسبوك، أنا من يُديره وأنا المسؤول عما جرى هنا وأنا مُلتزم بتحمّل مسؤولياتي"

    

 بدا زوكربيرغ مُرعبًا من فرط جموده في لحظات معيّنة ولكن ظهر مُرتبكًا في غيرها. استطاع الإجابة بذكاء على غالبيّة الأسئلة التي وُجهت إليه وعندما لم يتمكن من اجابة بعضها قال بكل وضوح "ليس لديّ علم، سأجعل فريقي يتحقق من ذلك".

   

مع ذلك لم يستطع مستخدمو فيسبوك تجاوز المشهدية التي اتصف بها حضور زوكربيرغ إلى جلسة الاستجواب العلنيّة تلك. بالطبع يُعتبر هذا الظهور المُباشر الأول أمام لجنة كهذه للشاب الذي لم يتجاوز 33 عامًا بعد. استمر لساعات على مدار يومين دون أن يطلب استراحة واحدة، وبعدما كانت أسهم فيسبوك في خطر مُنذ انتشرت الفضيحة عادت للانتعاش بزيادة وصلت نحو 5% ارتفاعًا في السوق المالي، ولكن هل كان هذا هو المقصد الوحيد من وراء حضور زوكربيرغ لهذه الجلسة، الحفاظ على إمبراطوريته المالية؟

       

undefined

        

كيف تُساعدنا السينما على فهم زوكربيرغ؟

لإجابة أيّ من الأسئلة المتعلقة بشخصيّة مارك زوكربيرغ لن يكون هناك أفضل من إعادة مشاهدة فيلم الشبكة الاجتماعيّة. يأخذ سوركين في كتابته لتفاصيل هذه الشخصيّة المشاهدين إلى داخل عقل زوكربيرغ، الرجل الذي يحتل مساحة من حياة أكثر من 2 مليار مستخدم للفيسبوك اليوم، يرسم تفاصيل تلك الشخصية الضاربة في غموضها واسطوريتها والتي تملك هالة لا تخفى على أحد (كيف لا وقد أعلن زوكربيرغ عن تعامله مع حكومات أقوى دول العالم) شخصيّة لم تمتلك من الملامح ما يكفي لسبر أغوارها ولكنها على يد سوركين صارت من لحم ودم.

   

شخصية يحكمها الهوس بما تفعله و نرجسية تُغلف كافة تحركاتها. لربما كان سوركين يطرق بأصابعه على أبواب منازلنا عندما قدّم لنا شخصيّة آمنت بحلمها وبتحول هذا الحلم من مجرد فكرة صغيرة إلى أكبر شاغل للعالم اليوم، شخص واحد فقط آمن بمشروعيّة ما فعله حتى عندما أخطأ، صدّق بحقّه ليس فقط بخلق مادة للتواصل بين الآخرين ولكن أيضًا بهتك خصوصيتهم أحيانًا وإن لزم الأمر. آمن زوكربيرغ أن ما يود فعله هو حقّ له، وله وحده، تمامًا كما ظهر في الحوار الافتتاحي للفيلم عندما انتصر لعبقريته مقابل شعوره بالنقص في مجالات أُخرى؛ عبقريّة تُعطه الحق لأن يكون أفضل من أي شخص آخر ولكنها لم تكن لتأخذه لأيّ مكان لولا أن حمتها عزلته (الروحية والجسدية) وتوقه للوصول.(2)

        

undefined

    

وُلد زوكربيرغ في نيويورك ودرس في هارفرد حيث أسس موقعه. بدأ البرمجة في سن مبكرة وينتمي لعائلة يهودية لكنه يعتبر نفسه ملحدًا، نجده طيلة الفيلم يتحلى بشخصيّة معقدة للغاية بل من الصعب أحيانًا فهمها رغم صراحته المُبالغ بها. لا يجد مانعًا من تقويض علاقاته الاجتماعيّة في مقابل الحصول على حقه بالنجوميّة. لا يبدو أيضًا أنّ اهتمام زوكربيرغ الأساسي هو في تجميع الأموال وبناء ثورة لا مثيل لها فقد أثبت الملياردير الشاب أنه على استعداد للتخلي عن مبالغ خياليّة من ثروته من أجل دعم مؤسسة خيرية أو نظام تعليمي في ولاية لا يمت لها بصلة وهو الأمر الذي يدركه سوركين في كتابته لشخصيته في الفيلم عندما يتتبع مسيرته من خلال علاقته من أولئك الذين أحاطوه (رفض زوكربيرغ وضع إعلانات على موقعه في البداية) الأخوين وينكلفوس مثلًا الذين يقبل بتسوية معهم وصلت إلى 65 مليون دولار مقابل التنازل عن حقهم في المشروع وبالتالي نفي ادعائهم بأنهم أصحاب فكرة "فيسبوك" فيقول "هم امتلكوا فكرة وأنا جئت بأفضل منها".(3)

    

كان "فيسبوك" بالنسبة لزوكربيرغ هو الهاجس الوحيد في حياته، أن يمتلك هو، وهو وحده، الحقّ بهذا الانجاز الضخم والذي بات يتغلغل في كافة مناحي الحياة الانسانيّة اليوم. لا يسعى زوكربيرغ للتحول إلى نجم شبّاك، بملابس فاخرة وقصّة شعر مثيرة وتصريحات ناريّة، ولكنه يسعى لأن يكون "نجمًا" حقيقيًا، نجمًا بمعنى الكلمة الحرفي، أن يكون مُشعًا مُنيرًا طيلة الوقت وصعب المنال في الآن ذاته، وكيف لذلك التحقق؟ كيف من الممكن أن يُرضي هذا الرجل غريزته الوصولية؟ الإجابة في كلمة واحدة: فيسبوك. الموقع الذي ما ان شعر بتهديد حوله، ظهر أمام الملايين دفاعًا عنه.

     

undefined

   

رفض زوكربيرغ أن يُشاركه أحد الحق في امتلاك فيسبوك حتى لو أدّى ذلك للتخلي عن صديقه الوحيد في الفيلم إداورد سافرين (أندرو غارفيلد) بعد أن استفاد منه في دعم المشروع ماليًا في مراحله الأولى وهو ما حذى به للتقرب من شون باركر (جاستن تمبرلاك) الذي اعتبره قدوة في تلك المرحلة من حياته خصوصًا مع النجاح الذي وصل إليه بمشروع نابستر (Napster) الذي أسسه باركر وصار علامة على الانترنت ثمّ تخلى عنه هو أيضًا بعد أن استفاد منه قدر الإمكان. لم يكن زوكربيرغ يُفكر ويتصرف بناء على موقعه كصديق ولكن اعتمادًا على حقيقة مغايرة تمامًا؛ حقيقة أنه المُنشئ والمبتكر والمالك الوحيد لموقع فيسبوك.

  

يشير هذا التعامل مع العالم إلى شخصيّة زوكربيرغ أكثر، الملياردير العصامي الذي لا يجد مانعًا من قول ما يحلو له وإن بدا وقحًا أحيانًا سواء مع من هم في مكانة اعلى منه أو مع أولئك الذين يكبرونه سنًا، في أحد المشاهد من جلسات المراجعة القانونية لقضيّة ملكيّة فيسبوك المرفوعة ضده يقول لأحد المحامين "إن كان زبائنك يريدون الجلوس على كتفي ووصف أنفسهم بطوال القامة فأنا أرى أن من حقّهم التجربة، ولكن هذا لا يعني أنني على استعداد للجلوس هنا والاستماع لمجموعة من الكاذبين" وهو واحد من أكثر المواقف تعبيرًا عن شجاعة زوكربيرغ التي قد يراها البعض "وقاحة" أو عدم اكتراث ولكنها في نهاية المطاف منحته ما لم تُعطه لغيره.(4)

 

     

كان ولا يزال زوكربيرغ تواقًا لخلق تواصل شخصي مع العالم ولكنه ما ينفك يعود إلى عزلته مجددًا كلما وجد الزميل او الصديق أو الحبيبة. عزلة لا تدعمها سوى وصوليته وإيمانه بأنّه الأوحد، لينتهي به المطاف في واحد من أكثر المشاهد الختاميّة تعبيرًا، عندما يُرسل طلب صداقة لحبيبته السابقة ويستمر في تحديث الصفحة بلا ملل بانتظار موافقتها لهذا الطلب على الموقع الذي أنشأه هو من غرفته الضيقة التي يستمر بالعودة إليها وحيدًا.

  

فيما يبدو فيلم الشبكة الاجتماعيّة ظاهريًا عملًا عن قصة تأسيس موقع فيسبوك ولكنه لا يُقدّم نفسه على ذلك النحو البتة، فرغم الحوارات الكثيرة فيه المدججة بالمعلومات حول الموقع وطريقة تأسيسه ولكن التعاون النموذجي هنا بين سوركين وديفيد فينشر خلق شريطًا إنسانيًا كبيرًا عن الطريقة التي يُفكر بها جيل جديد من الشباب الذي يُطارد التقنية كما تُطارده هي بدورها، ساعيًا عبر أيّ وسيلة للوصول إلى حلم أو أكثر من مجرد حلم، فيلم يعتمد على تقديم المشاعر والأحاسيس كنموذج للتواصل الحقيقي الذي قد يصنع موقعًا للتواصل الاجتماعي بعظمة "فيسبوك".

    

كان زوكربيرغ هو العقل المدبر وراء هذه الفكرة لكنه لم يكن ليحقق أيّ جزء منها لولا بعض الأشخاص الذين أحاطوا به وأساء (او أحسن) هو استخدامهم. يحتاج المرء إلى توليفة من الأخلاق والعقلانية والعاطفة يصعب على الإنسان إحسان مزجهم معًا ولكن بالنسبة لزوكربيرغ كان كلّ شيء مختلف. هذا الاختلاف الذي لا يتمادى سوركين كثيرًا في أسطرته فهو ضعيف أيضًا كما يظهر في بعض المشاهد في الفيلم كما كان متكبرًا ومتعاليًا من أجل التغطية على هذا الضعف أحيانًا. آمن بنفسه وبأن لا أحد غيره وكان هذا كافيًا بالنسبة إليه.

   

يمكننا القول أنه من الصعب عدم التأثر بشخصية مثل مارك زوكربيرغ الذي أحاط به رجال الكونغرس والصحفيون من كل جهة قبل أيّام في بثّ مباشر على كافة القنوات العالمية و على فيسبوك نفسه فمما يُثير التأمل في شخصيّة زوكربيرغ ليس نجاحه فحسب ولكن ما سبقه من تمكين وإيمان واقتناع بأن رأسه لا يزال قادرًا على البروز من بين كل تلك الجموع الطامحة للظهور، من بين "شعب كلّه عباقرة" كما قال في حواره الأوّل في الفيلم.